بسم الله

أربع نقاط متعلقة مسألة ستثيرها النقطة الأولى :

أولا : في سورة مريم ، نجد قوله تعالى : " فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا "
بناء على الواضح من الكتاب الكريم ، وبناء على المسلم به من التاريخ ، فإن مريم لا يمكن أن تكون اختا لهارون لفارق الزمان بينهما ، ومع ذلك ربط القرآن بينهما . لماذا ؟ والأهم أن ذكر هارون هنا ورد في مقام تهمة وذم كأن لبني إسرائيل انطباع عنه سيء وهذا مثير للتساؤل .
ثانيا : في سورة القصص ، نجد قوله تعالى على لسان موسى حين أرسله الله إلى فرعون : " وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ " وتكرر المعنى بنحوه في سورة الشعراء .
اللسان في الاستعمال القرآني هو اللغة ، ومعلوم للجميع بناء على واضح الكتاب أن موسى نشأ وتربى في كنف آل فرعون ، وهذا يعني أنه سيكون فصيحا في لسانهم لأنه لسانه بحكم النشأة والتربية . وسيكون بلا شك أفصح من اخيه هارون الذي لم ينشأ ويتربى في آل فرعون كما هو شائع معروف . لكن آية سورة القصص تورد أحد أسباب طلب موسى من الله تعالى أن يرسل معه اخاه ، سبب غير منتظر ، وهو أن هارون أفصح من موسى لسانا في لغة آل فرعون ، وهذا عكس المفروض . كيف ؟ ونضيف أمرا يوحي به التعبير القرآني وهو أن موسى استعان بأخيه لسبب آخر يصعب ملاحظته لأنه مستبعد من الخاطر تماما ، وهو أن لهارون دالة عند آل فرعون أو مكانة أو هيبة أو قيمة أو أي شيئ يمكنه من جعله "ردءا" لموسى . وهذا امر اكثر إثارة للتساؤل .
ما الشيء الذي يملكه هارون ليجعل منه أفصح من موسى وليدفع موسى إلى طلب مساعدته ليكون له ردءا ، ما هذا الشيء الذي يملكه هارون ولا يملكه موسى ؟؟

ثالثا : في سورة البقرة ، نجد قوله تعالى : " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم " .
نحن نعلم كيف نجا موسى من هذا البلاء العظيم ، لكن : كيف نجا هارون ؟ لماذا لا يرد ذكر لهذه المسألة بإطلاق وكأن هارون غير معني بالأمر من أصله ؟

رابعا : حين ذهب موسى لميعاد ربه أربعين ليلة استخلف في قومه اخاه هارون ، وحين عاد موسى ووجد قومه يعبدون العجل ، ماذا حدث ؟ في سورة الأعراف نجد قوله تعالى : " وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "
هارون هو أخو موسى قائد بني إسرائيل ومنجيهم وفخرهم وكبير أنبيائهم ، وهو زيادة على كونه اخو أعظم أنبياء بني إسرائيل عند بني إسرائيل فهو أيضا نبي مرسل مثله . ومع ذلك نجد لدى بني إسرائيل الجرأة لاستضعاف هارون وحتى محاولة قتله حين نهاهم عن العجل وعبادته . من أين أتت هذه الجرأة ؟ واضح أن هارون لا قيمة له عند بني إسرائيل ولا اعتبار مع أنه أخو موسى وأنه نبي مرسل ، لماذا ؟؟ نحن نتحدث عن محاولة قتل لا نتحدث عن اختلاف في الرأي . لماذا هذا الموقف الغريب من بني إسرائيل تجاه هارون ؟؟؟؟

هذه هي النقاط الأربعة التي في مجملها تثير إشكاليات تجاه شخصية واحدة وهي هارون عليه السلام . وسأبدأ بالإجابة على كل هذه الإشكاليات إنطلاقا مما تعطينا إياه نقطة خامسة كمنطلق .

خامسا : في الآية السابق ذكرها من سورة الأعراف نجد أن هارون خاطب موسى ب" ابن أم " كأن أباهما ليس واحدا ، فهل هذا صحيح ؟ إن كان صحيحا فمن أبو هارون ؟ يبدأ الحل من هنا .

يقول تعالى كما سبق وذكرنا : " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم " .
استحياء النساء لكونه عذاب سيء وبلاء عظيم فهو ولابد اغتصابهن . وام موسى من بني إسرائيل ، نحن نفترض أنها اغتصبت هي أيضا ، و نفترض أن أبا هارون الذي اغتصب أم موسى وقهرها قرر أن يحتفظ بحملها منه ، فكان الوليد الناتج هو هارون ، أخو موسى لأمه . فبناء على هذا الفرض فهارون ليس إسرائيليل بل فرعونيا لكون أبيه من آل فرعون .
نريد الآن اتخبار هذه الفرضية .

أولا : موسى مع كونه تربى ونشأ في كنف آل فرعون إلا أنه ليس فرعونيا كأخيه هارون ، ومن الطبيعي أن يكون هارون أفصح من موسى في لغة هي لغته ، ومن الطبيعي أن يكون هارون ردءا لموسى لكونه من آل فرعون من أنفسهم ، بعكس موسى الذي يعلم آل فرعون جميعا ومنذ البداية أنه ليس منهم . " وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ "

ثانيا : من الطبيعي أن لا يكون هارون معنيا أساسا بمسألة ذبح أبناء بني إسرائيل لكون فرعوني وليس إسرائيليا . ولهذا كانت نجاته بحكم تحصيل حاصل ولا لزوم لذكرها .

ثالثا : من الطبيعي أن لا يكون لهارون اعتبار عند بني إسرائيل ، فهو فرعوني من القوم الذين ذبحوا أبناءهم واستحيوا نساءهم . لا يمكنهم لهذا السبب أن يحبوه ، الطبيعي أكثر أن يحقدوا عليه ويحاولوا قتله . وليلاحظ الجميع أن هارون حين اخبر موسى بأن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه لم يصدر عنه ما يفترض أن يصدر عنه من دهشة لجرأة بني إسرائيل على اخيه . ولكن لكون هارون فرعوني ، فموسى لم يندهش ولم يتفاجأ بهذا .

رابعا : بنو إسرائيل يرون هارون فرعونيا ويرونه بحكم الواقع ابن نتيجة علاقة محرمة ، ولكونه فرعونيا يحقدون عليه فلا نجد لديهم أي رأفة به أو إعذار له ، نظرتهم إليه نظرتهم إلى متهم في عرضه وشرفه وأصله ومنبته . هو متهم اخلاقيا عندهم . وقد انطبع هذا وترسخ وأصبح مثلا لديهم . لهذا جاء ذكره في سياق رمي مريم في شرفها ، هم لا يسألون ليعرفوا ، هم قرروا أن مريم أصبحت هارونية لا شرف لها ، قرروا وانتهى الموضوع لهذا لم يترددوا في نسبتها لهارون كأنها اخته : " فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا " انتهى الموضوع وثبتت التهمة : " يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا " وما دامت التهمة ثابتة فهي اخت هارون . هنا كأننا امام مثل من امثال بني إسرائيل يضربونه حين يناسب المقام .

وختاما ، وبناء على ما سبق ، فقد أختار الله تعالى رجلا متهما في نسبه نتيجة لعمل لا ذنب له فيه ، اختاره رسولا نبيا .
أتخيل أن تلك الشريحة من المجتمع المنبوذ لدينا ممن يشبه وضعهم وضع هارون في بني إسرائيل ، أتخيل أن الواحد منهم حين يتقدم لخبطة فتاة بنت حسب ونسب ويردونه لا لسبب إلا لأنه ابن غير شرعي ، أتخيل أنه سيبصيح بهم : أتحسبون أنكم أفضل من هارون ؟
هذا الطرح الذي أوردته هنا ، سيكون دعما حقيقيا قويا وفعالا لدى كل من هو منبوذ من مجتمعنا لذنب لم تجنه يداه .

تخيلوا معي .