أبو النور
عضو مشارك
المشاركات: 36
الانضمام: Oct 2009
|
مع المفكر الصادق النيهوم ( 4 )
السادة الكرام
تحية , و بعد
إليكم المقال الرابع للمفكر الفقيد الصادق النيهوم . يقول المقال:
مصطلح { الديموقراطية } في القاموس السياسي المعاصر يعني رسميا (( تعدد الأحزاب , و حرية السوق , و ضمان الملكية الخاصة )) و هو تعريف اكتسب لنفسه مكانة الوصايا العشر في دول الغرب منذ تاسيس الولايات المتحدة على الأقل . و تحول الآن - منذ عهد غورباتشوف - الى وصفة طبية لعلاج امراض الفقر و التخلف في كل مكان , من شرق أوربا و الأتحاد السوفييتي , إلى وطننا العربي الذي يقف مستعدا لتجربة جميع الوصفات . لكن الفكرة قد لا تكون مضمونة حقا , و قد لا يكون وطننا العربي بالذات سوى وطن غريق يتعلق بقشة .
فمثلا :
جمهورية البيرو , دولة (( ديموقراطية )) طبقا لجميع المواصفات الواردة في التعريف المذكور . إنها دولة ذات اقتصاد حر , يديرها برلمان منتخب في اقتراع عام , و يمثلها رئيس شعبي من أبناء الطبقة الكادحة , و تراقبها صحف مستقلة سليطة اللسان مثل [ لا ريبوبليكا ] , و تحرسها اتحادات عمالية منظمة , و أحزاب مسجلة باسم جميع فئات الشعب , من أقصى اليمين الى اقصى اليسار .
أكثر من ذلك , فإن البيرو دولة متدينة جدا , تتمتع برضاء البابا و الولايات المتحدة معا . و تقاتل الشيوعيين من أعضاء حركة [ الدرب المضيء ] منذ عشرين سنة , بحماسة لا تضاهيها سوى حماستها في تشجيع المستثمرين الأجانب الذين جمعتهم في ضاحية [ ميرافلوريس ] لكي تضمن حمايتهم من الخطف , تحت حراسة بوليسية مشددة .
لكن أحدا لا يعتبر جمهورية البيرو دولة ديموقراطية , و لا أحد يدرجها تحت هذه الخانة , حتى من باب النكتة , بمن في ذلك (( المفكرون )) العرب الذين يتولون الترويج لنظام الأحزاب في وطننا بأصوات تعلوا على أصوات الباعة المتجولين , لأن البيرو في الواقع هي أشهر نماذج الديموقراطية المزورة في ظل نظام الأحزاب بالذات .
--- دستور البيرو يقول أنها دولة راسمالية , لكن متوسط دخل الفرد فيها يقل عن ثلث دخل الفرد في دولة شيوعية مثل ألبانيا .
--- ديون البيرو و صلت الآن الى 200 في المئة من دخلها القومي . و كل طفل يولد فيها الآن , يولد مدينا بمبلغ قدره ألف دولار .
--- حكومة البيرو (( البرلمانية )) أصدرت 72 ألف قانون منذ سنة 1947 حتى الآن . لكن 99في المئة من هذه القوانين لم يعتمدها البرلمان , و لم يطلع عليها النواب , و لم تنشر في الصحف أصلا .
--- بلديات البيرو (( لا تدخر وسعا في تشجيع الملكية الخاصة )) لكن المواطن الذي يريد أن يبني بيتا يأويه , عليه أن ينتظر سبع سنوات لكي ينال رخصة البناء بعد أن يدفع من الرشاوي ما يعادل دخله خلال 56شهرا .
--- وزارة الأقتصاد في البيرو (( تعمل بجد لتنشيط العمل الحر )) لكنها تحتاج الى سبعة عشر عاما لكي تصدر رخصة محل لبيع أمواس الحلاقة .
--- شعب البيرو (( يختار حكومته بمحض إرادته في انتخابات حرة )) لكنه لا يدفع لها الضرائب , فمن أصل 21مليون مواطن , لم تجمع الحكومة (( الشعبية )) خلال عام 89 سوى ضرائب قديمة من ربع مليون . أما نسبة الأقبال على الأنتخابات فقد وصلت في عهد الرئيس غاريشيا الى نصف مواطن من كل مئة مواطن .
--- قوانين البيرو , تنص صراحة على حرية الأقتصاد , لكن جميع وسائل النقل العام في العاصمة ليما , تابعة لتجار السوق السوداء , فيما تصل نسبة التضخم الى 6آلاف في المئة , و تتزايد الأسعار سنويا بمعدل قدره 30 إلى واحد .
البرازيل أيضا دولة (( ديموقراطية )) من هذا الطراز . و كذلك بنما و المكسيك و كولمبيا و هندوراس و نيكاراغوا و تشيلي و بوليفيا و الأرجنتين , فجميع هذه الدول , تتوفر لها مواصفات الحكم الديموقراطي , كما ينص عليها (( المفكرون )) العرب . و ليس بينها دولة واحدة تخضع لنظام الحزب الواحد , أو تغلق أسواقها في وجه رأس المال الأجنبي , أو تتقاعس عن تشجيع الملكية الخاصة بكل وسيلة في حوزتها , من تمليك أراضي الهنود لأصحاب المناجم , الى بيع الغابات الأستوائية لشركات الأخشاب و تجار الكوكايين .
و مع ذلك , فإن جمهوريات أمريكا اللاتينية , ليس اسمها (( دولا ديموقراطية )) بل اسمها (( جمهوريات الموز )) لأن واقعها الذي تعيشه في أرض الواقع لا يؤمّن لها سوى هذا اللقب المهين بالذات . و لعل حاجة الفكر العربي الى التعايش من انصاف الحقائق , تستطيع أن تساعده على تجاهل هذه الحقيقة بكاملها . لكن ذلك لا يجعله سوى فكر خرافي في نهاية المطاف . إن غلطة الشاطر بألف غلطة على الأقل .
فالديموقراطية القائمة على تعدد الأحزاب صيغة رأسمالية محضة , تخص الأوربيين الرأسماليين وحدهم , و لا يمكن نقلها الى بيئة أخرى , و لا يمكن تقليدها إلا بوسائل المكياج المؤقت , كما يصبغ المرء شعره من باب حب التمثيل . و الثابت أنه من أصل 170 دولة في العالم , لم تنجح هذه الصيغة , إلا في عشرين دولة فقط , هي دول الأوربيين الأغنياء , لأنها صيغة مفصلة على مقاسهم بيد التاريخ و مقصه معا .
فمنذ منتصف القرن الثامن عشر , كانت شعوب غرب أوربا قد نجحت في تسخير قوة البخار , و اكتشفت سر المصباح السحري . و كانت بريطانيا تفتتح عصر الثورة الصناعية , بمغازل النسيج العملاقة في لانكشاير , و تضاعف انتاجها من المنسوجات فجأة بمقدار 400 مرة خلال خمسين سنة فقط , و في ظروف هذا الأنقلاب الصاعق , انهارت قاعدة الأقتصاد القائم على العمل اليدوي في جميع أنحاء العالم , و فقد التفوق العددي معناه , و تغيرت مراكز التجارة الدولية , و بدأت الشعوب التي سيعرفها القرن العشرون , تحت اسم [ العالم الثالث ] مسيرتها الطويلة - و الموجعة- نحو القاع ..
سنة 1750 , كانت الصين , مثلا , تحتكر حوالي 33في المئة من الأنتاج الصناعي في العالم , بينما كانت حصة بريطانيا تقل عن 2 في المئة , لكن الميزان ما لبث أن أنقلب خلال المئة سنة التالية , فزادت حصة بريطانيا الى 18في المئة , و تراجعت حصة الصين الى 6 في المئة فقط . أما الهند التي كانت أكبر مصدّر للمنسوجات خلال القرن الثامن عشر , فقد انهارت مصانعها اليدوية أمام طوفان النسيج الممتاز و الرخيص القادم من بريطانيا , و خسرت جميع أسواقها الدولية , بينما بدأت وارداتها تتضاعف باطراد , من مليون ياردة سنة 1813 الى 51مليون ياردة سنة 1814 , إلى 995مليون ياردة سنة 1870 , بزيادة قدرها الف مرة خلال 57 سنة فقط .
بالأضافة الى بريطانيا شملت ثورة التصنيع , ست امبراطوريات أوربية أخرى , و هي التي نعرفها الآن تحت اسم [ العالم الديموقراطي ] :
الأولى : الولايات المتحدة التي ارتفعن حصتها من الأنتاج الصناعي في العالم , من واحد في الألف سنة 1750 , إلى 23في المئة سنة 1900 .
الثانية : ألمانيا , و قد بلغت حصتها السنوية 13 في المئة , أو ما يعادل حصة الهند في عشر سنوات .
الثالثة : فرنسا بحصة قدرها 6 في المئة , أي ما يعادل متوسط إنتاج الصين بنسبة 15 إلى واحد .
النمسا التي كانت تعرف باسم امبراطورية آل هابسبورغ . و قد بلغت حصتها 4 في المئة .
الخامسة : السويد التي شملت فنلندا و دول البلطيق , بحصة قدرها 3في المئة .
السادسة : ايطاليا التي دخلت السباق متأخرة بزمن قدره قرن كامل , و بلغت حصتها إثنان و نصف في المئة .
في المقابل , انخفضت حصة بقية شعوب العالم من 73 في المئة سنة 1750 الى 11 في المئة سنة 1900 , و انعكس هذا التراجع في انهيار متوسط دخل الفرد الى المستوى الرهيب الذي نعايشه الآن في ما يسمى بالعالم الثالث . ففي مصر مثلا , كان دخل الفرد مساويا لدخله في غرب أوربا حتى منتصف القرن الثامن عشر , لكنه انهار فجأة خلال القرن التالي , فأصبح واحدا إلى 18 بالنسبة لدخل المواطن في فرنسا , و بلغ واحدا إلى خمسين بالنسبة لدخل المواطن في بريطانيا . و قبل أن يبدأ القرن العشرون , كانت الثورة الصناعية , قد قلبت موازين القوى الى الأبد , و كان رجل أمريكي واحد مثل روكفلر , يملك من الثروة أكثر مما تملكه شعوب قارة افريقيا مجتمعة .
هذا الأنقلاب الصناعي رافقه انقلاب آخر في طاقة السلاح الناري . فقد أدى تطوير الرشاشات و مدفعية الميدان و السفن البخارية الى ضمان تفوق الجيوش الأوربية , حيث شاءت أن تقاتل , من أسوار شنغهاي الى غابات السودان . و في صباح يوم واحد , قتل البريطانيون 11ألف جندي من قوات المهدي , مقابل 48 جنديا فقط , بينما توغلت قواربهم المسلحة مئات الأميال داخل نهر النيجر لكي تقصف تجمعات الزنوج في قلب افريقيا . إن الملكة فيكتوريا تتلقى سنة 1865 تقريرا عن وضع الأمبرطورية , يقول لها مباهيا :
(( ..... سهول روسيا و أمريكا الشمالية , هي حقول قمحنا . شيكاغو و اوديسا هي مطاحن غلالنا . كندا و البلطيق , غابات أخشابنا . استراليا مراعي خرافنا . أودية أمريكا الغربية مراعي ابقارنا . مناجم البيرو , تغدق علينا الفضة . استراليا و جنوب افريقيا مناجم لذهبنا , الهندوس و الصينيون يزرعون لنا الشاي الأنديز تزرع لنا السكر . اسبانيا و فرنسا , عرائش أعنابنا . بلدان البحر المتوسط , حدائق ثمارنا . أما القطن الذي زرعناه في جنوب الولايات المتحدة , فقد امتد الآن الى جميع مناطق الأرض الدافئة ...))
في ظل هذا الثراء القائم على التصنيع و التجارة الدولية , تحولت دول الغرب من حكومات بسيطة تديرها أسر اقطاعية إلى أجهزة عملاقة معقدة , يتوقف بقاؤها على إيجاد صيغة إدارية مؤهلة لتوفير الشرطين التاليين :
الأول : أن تضمن حرية رأس المال دستوريا , بما يشجعه على التدفق المستمر الى مجالات الأستثمار المتاحة .
الثاني : ان تكسب رضاء العمال , و توفر لهم مستوى المشاركة المطلوبة في السلطة , بما يضمن استمرار العمل و زيادة الأنتاج .
و من هذين الشرطين , و لدت صيغة الديموقراطية الرأسمالية كما نعرفها الآن :
فحرية رأس المال , تشريع يغطي حق الملكية الخاصة و ضمان الفائدة على القروض و حرية الأعلان و القضاء و حماية الأستثمارات الخارجية , حتى عن طريق الحرب الشاملة .
و مشاركة العمال في السلطة , تشريع يغطي حق التصويت , و حق التجمع و الأضراب , و إتاحة فرص التأهيل للرجل و المرأة , و توفير الضمان الأجتماعي بفرض الضرائب التصاعدية على رأس المال , و تأميم مرافق الخدمة العامة .
ميزة هذه الصيغة الرأسمالية , أنها قادرة تلقائيا على استبعاد الجيش و الكنيسة من قائمة المرشحين لتولي السلطة . فالمجتمع القائم على التصنيع و التجارة الدولية , مؤسسة تعتمد على تحالف العمال مع أصحاب رأس المال , و ليس بوسع العسكر أو رجال الدين أن يضربوا هذا التحالف أو يتولوا إدارة المجتمع من دون أن يتسببوا في انهياره اقتصاديا من القاعدة . و هي ميزة تضمن للصيغة الرأسمالية حماية كاملة من الأنقلابات العسكرية و المتطرفين الدينيين , لكنها لا تتوفر للأحزاب خارج العالم الرأسمالي .
ان الديموقراطية الحزبية ليست (( فكرة )) طرأت على ذهن رجل مفكر , بل (( بيئة )) فرضتها ظروف الثورة الصناعية , لم يكن للأوربيين يد في اختيارها , إلا بقدر ما كانت لهم يد في اختيار جلودهم أو لون عيونهم . ورغم أن شعوبا كثيرة أخرى , قد عمدت الى تقليدهم , فإن ذلك كان مجرد نوع من خداع البصر بوسائل المكياج المؤقت .
و الثابت , أن هذه الصيغة لم تنجح في أي مكان خارج بيئتها الرأسمالية , بل تحولت إلى قناع تختفي وراءه نظم ملكية مطلقة , و حكومات يديرها جنود و مشايخ و تجار مخدرات و قتلة و عملاء على طول العالم الثالث من عصر فاروق إلى عصر أورتيغا . و لو كانت الجدية صفة من صفات ثقافتنا العربية , لما ارتفعت الآن هذه الدعوة المضحكة الى نظام الأحزاب في وطن عاش تجربة الأحزاب من قبل , و ذاق ثمارها الرديئة من أقصى العراق الى اقصى المغرب , لكن ثقافتنا العربية ليست جادة .
إنها مجرد نكتة مترجمة عن لغة اجنبية , يرويها المترجمون بحماسة , منذ عصر نابوليون حتى الآن , من دون أن يضحك عربي واحد . و لو كانت الديموقراطية تتحقق فعلا باستيراد وصفة جاهزة , لجرت الرياح بما تشتهي السفن منذ زمن بعيد . إن طريقنا أن نمضي غاضبين في الأتجاه المعاكس :
---- طريقنا أن نجمع ثقافتنا المترجمة , و نعطيها لبرميل القمامة , لكي يصبح برميلا مثقفا .
---- طريقنا أن نكف عن سرقة أفكار الآخرين و نفتش في ترابنا عن البذرة التي تنبت بيننا مثل أشجارنا و سنابلنا .
---- طريقنا أن نستعيد شرعنا الجماعي , و نكتشف لغة الملايين التي تلتقي أسبوعيا في الجوامع , و نحرر يوم الجمعة من خطب الوعاظ , و نعطي مكبر الصوت لهذا المواطن الساكت .
كل وصفة أخرى , مجرد قفزة في الظلام , لا طائل من ورائها سوى أن تعاد مسرحية أمريكا اللاتينية في وطننا العربي , بلغة الحرب الأهلية الشاملة . فمشكلة العرب بالذات أنهم لا يستطيعون أن يبدأوا من الصفر , ما دام يوم الجمعة يجمعهم بالملايين في مكان واحد , أمام منبر واحد . إنهم ملزمون بتحرير هذا المنبر من سيطرة المؤسسات الدينية و الأقطاعية . و ملزمون بتطوير الأجتماع الى لقاء دستوري قادر على ضمان حق الأغلبية في اتخاذ القرار . و من هذه البداية , يستطيع العرب أن يجربوا جميع الوصفات , و يقلدوا الأوربيين كما يحلو لهم , و يصبغوا شعورهم و لون عيونهم , و يمضوا وراء لعبة الأحزاب و الثقافة المترجمة الى آخر محطة على الطريق . لكن يوم الجمعة , سوف يكون دائما بركانا نشطا تحت أقدامهم , و سوف يجلسون فوقه غافلين , حتى يداهمهم الأنفجار في ساعة آتية لا ريب فيها .
http://al3dm.com/vb/showthread.php?t=230&page=3
.
|
|