بقلم: إسماعيل باشا / من مجلة العصر
المقدمة
هناك قصة تطرق آذان العالم وتشغل أذهانه الفينة بعد الأخرى بسبب ضجة تثار حولها من قبل اللوبي الأرمني في الدول الغربية وبسبب مشاريع قرار تناقش في البرلمانات الأوروبية وكأن حسم الخلافات التاريخية من شؤونها، هي قصة إبادة الشعب الأرمني على يد العثمانيين الأتراك.
ولا شكأن هذه قصة ملفقة تقدم كصفحة سوداء من صفحات تاريخ الإبادات الجماعية وجريمة كبيرة في حق الإنسانية وهي في الحقيقة مجرد دعاوى وراءها مآرب مختلفة لكل من يدعيها ويروجها.
إن قصة إبادة الأرمن بالنسبة لبعض الأحزاب والدول ورقة سياسية قبل أن تكون وقائع تاريخية، تلعب بها وفق مصالحها، أحيانا للضغط على الحكومة التركية وأحيانا لكسب أصوات الناخبين الأرمن.
وهذه القصة الملفقة محاولة لتزوير التاريخ وتضليل الرأي العام العالمي وفرية على الدولة العثمانية بل وعلى الإسلام والمسلمين، ويجب الكشف عن حقيقتها حتى لا يعبث العابثون بالتاريخ في زمن كثر فيه العبث بالحقائق والمصطلحات.
ولابد من معرفة ما جرى في التاريخ حتى يفهم ما يجري في عالمنا الحاضر من التدخل الخارجي في شؤون الدول الإسلامية وتدويل مشاكلها الداخلية، ثم توظيفها لمصلحة هذا وذاك.
ولتُناقش مشكلة الأرمن وقصة إبادتهم الملفقة بكل شفافية كي يتضح لنا وللعالم أجمع مدى استخدام الدول الغربية المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين وتفكيك الدول وإثارة الفتنة بين الشعوب المتعايشة جنباًَ إلى جنب على مدى القرون، والتدخل في شؤونهم الداخلية تحت مسميات مختلفة منذ عهد "المسألة الشرقية" إلى عهد "الشرق الوسط الكبير".
ما هي الادعاءات في قصة إبادة الأرمن؟
عندما ننظر إلى ادعاءات الأرمن في المشكلة الأرمنية نجد أنها تتلخص في النقاط التالية:
- أن شرقي الأناضول الوطن الأم للأرمن والأتراك احتلوا أرمينيا واستولوا على أراضي الأرمن بقوة.
- مارس الأتراك ضد الأرمن مذابح جماعية وبشكل منظم ابتداء من الحرب العثمانية-الروسية (1877-1878).
- ارتكب الأتراك في حق الأرمن إبادة مخططة في عام 1915 وما بعده.
- هناك أوامر سرية لطلعت باشا لإبادة الأرمن.
- مليون ونصف مليون أرمني فقدوا حياتهم في الإبادة.
الكل له أن يدعي... ولكن كل دعوى بحاجة إلى دليل لصحتها حتى تقبل.
وأهداف الأرمن بهذه الادعاءات أهداف مرحلية تتخلص في أربع مراحل:
1- اعتراف الدول الكبرى والمنظمات الدولية بإبادة الأرمن المزعومة.
2- اعتراف تركيا بها تحت ضغوط تلك الدول والمنظمات وبشعار مصالحة تركيا مع تاريخها.
3- إجبار تركيا لدفع تعويضات مادية إلى ضحايا الإبادة المزعومة أو إلى ورثتهم.
4- ضم جزء من شرقي الأناضول إلى أرمينيا بتطبيق معاهدة سيفر (Sévres) التي تعطي الأرمن جزءاً من شرقي الأناضول.
ومما لا شك فيه أن هذه الأهداف بعيدة عن الواقع.
هل شرقي الأناضول الوطن الأم للأرمن؟
اختلف المؤرخون الأرمن في تحديد أصول الأرمن إلى آراء متباينة، فلنذكر هنا بعضها:
1-أن الأرمن من بني حايك (Hayk) من أحفاد نوح عليه السلام. ويرى أصحاب هذا الرأي أن سفينة نوح عليه السلام استوت على جبل آغري (Ararat) فهذا يعني أن الوطن الأم للأرمن شرقي الأناضول. ولكن هذا الرأي لا يستند إلى أي دليل علمي كما أن استواء سفينة نوح عليه السلام على جبل آغري غير ثابت.
2- أن أصول الأرمن تصل إلى أورارتو (Urartu). ومن المعروف أن أورارتو من أقوام شرقي الأناضول يمتد وجودهم إلى 3 آلاف سنة قبل الميلاد وأنهم تعرضوا لهجوم المد (The Medes) فأبيدوا، وكانت منطقتهم محل صراع بين ليديا (Lydia) والمد وفي نهاية الصراع وقعت تحت نفوذ المد . ولا يذكر في تلك الفترة في الأناضول اسم الأرمن بأي شكل من الأشكال، كما أن لغة أورارتو ولغة الأرمن تختلفان تماماً ولا تشتبهان. لغة أورارتو من اللغات الأسيوية وتشبه لغات أورال-آلتاي (Ural-Altaic Languages) وثقافة أورارتو أيضا تشبه ثقافات أورال-آلتاي وأما لغة الأرمن فتعد من مجموعة "ساتم" من لغات الهند-أوروبا (Satem group of Indo-European Languages). وعلى هذا، لا يمكن القول بأن أصول الأرمن تنحدرمن أورارتو، إذ لا يوجد أي دليل يثبت هذا الادعاء.
3- أن الأرمن تنحدر من "تراك-فريق" (Thracian-Phrygian) من أقوام البلقان. وهذا الرأي يحظى بقبول واسع بين المؤرخين الأرمن ويقول إنهم هاجروا من البلقان إلى شرق الأناضول بسبب ضغوط "إليريا" (Illyrians) في القرن السادس قبل الميلاد. ويذكر اسم الأرمن أول مرة في التاريخ في كتابات باهستان (The Behistan Inscription) للإمبراطور المدي (الفارسي Persian) دارا (Darius) التي كتبت في عام 521 قبل الميلاد، حيث يقول فيه الإمبراطور: "هزمت الأرمن". وهذا الرأي يسقط احتمال صحة القولين الأول والثاني.
4- أن الأرمن قوم من أقوام القوقاز ووطنهم الأم هو قوقازيا الجنوبية. يستدل أصحاب هذا الرأي بقرابة الأرمن من العرق القوقازي والثقافة القوقازية، كما يستدلون بأن الإمبراطور دارا (Darius) أشار إلى قوقازيا عندما قال "هزمت الأرمن". ولكن في الحقيقة ليست هناك أي صلة للأرمن مع أقوام قوقازيا الأخرى.
5- أن الأرمن قوم من أقوام طوران (Turanian). يستدل أصحاب هذا الرأي بالقرابة الثقافية بين الأرمن وبعض القبائل التركية والآذرية.
ولا شك أن هذه الاراء المختلفة تدل على أن الأناضول لم يكن وطنا أصليا للأرمن ولا يصل وجودهم في الأراضي الأناضولية إلى ما قبل ثلاثة أو أربعة آلاف سنة كما يزعمون وأنهم جاؤوا إلى المنطقة فيما بعد وليسوا من سكانها الأصليين. [1]
وكان الأرمن قد سكنوا هذه المنطقة من شبه جزيرة الأناضول قبل عدة عصور، قبل مجيء الأتراك، وكانوا في منطقة النزاع بين الإمبراطوريات الكبيرة آنذاك وهي الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، مما أدى إلى وقوعهم تارة تحت سيطرة هذه وتارة تحت سيطرة تلك.
وبعد ظهور الإسلام وتوسع دولته وتغلب المسلمين على الفرس وعلى البيزنطيين أصبح الأرمن تحت حكم العرب المسلمين تارة وتارة تحت حكم البيزنطيين.[2]
وعندما قدم الأتراك إلى الأناضول في القرن الحادي عشر وجدوا فيه الأرمن والسريانيين والعرب ولكن الحاكم الوحيد للأناضول كان البيزنطيين.[3]
--------------------------------------------------------------------------------
[1]انظر: Ten Questions Ten Answers; Question 1
[2]أورخان محمد علي؛ السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده؛ ص 27
[3]Erhan Afyoncu; Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar; Önsöz V