قطارات تسافر إلى الماضي
غسان شربل الحياة - 20/04/09//

صديقي عربي قلق. ينظر الى الإقليم فينتابه التوتر. قال إنه نام في طهران التي لا يعاديها لكنه لا يؤيد سياستها في حجز الأوراق على الأرض العربية. وإنه شعر خلال إقامته أن ايران تملك برنامجاً طويل الأمد سخَّرت له كل امكاناتها. وإن من حق ابن طهران أن يحلم بأنها ستكون أفضل بعد عشرين عاماً وأن وضعه فيها سيكون أفضل.

وصديقي جوّال. نام في اسطنبول وراح يقرأ أوضاع الإقليم من هناك. ويحصي حركة الزائرين والوساطات القريبة والبعيدة. ونجاح أنقرة في مد الخيوط في كل الاتجاهات. والقدرة على التحدث الى الجميع. وشعر بأن من حق ابن اسطنبول أن يشعر بأن بلاده ستكون أفضل بعد عشرين عاماً وأن وضعه فيها سيكون أفضل. تحدث عن عصرنة الاقتصاد والتعايش تحت قبّعة أتاتورك. وإتقان الرقص مع الأزمات مع إعداد المهدئات والعلاجات.

يحكي الصديق بتوتر وحسرة. قال إن العواصم العربية التي يزورها لا تعطيه الإحساس الذي شعر به في طهران واسطنبول. لا يستطيع القول إن تلك العاصمة العربية ستكون أفضل بعد عشرين عاماً وإن وضع سكانها سيكون أفضل. حكى عن غياب المؤسسات ومستوى التعليم والارتجال في التخطيط والخوف من الآخر وأشياء أخرى.

لا أريد الإغراق في التشاؤم. والحقيقة أننا تعبنا من مشاعر الإحباط واليأس. ومن الميل الجاهز الى الندب والرثاء. لكن استوقفني أن كثيرين ممّن ألتقيهم في هذه العواصم يعتقدون بأنها كانت أفضل. وأرحب. وأكثر انشداداً الى المستقبل. لا يتعلق الأمر فقط بالهجرات الريفية المتسارعة الى المدن والعواصم. ولا بغياب البنية التحتية القادرة على توفير الخدمات للمحتشدين. ولا بالمدارس العتيقة شكلاً وروحاً. ولا بالمناهج المنتمية الى عصور تقاعدت. ولا بالهوة السحيقة التي تفصل بين الحكم والناس. إن الأمر يتعلق بكل هذه العناصر وقبلها بضمور فكرة التقدم. بغياب الفكرة الجاذبة والمقنعة والمنفتحة والقادرة على استقطاب القلوب والعقول والإرادات.

جلتُ قبل أيام في عاصمة عربية مستفسراً. شممت رائحة الماضي ولم ألمح إشارات الى المستقبل. نسبة الأمية مرتفعة في هذا الحي من القرية الكونية. حال المرأة مزرية على أكثر من صعيد. معدّل البطالة قياسي. حديث الفساد فاكهة كل لقاء. شاب يحلم بالهجرة الى الغرب وطموحه أن يتسلل الى «عدوّة الشعوب». وشاب استسلم للإقامة ويرى الضمانة في قبيلته أو منطقته أو مذهبه ويبتسم حين تسأله عن الدولة ومؤسساتها وقضائها والقدر. وشاب ناقم تستدرجه أفكار موصدة وتحوّله انتحارياً حتى وإنْ غاب الحزام الناسف. لا تجرؤ، في وضع من هذا النوع، على توقع أن تكون المدينة أفضل بعد عشرين عاماً. ينتابك شعور بأن المحطات المقبلة ستكون حروباً أهلية أو اقتتالاً مذهبياً أو مناطق متناحرة تتسابق على حطام دولة فاشلة.

لا أريد جرح مشاعر أي قارئ من أي جنسية كان. أكتب من بيروت. حاولت أن أتابع الاستعدادات للانتخابات النيابية. طاردت المرشحين على الشاشات واستمعت الى خطبهم العصماء وبرامجهم «الشفافة». رصدت حركة تشكيل اللوائح وعمليات التسلّل والتسوّل وولائم الذل.

لا أريد الوقوع في تعميم صارم وظالم. لكنني وبأمانة شعرت بالخجل. كنت أعتقد أن الوضع أقل سوءاً إنْ لم أقل أفضل. رائحة الانتهازية تزكم الأنوف. فتيان بلا تاريخ يتحدثون عن تاريخهم المشرق. وصوليون يغتصبون الشاشات والبلاد والمقاعد. وشعرت أن البرّ ينجب من القراصنة أضعاف ما يرتكبه البحر.

تذكرت صديقي المتوتر. يصعب الاعتقاد بأن الوضع سيكون أفضل بعد عشرين عاماً. وان لم تصدقني عزيزي القارئ اطرح على نفسك السؤال عن عاصمتك أو مدينتك. إن مدننا الحالية قطارات تقل ركابها الى الماضي.