فئران المركب
مع أول انذار ـ صادق أو كاذب ـ عن بوادر تسرب مياه الى المركب ـ أي مركب ـ فإن أول القافزين خوفاً من الغرق هم فئرانها ـ فئران المركب ـ وهذه الفئران عاشت حياتها عالة على المركب وراكبيها ومؤنتها، بل والأكثر من ذلك انهم قد يكونون هم ذاتهم ـ أي الفئران ـ من أحدث الثقب ـ أو الثقوب ـ في المركب لتتسرب منها المياه الى داخل المركب وتهدده بالغرق، ما لا تعرفه الفئران القافزة من سطح المركب خوفاً من الغرق، أنها تلقي بنفسها الى هذا الغرق.

هذه الصورة الداكنة كلون الجرذان، حضرتني وأنا أرصد سلوكا بدأ ينتشر بين بعض من مثقفينا ـ أو هكذا حسبناهم ـ وسياسيينا ـ أو هكذا أوهمونا ـ في الفترة الأخيرة عندما اشتدت الضغوط الدولية على الأنظمة العربية ـ أو بعضها ـ بحجة الدفع في طريق الاصلاح، وبشكل أدق الدفع في طريق الاصلاح، وفقاً لقالب محدد أو توافقاً مع مصلحة محددة، عندما صدرت هذه الدعوات وبدأت الضغوط تمارس، بدأ فئران المركب في ابداء الولاء للأفكار الجديدة، بعد ان ظلوا طويلاً يروجون للأفكار والاتجاهات التي من أجلها تتعرض بعض الأنظمة للهجوم عليها، بل وساهموا هم أنفسهم في ترويج وتسويق هذه الأفكار وتلك الاتجاهات لنا نحن المواطنين الذين صدقناهم.

لست هنا ضد حالة النقد الذاتي، ولست ايضاً ضد ان ندرس ما يطرح علينا من مبادرات وأفكار من الخارج كمرجع لنا، وكإضاءة لبعض مما قد يكون خافياً علينا أو لا نريد ان نراه، وقد كنت ممن طالب منذ اللحظة الأولى بالاعتداد بمبادرة كولن باول، ليس كضغط اميركي، ولكن كأفكار اعتقدت وقتها انها حوت جزءا صحيحاً من سلبيات واقعنا، ودعوت وقتها الى دراستها مع رفض محاولات فرضها علينا، وهو ذات الموقف الذي اعتقدته مع كافة جولات الحوار مع الغرب، أو مع الافكار ـ طالما ظلت افكاراً ـ مطروحة، ولكن ـ دائماً ايضاً ـ كنت رافضاً لفرض هذه الأفكار والمشروعات علينا حتى لو كانت تتوافق مع متطلباتنا، واعتقدت دوما ان قوى التغيير الوطنية وحدها هي صاحبة الحق في فرض اسلوب التغيير، وعندما استخدم تعبير القوى الوطنية هنا فإنني لا انزعه عن طرف ما، بما فيها قوى معارضة أو قوى من داخل نسيج الحكم، ولكن اعتقدها صفة منزوعة عن أية قوى تحاول استدعاء هذا الخارج، لتصل إلى الحكم أو لتنجو بنفسها وفعلتها طوال العقود الماضية متعلقة بأهداب هذا الخارج أو قافزة من المركب كسلوك فئراني، اعتقاداً بأن ذلك هو طريق النجاة.

القارئ لصحفنا والمتابع لأشكال اعلامنا المختلفة هذه الايام، سوف يلحظ تغيرا في مواقف اطراف ظنناهم لفترات طويلة جزءاً من النظام أو من نسيج المجتمع، قرروا ان يغيروا مواقفهم في غزل واضح لمن يعتقدون انهم قادرون على التغيير من الخارج الآن، وبدأوا في طرح انفسهم أو تياراتهم باعتبارها الأكثر تأهيلاً لتولي المرحلة المقبلة، واعتمدوا على ان طبيعة الانسان ـ وخاصة العربي ـ النسيان، فلننس انهم ظلوا دوماً من المروجين لكل ما ينقلبون عليه الآن. ولو حاولنا التدقيق قليلاً واستحضار ذاكرتنا الغائبة احيانا كثيرة لتمكنا ببساطة من كشف هذه المواقف المتناقضة.

لست ضد تيار التغيير الذي بات حقيقة واقعة، تحاول كافة القوى التعاطي معها من مواقع مختلفة، ولكنني بالتأكيد ـ وأظن أن معي كثيرين ـ ضد ذلك السلوك الفئراني القافز الى احضان المجهول، ظناً منه ان المركب الى غرق.