من الذي يغير العالم ويصنع الحضارة والتاريخ هل هو الشاعر أم الباحث العلمي أم السياسي أم أصحاب رؤوس الأموال والشركات أم المفكر والفيلسوف؟

في سجال سابق لي مع أحد الزملاء في منتدى آخر عن دور الشعراء في صناعة الحضارة قلت له بالحرف الواحد:

عمر ما الشعر ولا الكلام رفع قدر إنسان ولا حط من قدره وعمر ما الشعراء غيروا أو ساهموا بأي شيء في الحضارة أو بتغيير مجرى التاريخ وإلا لكان العرب الآن هم سادة العالم ، الدنيا تحترم الرجال الذين يغيرون الواقع بالفعل والتضحية وليس الذين القاعدين الذين يثرثرون وينفثون الكراهية أو يصيغون أبلغ القصائد الرومانسية والمدائح وكل ألوان الزخارف اللفظية والبلاغية.

فقال لي صديقي :

وما الذي يمكن للشاعر أن يفعله أكثر من أن يكتب بقلمه ، الشاعر لا يملك دبابات او مدافع او طائرات وكل ما يملكه هو قلم ولسان ، لو سمع السادات مثلا صرخات " أمل دنقل " وهو يقول له "لا تصالح" وذلك قبل ان يفعل السادات ما فعله بأكثر من عام لتغير مجرى تاريخ المنطقة كلها . وفي كل الثورات كان الأدب والفن من ضمن الخلفيات المؤثرة فيه وإلا لماذا تصر الأنظمة الديكتاتورية على قمع وتصفية المفكرين والشعراء تماما كما تفعل مع الثوار المسلحين .

فقلت له :

يمكنه وبصفته إنسان لا شاعر أن يعمل مثل الناس الذين سعوا للتغيير وانخرطوا بالعمل العام ونجحوا في ذلك في التاريخ وفي الحاضر سواء كانوا اعلاما وقادة مشهورين أم كانوا أتباعا. تبقى قيمة الإنسان بالأثر الذي أحدثه وجوده في الحياة منذ لحظة قدومه لهذا العالم حتى لحظة مغادرته هذا الأثر يتم بأفعاله لا بحلاوة لسانه وفصاحته وقدراته الخطابية.

ثم ان المفكر شيء والشاعر شيء آخر ومختلف تماما ولا يصح أن تجمع الاثنين في بوتقة واحدة ، المفكر يقدم مضمون يخاطب العقل والشاعر يقدم مادة جمالية بقصد الترفيه تخاطب الوجدان والعواطف بغض النظر عن قيمة المضمون ، الشعر لا يعيبه الكذب وليس صحيحا ان الشعراء يصنعون نهضات ويغيرون مجرى التاريخ مع أنه ليس كل المفكرين قدموا شيئا مفيدا للحضارة فالمفكرين الذين قدموا حلولا عملية مثلا وابتكروا آليات عمل للنظام السياسي ووضعوا أنظمة اقتصادية وادارية قابلة للعمل والتطبيق في الدول والشركات والمؤسسات أمثال جان جاك روسو أو آدم سميث جون ستيوارت ميل وفريدريك تايلر مؤسس علم الادارة فهؤلاء يمكن اعتبارهم أناس عظماء ساهموا في صنع الحضارة وتركوا بصماتهم على الواقع المعاش ، أما المفكرين النظريين الذين يقومون بتحليل الواقع من امثال طرابيشي والجابري وادوارد سعيد و نعوم تشاومسكي و بول كينيدي ولطفي الخولي وصادق العظم... الخ فهؤلاء لا يصنعون حضارة ولا تصنع كتاباتهم أي تغيير من اي نوع لا على المستوى السلوكي ولا على مستوى البيئة والتكنولوجيا وطرق تفكير البشر.

الشعراء لم يصنعوا أي نهضة في أي أمة النهضة يصنعها أمثال نيوتن لا شكسبير ، النهضة يصنعها القادة السياسيين الكبار والمصلحين الاجتماعيين والمفكرين وحتى الرأسماليين الوطنيين من رجال الأعمال الذين يوظفون رؤوس أموالهم النقدية والمعرفية والتكنولوجية في بلادهم على شكل استثمارات ترفع الدخل القومي ومن ثم تحد من التخلف الاقتصادي والحضاري النهضة يصنعها العلماء من أصحاب الاكتشافات العلمية أما المتنبي وشوقي ومظفر وأحمد مطر وحتى محمود درويش وكل الشعراء والمغنيين فليسوا عظماء ولو لم يوجدوا بالحياة لما تغير مجرى التاريخ ولا حتى 1 بالألف من الملميتر.

وإلا قل لي من كان أهم للبشرية بدر شاكر السياب وشوقي ودنقل وأحمد مطر وحافظ ابراهيم واحمد رامي واحمد فؤاد نجم وايليا ابو ماضي وعزيز اباظة وابو القاسم الشابي ونزار قباني أم ويليس كارير مخترع مكيف الهواء ولو أردنا أن نعيد التاريخ ونحذف منه أسماء ناس من برأيك أولى بالحذف هو هؤلاء الشعراء مع احترامي لانتاجهم الأدبي أم نحذف جراهام بيل الذي اخترع التلفون أم نحذف المهاتما غاندي وبسمارك ومارتن لوثر كنغ؟

هل جميع الشعراء العرب ومعهم وكتاب الرواية والقصص العرب أفادوا البشرية أكثر من غوليلمو ماركوني مخترع الراديو الجواب هو لا طبعا فهؤلاء لن يصنعوا نهضة ولن يكون لكلامهم اي أثر في تغيير مجرى التاريخ.

وإذا كنت معترض على هذا الكلام فلو سمحت أحضر لنا الآن أسماء شعراء صنعوا نهضات لأمم مع أسماء القصائد التي تسببت بهذه النهضة ، ويا حبذا أيضا أن تجاوب على السؤال ،،، أيهما أفضل لمسيرة الحضارة الإنسانية أن نحذف منه جميع الشعراء العرب أم أن نحذف منه ماركوني مخترع الراديو او جراهام بيل مخترع الهاتف أو كاريير مخترع التكييف او الاخوان رايت اللذان اكتشفا مبدأ الطيران أو مارتن لوثر أو اينشاتين او الملك عبد العزيز موحد الجزيرة العربية

فالعالم (بكسر اللام) ويليه الرأسمالي والسياسي والمصلح الاجتماعي الناجح هو الذي يعيد تشكيل العالم ونمط الحياة والبيئة التي تخلق الشاعر والفنان وسائر النشاطات الاقتصادية ، التطور الاقتصادي للدول هو نتيجة اكتشافات علمية تعيد تشكيل البيئة الحياتية كلها ابتداء من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وتغير وتتجاوز الوضع القائم في المجتمع ونمط الحياة الذي يظن كثير من الناس أن له صفة الديمومة وأنه عابر للأجيال ، أما الشاعر فليس له أي دور في صناعة وتشكيل أي شيء.