عاشق يا سندي،
أعتقد بأن خلافنا هو في معنى "العقل" والمعقولات. فالله، ملائكته، كتبه، رسله واليوم الآخر ليست من الأمور التي يمكن القطع بها وإثباتها (حتى الآن)، وبالتالي فهي ليست من "المعقولات" عندي (وعند ابن رشد  ). مجال "العقل" المحض عند "كانت" هو الطبيعيات أو قل "المحسوسات" التي تستطيع "إدراكها"، "عقلها" و"التثبت" منها و"البرهان" عليها من خلال "الحواس". ما خرج عن هذا فهو "ما فوق الطبيعة" أو ما اصطلحنا على تسميته بالميتافيزيقا.

"العلوم" عامة هي المجال العقلي بامتياز وتقع في صلب "الطبيعيات"، والتعامل معها تعامل "إثباتي برهاني". أما "الدينيات والروحانيات" فهي تقع في صلب "الميتافيزيقا"، ويكون التعامل العقلي معها تعامل "استنتاجي ترجيحي" مبني على "مقدمات وفرضيات". فعندما يقولون أن "الفلزات" تتمدد بالحرارة و"تتبربر بالبرورة"  (كما يقول عمنا سعيد صالح في المشاغبين) فأنت قادر على التأكد من صحة هذا الزعم من خلال تجربة عملية براجماتية ، تقوم حواسك الخمس شاهدة عليها، من خلال أخذ قطعة حديد وتعريضها للحرارة والبرودة ... إلخ. أما عندما يقولون لك في الكتب المقدسة بأن "ناكر ونكير" ("ناكر" ولا "منكر" مش فاكر) "قاعدين لك وما وراهمش غيرك" فأنت لا تستطيع أن تتلفت يمنة ويسرة وتنادي "ناكر ونكير" وتتحقق من الأمر، ولكن يقينك سوف يقف عند مرتبة "قالولوا" (بتاعة عادل إمام في "شاهد ما شفش حاجه")، وفي أحسن الحالات سوف تتحقق من الأمر عبر منطق "استدلالي" قائم على "فرضيات" أو "مقدمات منطقية" صحتها "ترجيحية تصديقية" ليست ثابتة مثل: الله موجود، وأرسل أنبياء، يتلون قوله على العالمين، ومحمد بن عبدالله القرشي واحد منهم، وتصديقاً لرسالته آتاه القرآن، والقرآن يقول لنا بأن "ناكر ونكير" حقيقة واقعة .. إذاً فناكر ونكير حقيقة واقعة.

"الحقائق الإيمانية" هذه لا يمكن إخضاعها للتجربة ولا إقامة "البرهان" عليها لذلك فهي ليست "عقلية" ولكنها "تصديقية" على أفضل حال. وهذه هي مشكلتها الأساسية، فلو كانت "حقائق الدين عند المؤمنين" حقائق شبيهة "بالحقائق العلمية" لوجدت "الإجماع" الذي تحظى به الحقائق العلمية عند الناس، ولكانت الكلمة لله إلى يوم يبعثون.

من هذا المنطلق، فإنني قلت في مداخلتي السابقة أن مكان "العقل" في الدين على "الهامش"، "فالعقل" يستعمل عادة – في المجال الديني - "للتبرير" و"إعادة التفسير" و"التأويل" ومحاولة إيجاد حلول مختلفة للنصوص المصبرّة المحنّطة العتيقة التي تصطدم يوماً بعد يوم بحقائق انسانية واجتماعية واقتصادية وسياسية (الخ) جديدة لم تكن موجودة في عصور الرسالات.

دور العقل في الدين إذاً دور "هامشي"، فأساسيات الدين كلها والكثير من معتقداته وطقوسه لا تدخل ضمن دائرة العقل بحال، بل ان آيات الأديان الباهرة، عند أتباعها، كانت عبر العصور مرهونة "بالمعجزات والخوارق والأعاجيب"، أي أن الكتب المقدسة نفسها تحث أصحابها على النظر إلى مكنوناتها من زاوية "الأعجوبة" ورصيدها منطق "شوفوني ما أحلاني، وصدقوني بناء عليه". فجميع الأناجيل تفرد صفحات كثيرة لعجائب السيد المسيح، وقرآن الرسول الكريم يتغنى بإعجازه ويتحدى أن يأتي الآخرون بسورة من مثله .. وهكذا دواليك. هنا يقول المنطق بأن من يبني إيمانه على المعجزة فإنه يتخلى عن العقل ويدخل ضمن إطار "تحطيم العقل أو الانفلات منه"، فالمعجزة ليست إلا تحطيماً أو انفلاتاً من "عقال الطبيعة" من "عقال العقل" الانساني بصيغته العادية المألوفة المأنوسة.

أخيراً، إذا كان هذا الحال، فلماذا يغلف "الدين وأتباعه" رسالتهم "بالمنطق والعقل" فيحدثون ويتناقشون بمنطق عاقل في أمور الدين؟ ببساطة لأن "العقل" يفرض نفسه على كل شيء انساني حتى "الدين" الذي يحاول الانفلات منه. فلجوء الدين إلى العقل في أمور "هامشية" أحياناً هو لجوء المضطر فقط لا غير. فالعقل الانساني ليس بحاجة للدين كي يكتنه الأشياء ويدير دنياه ويصرف أمورها، ولكن الدين بحاجة "لهذه المسحة العقلية" التي تساعد أتباعه على "التصديق" بالرسالة ... كل رسالة. وكلما حقن "أتباع الدين" دينهم ببعض "الجرعات العقلية" المكثفة في الأمور الهامشية، كلما كان "أفيون الدين" أقوى وأنجع من ناحية، وكلما زادت سلطة رجاله من ناحية أخرى.

واسلم لي
العلماني