مرحبا
الموضوع السابق عن ظاهرة ازدواجية الشخصية اثار اهتمامي للغاية بالشخصية، ان يكون هناك شخصيتين في جسد واحد يعني عمليا اضطرار المنظومة الحقوقية للتعامل معهم على انهم اثنين. الايعني ذلك ان الانسان هو شخصيته؟ كيف سيعاقب الله هاتين الشخصيتين في الجسد الواحد؟

ماذا تعني الشخصية، وكيف امكن تحديد خصائصها وتوثيق ذلك؟ والى اية درجة توجد خصائص فردية وخصائص قومية وخصائص محلية، ومالذي يؤدي الى خلقهم؟

في محاولة للرد على هذه التساؤلات اطلعت على عدد من المصادر وجمعت واجمع منها معلومات مثيرة واثق انها ستنال اهتمامكم، ومنها سأطرح مابمتناول يدي على التوالي لعرض وجهة نظركم حولها..



اختصاصيي علم النفس يقومون بتحديد الشخصية من خلال خمسة مواصفات اساسية، والان يقوم علماء لاعصاب بربط هذه الخصائص مع وظائف الدماغ. عند الطموحين جدا تكون منظومة "التشجيع" الدماغية حساسة للغاية. حتى علماء بيلوجيا التطور بدؤا الان في الاهتمام بأسباب التنوع الواسع في شخصيات البشر. انهم يشيرون الى ان الشخصية قدمت افضليات في الظروف المختلفة التي مر بها الانسان عبر عصور، وبالتالي فهي لاتختلف عن الافضليات الجينية.

لماذا يوجد اشخاص قادرة على تحمل ظروف تتطلب المسارعة الى حضور الاجتماعات في مختلف انحاء العالم في ذات الوقت الذي عليهم المحافظة على الاتصال بشبكة واسعة من الاصدقاء وعلاقات العمل وعدم اهدار فرص إقامة العلاقات الشخصية، ولماذا يوجد اشخاص تحبذ حياة رتيبة تسمح لهم بالعناية بعملهم الرتيب ومساعدة العائلة والاصدقاء في ذات الوقت الذي يسمح لهم بإبداء الاهتمام بالشريك والمناسبات والاطفال؟

في مجال ابحاث الشخصية يتفق العلماء على ان اختلاف الشخصية بين البشر يمكن وصفه من خلال خمسة قواعد اساسية، يختلف منسوبها بين البشر، الامر الذي يخلق الاختلاف. النظرية عن هذه الخصائص الخمسة او الاطياف الخمسة مبنية في الاساس على بحث علمي نفسي وجرى تطويرها بالمعطيات التي ربطتها بمناطق محددة في الدماغ. بواسطة التصوير الاشعاعي للدماغ يمكن للباحثين اليوم رؤية كيف ان بعض افسام الشبكة العصبية في الدماغ بسهولة اكثر تتنشط عند بعض الاشخاص بالمقارنة مع غيرهم، والتجربة برهنت كيف ان هذه الشبكة تؤدي الى هذه الاطياف الخمسة الاساسية للشخصية البشرية. إضافة الى ذلك أشار بيلوجيي التطور الى وجود مايكفي من الاسباب في تاريخ التطور للقول انه في وعاء الانسانية تطورت شخصيات متعددة.

نظرية الخصائص الخمسة والتي تسمى "Big Five", تقوم بتعريف الشخصية على ضوء درجة الخصائص النوعية الخمسة التالية:
الانفتاح، الاستعداد المتحفز، الثقة، الجاذبية والتفتح. جميع البشر لديهم مقدار من هذه الخصائص، ولكن عند كل انسان تنمو مقادير مختلفة منها، تحت تأثير الظروف الذاتية والبيئية والتركيبة الثقافية للجماعة، في النتيجة مقدار المجموع يقرر مدى الانسجام التي تحققه لحاملها، كما تعطي المميزات القومية على العموم.

الانفتاح:
الناس الاجتماعيين يهتمون بالانفتاح على الاخرين ولديهم قدرة على إقامة العلاقات لديهم منظومة تشجيعية فعالة في الدماغ تحرضهم على ذلك. مادة الدوبامين، تقوم بوظيفة الناقل العصبي في منظومة المكافأة الدماغية مما يحفز مشاعر طيبة من معايشاتنا. وهذه المادة الهرمونية يجري انتاجها في منطقة Venterala tegmentala ويجري إطلاقها ( من بين مناطق اخرى) في منطقة nucleus accumbens. عند الاشخاص الذين يملكون اعلى قيمة من الانفتاح يزداد مستوى الدوبامين في المنطقة اعلاه بالمقارنة مع المتوسط العام، عندما يشعرون بمشاعر طيبة، ولهذا السبب يسعون بإستمرار لخلق هذه المشاعر من خلال خلق فرص كسب المال والجنس والنجاح.

الاستعداد المتحفز:
الشخص الذي يملك كمية كبيرة من الاستعداد المتحفز كما لو كان على ابواب الخطر يكون فص الامغدالا amygdala, حساس وفي بعض الاحيان اكبر من المتوسط. فص الامغدالا في اسفل الدماغ من منطقة مسؤولة عن المشاعر. في الحالات المحفوفة بالمخاطر يقوم الامغدالا بإرسال المعلومات الى الهيبوتالاموس الذي يتحكم بالمنظومة العصبية للاعجاب، الذي بدوره يقوم بضخ الادرينالين الى الجسم والى مراقبات الكورتيكس الذين يقومون بتحليل المحفزات القادمة. بهذا الشكل نصبح في وضعية التحفز لرد الفعل.

الثقة:
الثقة والمصداقية ترتبط عصبيا بالجبهة حيث تقع منطقة dorsolaterala prefrontala cortex. هذه المنطقة هي التي تتحكم بالوظائف العليا. مثلا هنا يجري اتخاذ القرار فيما هو جيد او سئ ونزن ماسيترتب على قرارنا من نتائج. وهنا يتحدد الهدف، وكيف سنسيطر على غرائزنا.

الجاذبية والتفهم:
القدرة على خلق المشاعر والاحساس بمشاعر الاخرين والتفاعل معها لايمكن تتبعها الى منطقة محددة في الدماغ وانما مرتبطة بالشبكة العصبية المنتشرة على نطاق العديد من مناطق الدماغ. احدث الادلة تشير الى تعاون مابين orbitofrontala cortex وهي منطقة مسؤولة عن نشوء القرار، وبين منطقة mediotemporala وهي منطقة تتعامل مع المشاعر والذاكرة.

التفتح:
الاستخدام الفعال لكل موارد الدماغ يطلق عليه عادة انتلجينس، وبعض المختصين اشاروا ان الخاصية الخامسة هي الانتلجينس. غير ان الكثير من الدلائل تشير الى ان الانفتاح الذي يمثل البعد الخامس ليس انتلجينس والقدرة على استغلال موارد الدماغ بفعالية ولكنه ايضا القدرة على ربط الامور ببعضها والاستنتاج.

تحديد هذه السمات الخمسة كأطياف للشخصية ليس مجرد توقع او اقتراح. النظرية جرى بناءها على طريقة احصائية تسمى " تحليل العوامل". هذه الطريقة عبارة عن تحليل رياضي لحساب مقدار التطابق مابين المعطيات المختلفة. هذه الطريقة تتلخص في الوصول الى نتائج تحدد انه " إذا كانت A موحودة فإن اختمال وجود B عالي جدا". بهذا الشكل يمكن ايضا حساب مقدار احتمال عدم وجود عامل إذا كان عامل اخر موجود.

وكبقية الطرق الاحصائية فإن طريقة تحليل العوامل تزداد دقة كلما ازدادت الملاحظات، وعمليا جرى جمع ملايين الملاحظات الحسابية التي تمس الشخصية الانسانية. بشكل مبسط وملخص يمكن القول ان علماء النفس وبمساعدة طريقة التحليل حسبوا ان القيمة الاحتمالية عالية جدا لان يكون الشخص الذي يملك علاقات جنسية متعددة يملك عامل شدة الطموح للتطور في عمله، تماما كما ان الشخص الذي يملك القدرة على التفهم ومعايشة مشاعر الاخرين غالبا يملك علاقات مستقرة. بنفس الطريقة يمكن حساب العوامل التي نادرا ماتجتمع مع بعضها.

منذ عام 1933 جرى ذكر نظرية " العوامل" الخمسة للمرة الاولى، من قبل عالم النفس I.I. Thurstone, والذي كان من رواد علم النفس ، بما فيه، في مجال قياس الشخصية. على مدى الثمانين سنة التي مضت منذ ذلك الحين جرت العديد من التجارب لتجربة الموديلات الموضوعة. من بين الباحثين كانت تجارب عالمين النفس الامريكيين Paul Costa & Robert McCrae, ذات اهمية كبيرة حيث قدمت الكثير من المعطيات التحليلية التي انتهت بتأكيد ترجيح " الخصائص الخمسة" المختارة. إضافة الى ذلك قاموا بتطوير تجارب الشخصية "Personality Inventory, NEO PI", وهي موديل لقياس الابعاد الخمسة للشخصية، والتي تعتبر اليوم احدى اكثر الطرق دقة.

باول كوستا وروبرت ماكراي برهنوا على ان هذه العوامل الخمسة مستقرة عبر الزمن، وانها تظهر في موديلات الشخصية الاخرى المبنية على قاعدة تحليل العوامل، إضافة الى انهم يظهرون لدى جميع البشر بغض النظر عن العمر والجنس والخلفية القومية، وهناك شئ وراثي مرتبط بهم. على قاعدة ابحاث كوستا وماكراي يقدم الاختصاصيين موديل " العوامل الخمسة للشخصية" على انها افضل مؤشر على ماتتكون منه الشخصية الانسانية.

الان يظهر وكأن وجود الاطياف الخمسة للشخصية سيحصل على دعم الابحاث الجديدة في مجال الاعصاب، فكل الدلائل تشير الى ذلك على الرغم من انه لازالت قطعة صغيرة من الصورة في طور الاكتشاف قبل تحديد كامل الخريطة العصبية للشخصية، بدقة. يشير العالم الانكليزي Daniel Nettle, الى ان الجديد في ماتم التوصل اليه " انه الان يمكن ربط الخصائص الشخصية بما يقابلها من الشبكة العصبية للدماغ، بحيث ان مانصف انفسنا به يوجد مايقابله ، فيزيائياً، في الواقع".

فقط في السنوات العشرة الاخيرة تمكن العلماء من البدء بتحديد الشخصية عصبياً. منذ عام 1999 تمكن العالم Richard A Depue من جامعة كورنيل والعالم Paul F Collins من جامعة اوريغان، بوصف ردود افعال منظومة المكافأة عند التحفيز في دماغ شخص يتميز بقوة خاصية " الانفتاح" على الاخرين، بالذات في منطقة وسط الدماغ وشبكتها العصبية حول منطقة nucleus accumbens. التحفيز كان بواسطة السكر والمال والمخدرات او صور ذات ايحاءات جنسية. ردود دماغ شخص التجربة كانت اقوى بالمقارنة مع شخص اخر يملك قيمة اقل لخاصية " الانفتاح". الاعصاب في هذه الاقسام من الدماغ تستخدم النيتروترانس ميتترون دوبامين، من اجل نقل المعلومات، ولذلك اصبح الدوبامين معروف بكونه هو المكافأة التي يطلقها الدماغ. هذا الامر يقدم التفسير العصبي لسلوك الشخصية المنفتحة واسباب سعيها لاقامة العلاقات الايجابية.


يتبع..