الدولة الحقيقية الحية تنشأ بفكرة أساسية تصلح لربط الحياة ومعالجاتها بها، بما يشكل تناسقا مجتمعيا دافعا للنهضة.
وحين تصل النهضة إلى ذروتها، تبرز بشكل نظام يشرف على بقاء النهضة ويضمن عدم نكستها، وينقلها إلى غيرها من البشر.
فتبرز الدولة الحية ككيان تنفيذي لفكرة مشروع النهضة، وهي تعبر عما يعتقده المجتمع القائمة هي فيه بشكل طبيعي دون إكراه أو إلزام.
وتقوى هذه الدولة بقوة فكرتها وتنمو بنموها وتنتكس بانتكاستها، دونما نظر إلى القوة الغسكرية أو الاقتصادية التي تتبع غالبا هذه الفكرة.
والفكرة الأساس هي محور حضارة الدولة والمجتمع، فبها تتعين وجهة النظر عن الحياة والعلاقات القائمة بين البشر.
حينما تنهار الفكرة الأساس بسبب عدم ملاءمتها للحياة أو مخالفتها للواقع أو لطبيعة الإنسان، أو لفشلها في التحدي الحضاري، حينما تنهار الفكرة الأساس لكل ما تقدم أو لغيره، تنهار بذلك الدولة القائمة عليها. وقد تنهار مؤسسات المجتمع ليس لزوما.
نضرب مثلا الاتحاد السوفيتي، فلم يسقط الاتحاد السوفيتي وهو في خضم أزمة اقتصادية أو عسكرية. بل انهار الاتحاد السوفيتي في اللحظة التي برز للعيان فشل فكرته الأساس في تقديم معالجات جديدة لمشاكل الحياة، اضف إلى مخالفة هذه الأفكار لطبيعة الإنسان وللواقع المحسوس. حينذاك سقطت الدولة العظيمة وهي في عز مجدها، وفي عظيم سلطانها، كل ذلك حصل عشية الوفاق الثنائي بين خرتشوف وكيندي. إلا أننا ما دلنا على انهيار الدولة غير دابة الأرض.

أمريكا دولة قامت ابتداء على الأساس الرأسمالي الديمقراطي العالماني، مع نكهة برجماتية. واستمر نمو أمريكا بقدر ما تنمو فكرتها.
وقد تصور الكثير أن أمريكا لن تصمد أمام التحدي الفكري الذي مثله المعسكر الشرقي والشيوعية، إلا أنها بالعكس صمدت وخرجت منه دون ترقيع كبير في ذات الفكرة، وزادها ذلك النصر قوة بإثبات كفاءتها في معالجة مشاكل الحياة.
لن تنهار أمريكا قضاء وقدرا، ولن تنهار بسهولة يحلم بها الكثيرون.
إلا أن سهولة الحياة المترافقة مع النصر، مصحوبة برغد العيش والكسل الإنساني الطبيعي، كل ما سبق سيجعل الدولة تتأخر شيئا فشيئا في معالجة المشاكل الغير مهمة، لتفسح المجال أمام مشاكل أخرى ليس أهمها تأبطها للعالم.
وهذه المشاكل حين اجتماعها قد تخلق أزمة ثقة بين المجتمع والدولة، بما قد يحرض المجتمع للبحث عن بديل من أو من غير المنظومة الفكرية المؤسسة لأمريكا.
إن نجح المجتمع في استخراج الحلول والمعالجات من ذات الفكرة، تستمر أمريكا، وإلا فإننا سنشهد ولادة حضارة جديدة من رحم القديمة تتنكر لها وتعاديها وتبغضها كما بغضت فرنسا الجمهورية الملكية.
هذا المشروع يحتاج إلى مفكرين من طراز غير عادي، مبدعين أو عباقرة ليلاحقوا التغيرات المتسارعة في عالم تتأبطه أمريكا. وبصراحة لا أستطيع أن أتذكر أسماء مفكرين أمريكيين مميزين في النصف الثاني من القرن العشرين.
الاحتمال الآخر هو بروز فكرة أو أفكار جديدة تباين المنظومة الأمريكية في نظرتها للحياة، وتسعى للحلول محلها. وهذا الاحتمال وإن كان ممكنا، إلا أنه ليس متوقعا حصوله في المنظور القريب!

كتبت هذا الكلام على عجالة، وفي ظني أنه يحتاج لتنقيح لغوي وفكري، فاعذرونا، لكن ضاق الوقت بنا، أو ضقنا به ذرعا!