الأصوليّون والأنظمة الناطقة بالعربيّة!
طباعة أرسل لصديق
نبيل فياض : كلنا شركاء
24/ 06/ 2010
رغم كل الألم القاتل الذي عشته على مدى أسبوعين وما تزال آثاره قابعة تحت الجلد وبين عظام الكتف الأيسر، رغم الأضرار الماديّة الكبيرة التي لحقت بي من جراء الحادث، رغم شعوري شبه اليقيني بأن أحداً ما لعب بسيارتي وهي مرميّة أمام بيتي ليلة الحادث: فإن أهم ما خرجت به من تلك المغامرة نحو موت مؤجل هو إعادة النظر في الحالة الأصوليّة التي أنتقدها منذ ربع قرن بلا كلل ولا ملل.
الحالة الأصوليّة، التي نرى أنها العائق الأكبر في وجه تحضّر شعوب المنطقة وانخراطها في منظومة القيم العالميّة ممثّلة في شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، ليست وليدة ذاتها كما تريد الأنظمة الناطقة بالعربيّة تصويرها؛ وكأنها أحد أشكال البارميسيوم: الحالة الأصوليّة، كما يتبدّى لنا من التجربة الساداتيّة – وكنّا وقتها نعيش في مصر – هي وضع سياسي قابل للانتهاء أو التفاقم، وفق متطلبات النظم الحاكمة. ولأن النظم الحاكمة لا يهمها غير استمراريتها، فاعتقادنا أن الحالة الأصوليّة – مع حالة العداء لإسرائيل – هي الضامن الأول لوجود تلك النظم، التي تقف معاندة منطق الزمان والحريّة والمسار التصاعدي للتفكير البشري.
لماذا تريد تلك النظم، أعداء الصيرورة، الحالة الأصوليّة؟ وهل بالفعل أن هنالك تناقضات بين الطرفين، كما يحاول أن يظهر إعلام النظم والأصوليين على حد سواء؟ ولماذا تحصل صدامات بين الطرفين القمعيين بين فترة وأخرى؟ وهل نقط التلاقي بين النظم والأصوليين أكثر من نقط الافتراق، أم العكس؟ أسئلة لا بد من الوقوف عندها، بحياديّة تنطلق من تجارب معاشة مررنا بها، إن في مصر أو خارجها!! لن نتكلّم هنا عن التحالف الباكستاني ( ضياء الحق ) الأميركي ( ريغان ) السعودي، في خلق أشهر التنظيمات الإرهابية في التاريخ الحديث: القاعدة وطالبان! فهذا خارج إطار كرونولوجية المقال.
الأصوليون والأنظمة الناطقة بالعربيّة يلتقون استراتيجيّاً في قاسم مشترك أدنى، لا يمكن لأي طرف غير أصولي أن يشاركهم به: الاستبداديّة ورفض الآخر. من هنا، يبدو نشاطهم محموماً للغاية في محاربة التيارات الديمقراطيّة، سواء أكانت يمينية أم يساريّة.
الواقع المر يقول، إن المجتمعات الناطقة بالعربيّة، تنفر غرائزيّاً من فكرة التعدديّة والمجتمع الديمقراطي. ويبدو أن جينات هذه الشعوب، التي تآلفت مجتمعيّاً مع عقليّة الاستبداد منذ بزوغ الإسلام، تحوّرت بيولوجيّاً حتى صار الاستبداد جزءاً من تركيبتها بحيث أضحت تتوارثه جيلاً بعد جيل. وعلميّاً نعرف أن الطفرة التي تسببها البيئة للجينة يمكن أن يتم توارثها لتصبح جزءاً من تسلسل وراثي عام.
الواقع الأمر يقول، إن المجتمعات الناطقة بالعربيّة ترسانات لاهوتيّة لا يمكن اختراقها. المجتمعات الناطقة بالعربيّة، كالمجتمعات في القارة الهنديّة، تمتلك من المخزونات الميثولوجية الضاربة في أعماق التاريخ ما يجعلها عصيّة على أية مقاربة عقلانيّة للشأن اللاهوتي. ما يميّز الميثولوجيا الهنديّة إيجاباً مقارنة بتلك الموجودة عند الشعوب الناطقة بالعربيّة حاليّاً هي أن الطابع الأسطوري يبدو طاغياً للغاية في الهنديّة مقابل تلك التي في أقطارنا، حيث أن أساطير الشرق الأدنى القديمة التي تسللت عبر التوراة إلى القرآن والتراث الإسلامي عموماً عرفت صيرورة تأريخ مزيفة جعلتها في أذهان العامة أقرب إلى الحقائق منها إلى الخرافات. لذلك كان من السهل على الهندي التخلّص من ركامه الميثولوجي ( كالشنتو تماماً، يبدو أن الهندوس يتعاملون مع أساطيرهم باعتبارها فولكلوراً )، في حين أن الناطق بالعربيّة ما يزال يأخذ قصصه الخرافيّة على أنها وقائع لا سبيل إلى التشكيك فيها، حتى وإن كانت من نمط " الإسراء والمعراج ".
ملاحظة:
نقصد بالهندي هنا الهندوسي حصراً، فالهندوس الذين تحولوا للأسف إلى الإسلام، صاروا أقرب إلى المسلمين الناطقين بالعربيّة عقليّة ونمط تفكير، حتى أنهم قدموا للعالم كثيراً من النماذج الأصوليّة التي لا تفتقد رائحة الإرهاب؛ أما تعبير " الناطقين بالعربيّة " فنقصد به هؤلاء من أتباع المذهبين الكبيرين في الإسلام: السني والإثنا عشري. وللأسف الشديد أيضاً، تعمل الدولة السورية بقصد أو دون قصد على تدمير آخر ما تبقى من لمع إسلاميّة مضيئة عبر هذا التبشير الفارسي الإثني عشري في آخر القلاع العلوية والاسماعيلية والمرشدية.
ماذا تقدّم الأصوليّة للنظم الحاكمة؟
من الأنموذج الساداتي الأشهر، الذي يبدو أنه ترك آثاره التي لا تمحى عند كل الأنظمة العربيّة، يمكن أن نتلمّس فوائد لا حصر لها، قدمتها الأصوليّة خدمة للنظم الحاكمة، ومن أهمها التالي:
أولاً:
الأصوليّة تشيع عقليّة الخرافة بين الناس، خاصّة العوام. وتنقل اهتمام المرء من هذا العالم إلى العالم الآخر. بغض النظر عن ركامها الميثولوجي الذي يعتبر أن مئة عام من حاكم ظالم خير من ليلة بلا حاكم. لذلك لا أهم عند الحاكم المستبد من وجود سلطة كهنوتيّة تمسك العوام من أنوفها بسلاسل الخرافة، ويمسك الحاكم المستبد برؤوس تلك السلطة في يده عبر مفاتيح المصالح.
ثانياً:
كما أشرنا من قبل، فمنطقتنا هي الأخصب للأفكار الخرافيّة؛ بل ربما يتبادر إلى ذهننا أحياناً أن هذه الشعوب عصيّة على المنطق. والتجربة الساداتيّة الشهيرة أطاحت ما بين عشيّة وضحاها بكامل إرث الاتحاد " الاشتراكي " العربي الناصري، لصالح أخوان الرئيس المؤمن. هذا يعني أن كل الاشتراكية الناصريّة المزعومة، رغم قناعتنا بصدق نوايا القائمين عليها، لم تستطع أن تتغلغل إلى أعماق الكائن المصري، وكان كافياً لعاصفة السادات الأخوانيّة أن تزيل بسهولة غبار الاشتراكية، ليظهر من ثم جبل الأصوليّة الراسخ. إذن، الأصوليون هم الأسهل تناولاً لأي حاكم ناطق بالعربيّة إذا ما أراد أن يقمع خصومه الديمقراطيين.
ثالثاً:
بالمقابل، الأصوليّة المتفشيّة سلاح متعدد الغايات يستعمله الحاكم المستبد كي يعلل لأية قوى ديمقراطيّة رفضه لأبسط متطلبات العمل الديمقراطي، بحجة أن صناديق الاقتراع، في ظل هذا التفشي المخيف للأصوليّات، لا يمكن أن توصل إلى إلا مزيد من التحكم الأصولي برقاب الناس. بمعنى أن الحاكم المستبد هو الذي يخلق العلة لمحاربة الديمقراطيّة، ومن ثم يستخدمها ضد القوى المطالبة بالتغيير الديمقراطي.
رابعاً:
الأخطر والأهم، أن الأصوليّة هي السلاح الذي يستخدمه الحاكم المستبد في مواجهته لأية ضغوط خارجيّة من أجل تعديل المسار باتجاه الديمقراطيّة. وها هو يحمل بيده عصا التهديد التي تصرخ: إن أي تبديل لي سلماً أو حرباً لا يمكن إلا أن يأتي بقوى الظلام إلى الواجهة. وكلكم اختبرتم هذه القوى وتعرفون خطرها على مسيرة الحضارة الكونيّة.
إن عملنا الدائم على الشارع السني أقله في منطقتنا يثبت على نحو متصاعد أن الدولة لو أرادت تغيير المعادلة لاستطاعت ذلك. لكنها لا تريد.
نبيل فياض : كلنا شركاء
http://all4syria.info/content/view/28403/104/