الأخ ساير .
أشكر لك كرمك البالغ و حسن ظنك و الحوار الراقي .
أحب أن يكون واضحا أني أرحب بكل مشاركة جادة بعيدة عن ممارسة السادية الفكرية ، و أعطيها كل عناية ، فمرحبا بك دوما .
أرى ألا تناقض في الهدفين ، حوار الدائرة المغلقة الرفاقي ، و خطاب التنوير الجماهيري ، ربما تكون لدي مشكلة بالفعل ، كتبت كثيرا في موضوعات عديدة ،و عندما أحاور زميلا أبدأ من حيثما توقفت في موضوعات سابقة ،و أفترض أنه قرأ ذلك كله ، وهذا محال بالفعل .
هناك فارق بين المستنير الذي ينعم بعصارة العقل البشري و إنجازاته الأدبية و الفنية ،و بين التنويري ، الناشط الذي يسعى لنشر القيم الحضارية بديلآ للفكر السلفي البائد و المربك ، و من الطبيعي أن كل منا يلعب الدورين بنسب متفاوتة ، يبقى أن لكل دور أداته ووسائطه المناسبة ، لكل أداة الجمهور المستهدف target audience الخاص بها . الناشط التنويري في حاجة لأداة جماهيرية مثل الصحف و التلفزيون و الكتب و ما يماثلها ،و لكن دوائر الحوار لا تناسب هذا النشاط ، سيقى الناشط التنويري – مهما تواضعت إمكانياته - هو نموذجنا الأعلى و هو بطلنا التراجيدي ، لأنه وحده الذي يدفع الثمن ، لهذا أنحني إجلالا أمام نجومنا الزاهرة .. سلامه موسى ،و طه حسين ، و فرج فوده ، وصادق جلال العظم ، و سيد القمني ، و سمير أمين ،و نوال السعداوي ، و خليل عبد الكريم ، و سعيد العشماوي ، و نصر حامد أبو زيد ، ورفعت السعيد ، و...... ، هؤلاء هم مدفعيتنا الثقيلة التي تمهد لنا الطريق نحو المستقبل ،وهي بالتالي التي تتلقى القصف المضاد المستمر من قوى التغييب و التخلف و الجهالة .
نحن في دوائر الحوار بلا جمهور تقريبا ، فأنجح الموضوعات لا تزيد عن 5000 أو 10000 قراءة في أفضل الحالات ،و لأن معظمها لقراء يتابعون الموضوع ، فهذا يعين 1000 أو 2000 قارئ في أفضل الحالات ،و بالتالي فلا أعتقد أنه من المناسب أن نتوقع تأثيرا جماهيريا يذكر من هذه الحوارات ، هذا لا يعني أن حوارنا في منديات الحوار بلا هدف - سيكون صحيحا فقط لو توهمنا أننا نمارس به نضالا سياسيا أو دعوة دينية أو تأثيرا جماهيريا واسعا - ، الهدف من حوار المنتديات في رأيي هو تبادل الأفكار بين مجموعة من المشاركين المنتسبين لنفس الإطار أو المرجعية المعرفية ، هذا لا يعني أن نكون متفقين ، كلا فالخلاف " الموضوعي " هو أداة المعرفة دائما ، وهو الذي يعطي للحوار متعته ، هذه الحوارات في شكلها المثالي الذي أراه ستكون أشبه بالحوارات التي نمارسها في المجالات العلمية ، حوارات منهجية عقلانية و بلا سقف من الأفكار المسبقة ، و هي بالتالي لا تخضع لحسابات الموائمة الجماهيرية ، مثل تلك الحسابات تفسد بل تدمر الحوار خاصة في مجتمع أصولي تغلب عليه الأمية بكل صورها ، مجتمع يفضل فيه الأمي الصريح نظيره الأمي المتعلم !.
حتى الفلاسفة الكبار كانوا يرون أنه ليس الجميع مؤهلين للحقيقة ، كان أفلاطون نبي المعرفة يرى ضرورة حجب العلم عن العامة ، و كان جون ستيوارت ميل رسول الحرية يرى أن الحرية يجب ألا تمنح للشعوب المتخلفة . إني لا أطالب أن يقتصر الحوار على خلاصة النخب المثقفة ،و لكن هناك حد أدنى يجب توفره في شركاء الحوار ، بغير ذلك سيصبح الحوار جدلآ عقيما و مهاترات بلا نهاية ، ولا يوجد عاقل يسعى لذلك . على الذين يريدون تأثيرا جماهيريا الذهاب إلى تلك الجماهير في غرز الحشيش المنتشرة في عشوائيات المدن المنتهكة ،و لكني أفضل أن أعبر عن نفسي بحرية ،و لن أهتم كثيرا بألا تسمعني تلك الجماهير ، فهي لن تفهم شيئا في كل الحالات ، يهمني فقط القلة التي أرتضيها شركاء في الحوار ، فمثل أولئك المثقفين التنويريين هم من يصنع التاريخ في كل مكان .
إننا هنا أشبه بحملة البنادق الذين يندفعون في حماية القصف المدفعي لتحقيق أهداف الحضارة ، قوتنا هي في تزايد أعدادنا باستمرار ،و في إستمرار نشاطنا و دأبنا على العمل ، إننا نساهم في صناعة و صقل النشطاء التنويرين ،و بذلك نشارك في تحقيق رسالة التنوير و لكن بشكل غير مباشر .