عاشق الكلمة .
أنت محق تماما أن تقارير المخابرات الأمريكية عن أسلحة التدمير الشامل العراقية كانت خاطئة ، و تضرب مصداقية تلك الوكالة في الصميم - هذا لو كان لها مصداقية أصلآ- خاصة خلال فترة إدارة اليمين الأمريكي المتعفن للولايات المتحدة ، و لكن ليت الأمر بهذه السهولة ، كي نناقش هذا التقرير و نظائره بشكل عقلاني علينا أن ندقق عدة نقاط .
لا يجب أن ننظر لأمريكا كدولة في الشرق الأوسط تمتثل لسلطة ديكاتورية واحدة ، و لكنها دولة مؤسسات تعددية بشكل بالغ التعقيد حتى مقارنة بالديمقراطيات الغربية المناظرة ، أمريكا ليست الرئيس و إدارته فقط ، بل هناك العديد من الوكالات التي تعمل في المجال التنفيذي ، هناك أيضا الكونجرس و مجالسه ، هناك لوبيات الضغط ، هناك الميديا ذات الإتجاهات المتعددة ، هناك مراكز التفكير ، هناك الشركات متعددة الجنسيات ، ..... ، هذه المؤسسات لا تعمل مركزيا و لكن في إطار صيغة مركبة متغيرة دوما ، و ليس من النادر ان تتناقض و تتصارع !، مما يجعل الأمريكيين يتوقفون كل عشر سنوات ليتسائلوا من هم الأمريكيون .. ماهي أمريكا ؟. هناك عشرات الجهات تصدر تقاريرا في مختلف القضايا ،و لا يمكن أن نرفض كل تلك الوثائق لأن هناك تقديرات خاطئة لهذه الجهة و تلك .
أما إذا كنت أرى تقارير الكونجرس الأمريكي مرجعا ، فليس مهما ما أراه أو يراه غيري من المصريين ، المهم ما يراه العالم ،و الأهم تأثير موقف الكونجرس الأمريكي الذي تعبر عنه تلك التقارير على سياسة الولايات المتحدة تجاه بلادي . العقلية السياسية تختلف عن عقلية الحياة اليومية ، فالعقلية السياسية براجماتية تبحث عن المصالح و تتجنب المخاطر ،و هي غير العقلية الأخلاقية المعتادة . أهمية المواقف و الوثائق السياسية ليس في أخلاقيتها ، فهذا المعيار نوع من الترف لا يفهمه السياسي الجاد ، و لكن أهميتها في تأثيرها و نتائجها العملية ، هكذا يجب أن نفهم و نناقش الأمور إذا أردنا أن نتقدم قليلآ عن تعليقات قراء الصحف .
حسنا .. ما هو مدى مصداقية هذا النقرير ؟.
1- مصر دولة حليفة لأمريكا بل على رأس حلفاء أمريكا في المنطقة ، كما أنها في حالة سلام طويل مع إسرائيل و لها علاقات سياسية كاملة معها ، و بالتالي فمن غير المتصور ان يكون التقرير قد صدر بإيعاز من الإدارة الأمريكية أو لوبي الضغط الإسرائيلي .
2- هذا التقرير ليس صادرا عن وكالات يديرها موظفون ،و لكنه صادر عن الكونجرس الأمريكي ، أي عن سياسيين منتخبين ،و هذا يعطيه مصداقية عالية لدى الشعب الأمريكي و في العالم الخارجي .
3- اللجنة التي أصدرت هذا التقرير قامت بزيارة ميداتية إلى مصر، و اطلعت خلالها على موقف الأقليات ، و قابلت رسميين مصريين و ممثلين لمؤسسات المجتمع المدني و ممثلي الأقليات الدينية ، أي أن التقرير صادر عن جهة لها تأثيرها و من خلال متابعة ميدانية .
4- هذا التقرير ليس منعزلآ عن إدانات مستمرة لجهات دولية متعددة ضد إنتهاك حقوق الأقليات الدينية في مصر .
5- هذا التفرير ليس منعزلآ عن حوادث تكاد تكون يومية تنشرها الصحف عن حوادث طائفية في مصر ، راح ضحيتها عشرات الأبرياء ، دون أي قصاص عادل ، بل ولا حتى تعرض تلك الجرائم على القضاء ،و لكن تعالج خلال جلسات صلح عرفية ، خارج أي ممارسة قانونية محترمية لدول ذات سيادة .
6- هذا التقرير ليس منعزلآ عن مقالات و كتابات مستمرة تنشرها الصحف و الكتب ، و ندوات يعقدها الكتاب و المفكرون و العقلاء ، كلها تحذر من مخاطر الجرائم الطائفية في مصر ، و تدين التحريض الطائفي من شيوخ الفضائيات و الإخوان المسلمين و غيرهم من الأصوليين ضد المخالفين دينيا ، و استخفاف السلطة بجرائم الإضطهاد الديني ، مما أدى بالنشطاء الأقباط إلى اتهام بعض المسؤولين بالتواطؤ الفعلي في تلك الجرائم ، بل شاركهم في تلك الشكوك عدد من المفكرين المصريين الليبراليين .
لماذا يجب أن نتهتم بهذا التقرير و نظائره ؟.
1- يخاطب التقرير صانع القرار الأمريكي و يطالبه بالضغط على مصر وصولآ بتوقيع عقوبات عليها ، و رغم أن التقرير ليس له صفة تنفيذية ، إلا انه يضع صانع القرار الأمريكي تحت ضغط كبير .
2- استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى توقيع عقوبات أمريكية ثم دولية ضد مصر ، ،علينا أيضا أن نتذكر أن العقوبات الدولية ليست لعبة ، و أنها هي التي دمرت دولة بثراء العراق و حولتها إلى دولة بدائية كما اشتكى بعض الكتاب العراقيين . مثل هذه العقوبات لا يستخف بها عاقل ، ولا يذهب إليها بقدميه حتى البلهاء ، فمصر لا تملك الثروة البترولية ،و لكنها تعتمد في حياتها على علاقاتها الدولية
3- ربما يشعر الشعب الإيراني الذي يواجه الضغوط الدولية بالفخر ، لأنه متهم بالسعي لإمتلاك السلاح النووي و التكنولوجيا المتطورة ،و لكن لا يشعر أحد بالفخر لأن العالم يعاقبه بسبب إضطهاده للأقليات الدينية في بلاده ، فهذه اتهامات تدل على حقارة النفس و الإنحطاط الحضاري و الخلقي ،
للأسف الشديد أصبحنا ضحايا لمجموعة من السوقة و العشوائيين و الجهلة الذين يصموننا جميعا بالإجرام و التخلف ،و الذي يجعل مثل هذه التقارير التي يجب ان نخجل منها معتادة .