هالة .
يا صديقتنا العزيزة .
كعادة التعليقات السريعة لا يمكن فهمها خارج السياق العام للكاتب ، ما كتبته عبارات متصلة بطرح طويل سابق ، و كي أفسر ذلك سيكون علي أن أنقر على الكي بورد لوقت طويل ، فليكن .
لم أفهم أن المقصود هو إدارة الإقتصاد بل إدارة المجتمع كله ،و عندما تحدثت عن افتقاد الصين للإسلام العظيم القوة الدافعة الجماعية الرائعة ، كنت بالطبع أتحدث لاذعا و ليس خابرا ، كي أعيد طرح مداخلتي أقول أن الطيب لم يدرك في مداخلته طبيعة الحضارة المعاصرة خاصة مرحلة ما بعد الكولونيالية ، لم يدرك القواسم المشتركة لتلك الحضارة ،و التي تقوم أساسا على قيم العقلانية و التنوير و ليس على العقائد الدينية المحلية ، إن وجود موروث جمعي قوي لا يعني صحة هذا الموروث أو إمكانية إعادة البناء عليه ، في عالم اليوم لا يمكن لأحد أن يمارس الوجود الإنساني في معزل عن إطار المجتمع العالمي الذي يجب فيه على الجميع أن يتفقوا- شاءوا أم أبوا- على معايير العيش المشترك، بصرف النظر عن موروثاتهم الحضارية المختلفة، بل لا يمكن تفادي التعددية أيضا فيما يختص بالنظرة إلى العالم حتى في داخل المجتمعات التي ما زالت تهيمن عليها موروثات ثقافية قوية مثل المجتمعات الإسلامية ، ليس هذا فقط فحتى في المجتمعات المنسجمة حضارياً انسجاماً نسبياً لم يعد ثمة مفرٌّ من إعادة قراءة الموروثات العقائدية السائدة التي تنادي بإقصاء الآخر في ضوء ثقافة معاصرة ترى استحالة هذا الإقصاء . لم يعد العالم يقبل بمثل الأصوليات الإسلامية المنغلقة ، فحتى بين عقلاء الأصوليين يجب أن ينمو وعي متزايد بضرورة أن تتوافق "الحقائق" الدينية الخاصة مع العلم غير الديني المعترف به من الجميع .
الآن أصبح واضحا لكافة العقلاء أن الرؤيا الليبرالية للتاريخ هي التي صنعت الحضارة وليست الرؤيا الأصولية التي تنظر باستمرار إلى الوراء لا إلى الأمام، أن قيم العلمانية الغربية ليست نتاجا حضاريا مترفا للمسيحية الغربية ، لكنها تجسد مسارا عالميا أشمل و حلا عبقريا للحروب الدينية ، إن الليبرالية صنعت الحضارة التي ننعم بها جميعا - بما في ذلك الأصوليين - من خلال الصراع الدامي والشرس مع الرؤيا الأصولية التي كانت تعرقلها وتضع العصي في دواليبها في كل مرحلة بل و في كل خطوة. لذلك نقول بأن كل تاريخ الحداثة يلخصه هذا الصراع بين الرؤيا الأصولية والرؤيا الليبرالية أو العقلانية التنويرية للتاريخ.
هنا أحب ان أفرق بين الحداثة modernity وهي بالطبيعة معولمة و بين التحديث modernisationاو التغريب westernisation و هي ممارسة خاطئة ،إن رفض التغريب لا يعني رفض الحداثة ، تلك قضية طويلة لن يتسع لها المجال هنا ،و لكني أشبعتها كلاما و لتا و عجنا في أكثر من شريط منه شريط خاص عن الثوابت و ماهي ، الحداثة هي الأسس التي قامت عليها الحضارة مثل العلم و التكنولوجيا و الحرية و الإدارة الحديثة و ... ، اما التحديث فهو استيراد منتجات الحداثة بدون قيمها .
.................................
ثقي أن رؤيتي لأي كاتب لا تكون بسيطة أو سطحية ، فلا أهتم منذ سنوات طويلة سوى بتأمل الأفكار و دراستها بل وملاحقتها في نماذجها ، نعم ليس لي خبرة طويلة بالطيب نيهوم ،و لكن لي خبرة بالأفكار الشعبوية في تجلياتها المختلفة ، الماركسية و الإسلامية و القومية ، و بداية أعترف بأني نخبوي عن تعمد ، أرى أن كثيرا من المثقفين العرب شعبويون بأكثر مما ينبغي ، فهم كمن وجد إنسانا رأسه لا تعمل فحاول أن يجعله يفكر بجسمه كله بدلآ أن يشغل عقل ذلك البائس .. ترك الممكن في طلب المحال ، إن كل المذاهب السياسية الرئيسية في العالم العربي ما بعد الحرب العالمية ( قومية – ماركسية – إسلامية ) اتفقت على تقديس ثقافة الجماهير و تكريسها كل وفقا لدعواه ،وهذا أدى إلى تعطيل أي نقد حقيقي لتلك الثقافة و بالتالي تسرب الفرص التاريخية لتطوير ثقافات النخب بعيدا عن الصيغ الأيديولوجية كما حدث في مجتمعات أكثر حكمة مثل الهند .
أن يكون الناس متساوون في الحقوق و الواجبات لا يعني أن تكون أفكارهم و ممارساتهم متساوية ، وهذا يعني أن مبدأ المساوة الإنسانية و التعبير عنه في المجتمع ليسا نفس الشيء ، نتيجة التفاوت في التعليم و التربية و القدرات فالناس يتطورون على نحو متفاوت رغم أنهم ولدوا متساويين ، هذه الملاحظة هي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها أي حركة إصلاحية حقيقية في المجتمع .
ألاحظ أن المثقفين العرب عموما يحجمون عن التعبير عن أفكارهم إذا كانت نخبوية خوفا من التحريض ضدهم وهذه خطيئة ، إن المثقفين العرب مستسلمون عادة لمنطق متصلب مصمت عن المساواة ،وفقا لمعادلة منطقية على النحو التالي :" طالما كان الناس كلهم متساوون ، فيجب أن يكون كل شيء يفعلونه متساويا كذلك " ،وفقا لهذا المنطق الخاطئ فهم يرفضون نقد ثقافة الجماهير باعتبار هذا النقد متعاليا و نخبويا ، إن الإسلاميين ليسوا منفردين في تقديس ثقافة الجماهير الدينية ، بل لعل الماركسية هي أكثر الأيديولوجيات عبادة للجماهير ( الطبقة العاملة ) و كانوا يعتبرون أن الطبقة العاملة لا تجسد فقط نظاما إقتصاديا و إجتماعيا أرقى بل ثقافة أرقى كذلك ، و هكذا وجدنا كيف كانت حركة الثقافة البروليتارية السوفيتية تدعوا العمال أن يبدعوا فورا أشكالهم الإشتراكية الخاصة في الفكر و الأحاسيس و مفردات الحياة اليومية ، و القطيعة التامة مع التفسخ و التشاؤم البرجوازي ، حتى أولئك الذين عارضوا القفز مباشرة إلى ثقافة العمال و الفلاحين كانوا يعتقدون أن ثقافة الطبقة العاملة مختلفة عن ثقافة البرجوازية و أنها أكثر رقيا ، و كانوا يتطلعون إلى مسقبل أفضل للبشرية ، هل تجد اليوم من يؤمن بهذه الأفكار الطوباوية غير المنعزلين في مكاتبهم البعيدة ، إنني و بوضوح من الذين يرون أن الدعوة إلى الشعبوية هي دعوة معادية للحياة بل مدمرة لها ، فهي مملؤة بالبريق الفاسد و التسطيح الأخلاقي ، وهي تميل نحو التماثل ، هي ببساطة نوع من المشاركة في التفاهة رغم كونها تفاهة مركزية ضخمة تشمل الجميع ، إن دعم الديموقراطية و المساواة لا تعني الموافقة على كل منتجاتهما ، بل على العكس لابد من حماية القيم العليا برفع يد الجماهير عنها .إن القبول بهيمنة الثقافة الجماهيرية يعني تجميد التاريخ و توقف التغيير .
يا سيدتي إن تدليل الجماهير كالأطفال و التوقف عن نقد ثقافتها هو إهانة لها و نوع من النفاق الضال ، وبدلا من المساهمة في صناعة ثقافة جماهيرية جديدة أكثر عقلانية و ملائمة للتطور نترك ثقافة الجماهير المفارقة للحضارة هي التي تصنعنا ، وهذا ما نخشاه و نعمل على إصلاحه .
عن الأسطورة التي تتحدث عن دور سواد الشعب لا النخب أيضا سوف نختلف ، إن النهضة لا يمكن أن تتم سوى بالشعب كأدوات مادية و ليس كممارسة لعقائدها التي ربما كانت مفارقة للعصر كله ، علينا إما القبول أو الرفض للأصولية الإسلامية من حيث هي عقيدة مطلقة فلا حل وسط ، ولو كان خيارنا هو الأخير فسوف نكتشف أننا تحررنا من وهم كبير ، لقد انتهى عصر الأيديولوجيا ... الحلم بنهضة الشعوب و الحلول الراديكالية هي أفكار قد شبعت موتا و أصبحت شيئا من الماضي البعيد ، لقد سقطت الأيديولوجيا مع أندحار الإتحاد السوفيتي ، لا يوجد أحد الان يحلم باليوتوبيا أو يتصور حلا سحريا و أن المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر بصورة أساسية ، إن تلك الأحلام و عبادة الشعوب التي تحمل الحقيقة و ستنهض بعد سماع النفير الثوري هو نوع من ( اللااتصال بالواقع ) ، قليلون هم الذين يتصورون أن يكون المستقبل شيئا سوى صورة مطابقة للحاضر .. حسنا ربما نسخة معدلة من اليوم على أفضل التصورات ،إن التاريخ قد رفض الآمال المبالغ فيها و المتعلقة بالثورة ، لقد أخفقت الراديكالية و أصبحنا في زمن الإنهاك و التراجع السياسي العالمي و المحلي ، لا بدائل أخرى .. تلك هي حكمة هذا الزمان ، إن واجب النخب الأقوى و الأذكى و الأكثر حضارة ان تفرض قيم التنوير و الحداثة على الجهلاء فرضا فالعالم مهدد بالفناء بسبب ذلك الجهل و الفقر و التعصب ، إن تمكين الشعوب الجاهلة و المتعصبة و المتخلفة معرفيا لن يكون لصالحها بل مجرد حلولا طوباوية يقترحها منعزلون ،فالمنعزلون الحقيقيون ليسوا من يقترح الحلول كنخب بل من يثقون بوعي الجماهير و يؤمنون بفضائل لم يمارسها أحد أبدا . لو انتظرنا الشعوب فلن نتحرك سوى قبيل قيام الساعة بأيام قليلة ، العالم لا يفعل ذلك ، كل الشعوب التي نهضت من سباتها تقدمت خلال النخب ، النخب هي التي تقود الهند و تعطي لهذه القارة ديمقراطية ليبرالية وسط شعب أصولي متدين و فقير ، النخب الشيوعية هي التي تقود الصين لإقتصاد السوق ، المشكلة دائما هي النخب لا الشعوب ، النخب الهشة الفاسدة كنخبنا العربية هي التي تحيل مشاكلها للشعوب التي يجب ان تتفرغ للعمل و ممارسة أكبر قدر متاح من السعادة ، علينا ألا نرهق الشعوب بالتفكير فهي غير مؤهلة ولا تريد ذلك ، علينا فقط ان نوفر لها الدين و القيم و العقائد كمنتجات نهائية جاهزة ( هوم دليفري ) ، وقتها سنبدأ بالتحرك كما تفعل آسيا اليوم .
................................
بالمناسبة لم تأخريني عن صلاة الجمعة ، فقد صليتها منذ 20 عام تقريبا ، ألا يكفي ذلك ؟.