قبل أن أعود إلى ردودهم منذ البداية. فالنقطة التي يعارضها "العاقل" هي "النقطة الأولى" المحسومة تاريخياً عندي والتي أريد أن أنتهي منها الآن ..

لعاقل يا سندي
سوف أجيبك على نقاط اعتراضك الرئيسية وأعود إلى الزملاء فوق كي أفيهم حقهم.

لنبدأ إذاً ..

أنا - يا سندي - لا آخذ معارفي التاريخية والفلسفية (وهو ما وصفته أنت "بالتخبيص التاريخي) من خلال مقال في صحيفة أو حديث لشيخ في خطبة جمعة أو بضعة جمل لإعلامي في مذياع أو مرناة. فخلف هذه المعارف سنوات من الكد والجد والقراءة والتفكر والكتابة. لذلك "فالتخبيص التاريخي" هو أبعد ما يكون عن كلماتي عندما أطرق باب الفلسفة العربية الاسلامية.

حسناً، لنترك هذا جانباً، فهو أمر لا طائل تحته. ولنعد إلى إشارتي إلى "المعتزلة" وإلى "ابن رشد" بقولي: (( حقاً، لقد حاول "العقل العربي" أن يستفيق من هذه "الحقيقة الكاملة الواحدة والوحيدة" التي تزوده بها النصوص المقدسة، ولكنه لم يوفق في إفاقته. فالغليان "العقلي" الذي أحدثه "المعتزلة" في القرن الثامن والتاسع الميلادي انتهى إلى "انهزامها" أمام الرجعيين من "أحمد بن حنبل" إلى "الشافعي" و"الغزالي". ومحاولة "الإفاقة" الثانية التي حاولها "ابن رشد" في كتابه "فصل المقال" لم يكتب لها التوفيق أيضاً وانتصر الرجعيون مرة ثانية وأحرقوا كتب "ابن رشد" وانتكس العقل العربي حتى يومنا هذا)).

شكل "المعتزلة" حالة ثورية في الفكر العربي منذ أن اعتزل "واصل بن عطاء" مجلس "الحسن البصري" . ثوريتهم هذه كانت، أول ما كانت، في "أسلوبهم في تقرير ما يمكن أن يسمى بالطابع العقلي في طرق الله وأفعاله. فقد حاولوا إثبات ذلك "بالأدلة العقلية" دون أن يتنكروا لقدسية الكلام الإلهي"(ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الاسلامية، الدار المتحدة للنشر، صفحة 81).

مع "المعتزلة" لم تعد "النصوص المقدسة" وحدها تستأثر "بالحقيقة الواحدة والوحيدة" بل أضافوا إليها "العقل واستدلالاته". هكذا قالوا بأن "الخير والشر ليسا أمرين عرفيين أو ذاتيين تنبع صحتهما من الأوامر الإلهية وحسب، كما زعم المحدثون وبعدهم الأشاعرة، بل هما مقولتان عقليتان، يستطاع إثباتهما بالطرق العقلية.(نفس المصدر السابق). من هذه المقدمات الخطيرة انطلقت المعتزلة كي تقول بأن الله لا يأتي بما يخالف "العقل" لما في ذلك من اخلال بالعدل الذي هو حجز الزاوية في تفكيرهم.

مع المعتزلة تمجد العقل وأضحى الله نفسه، خاضعاً لمنطقه بشكل أو بآخر، فالإله الكلي القدرة لم يعد يستطيع – عندهم - أن يجيز لنفسه التصرف على عكس ما تقتضيه العدالة، ولا يستطيع أن يأمر وينهى في الكون بخلاف المنطق العقلي الذي حاصروه به لكونه الله فقط. هذا المنطق سوف يقودهم إلى "الحرية والاختيار" ومنطق "التولد" الذي أخذ به "النظّام والعلّاف" وغيرهم من شيوخهم.

لقد شرق "المعتزلة" وغربّوا في استدلالاتهم العقلية. فهذا "العلّاف يقول بأنه "ليس على الأرض زنديق ولا ملحد إلا وهو مطيع لله"(البغدادي، الملل والنحل، تحقيق الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق، 1986، ص.90) ، وهذا "ابراهيم بن سيار النظام"، أستاذ الجاحظ، يقول بأن الله "لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا خلاف ما فيه صلاحهم (البغدادي، مصدر سابق، صفحة 91) وأنه لا يستطيع أن ينقص عذاب أهل الجنة ولا يستطيع أن يزيد عذاب أهل النار، بل هو لا يقدر على الظلم (صفحة92) ... و"أن أفعال الحيوان كلها حركة والسكون منها اعتماد. والمعلوم والإرادات عنده من جملة الحركات" وكذلك الأعراض (صفحة 95). لقد أنكر النظام على الله الإحاطة بأجزاء العالم لأنه قال بالانقسام لا إلى غاية (ص.96). وقال بأن الله خلق الناس والبهائم والجمادات والنبات في واحد وأن خلق آدم لم يتقدم خلق أولاده فهم كامنون فيه (ص.97).

لقد نظر "النظام" إلى القرآن وقاسه بعقله وقال بأن نظمه غير معجز، وأن العباد قادرون على مثله وعلى ما هو أفصح منه (ص.98) ثم نظر إلى الحديث وقال بأن "التواتر" غير موجب العلم الضروري (ص.98) ثم نظر إلى اجتماع الأمة على أمر فأجاز اجتماعهم على الباطل من جهة الرأي، وأبطل "القياس الشرعي" ورفض أخبار الآحاد (ص.98) وقال أن "أبا هريرة" كان أكذب الناس وأن "عمر" شك "يوم الحديبية" في دينه (ص.98).

لن ندخل في "الفكر المعتزلي" أكثر، فهو عميق متشعب به فرق كثيرة. ولنقف على عتباته ونقرر بأن الإنجاز الذي حققه المعتزلة في هذا العصر كان إعادة الهيبة إلى العقل، واعتباره مصدراً وأداة لبلوغ الحقيقة، تلك الحقيقة التي لم يكن من سبيل إلى التعرف عليها قبلهم إلا من خلال النصوص الدينية.

بقيت "المعتزلة" طبعاً حركة (أو حركات) تدور في مدار الدين ومسائله، ولكنها "حركات ثورية" لم تعد تقنع بالرواية والحديث والنقل والعنعنات. بل ذهبت تفلسفها وتغوص فيها وتتكيء على فلسفة اليونان وتصيح بالعقل العربي الاسلامي أن "قم" .. فيقوم.

مع المعتزلة وعلم الكلام بدأت أولى إشعاعات الحضارة العربية الاسلامية بالتلألؤ، وبدأت صروح المعارف بالارتفاع، وانتقل العقل العربي الاسلامي من جمع الأحاديث والروايات والركض خلف "الحقيقة" في "نصوصها المقدسة" والاكتفاء "بقال الله" و"قال رسوله"، إلى طرح الأسئلة العميقة وفرض النظريات والتأسيس لفلسفة عربية اسلامية سوف تؤتي أكلها منذ عصر "الكندي" حتى "ابن رشد".

مع "المعتزلة" وحالة "الغليان العقلي" التي ذكرناها، تسرب "العقل والتفكر " (الذي تم التعبير عنه من خلال الفلسفة ومرادفاتها) إلى جميع أنسجة الحياة العربية الاسلامية، فكان هذا العصر هو الذي حقق ما نفخر حتى اليوم به في جميع المجالات تقريباً.

ولكن هذا لم يطل كثيراً، فلقد كان للمعتزلة أن تتراجع وأن تصعد "القوى الرجعية" منذ عهد "المتوكل". ولكن ضيق "ابن حنبل" لم يكن يستطيع وحده أن يتصدى لبواقي التيار المعتزلي. فكان "الشافعي" وكان" الغزالي" ودخل العقل العربي إلى "نعشه" من جديد واستقر فيه حتى اليوم (عن هذا العصر وعن تأصيل "الأيديولوجية الوسيطة" في الفكر العربي الاسلامي يرجى مراجعة الدكتور نصر حامد أبو زيد في دراسته عن "رسالة الإمام الشافعي"، طبعة دار مدبولي، القاهرة، 1994).

يكفي هذا الآن وسوف أعود إلى "ابن رشد" و"فصل المقال" ...

واسلم لي
العلماني