صلاح عبد الصبور
يقول عبد الصبور على لسان الحلاج
أنا رجل من غمار الموالي
فقير الأرومة والمنبتِ
فلا حسبي ينتمي للسماءِ,
ولا رفعتني لها ثروتي
ولدتُ كآلاف من يُولدونَ
بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً - بذات مساءٍ -
سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نَموْتُ كآلاف مَن يَكبرون,
حين يُقاتون خُبَزَ الشموس
ويُسقون ماء المطر
وتلقاهمو صبيةً يافعينَ
حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموْا واستطالوا,
وشبّت خطاهم,
وهذي الحياة ضنينة!
تسكّعتُ في طرقاتِ الحياةِ
دخلتُ سراديبها الموحشاتِ
حجبتُ بكفّي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلتُ عيني, دليلي, أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي, وزيْت المصابيحِ
شمْسَ النهار على صفحات الكتب
لهثتَ وراء العلوم سنينَ,
ككلبٍ يشمّ روائحَ صيْد
فيتبعها, ثم يحتال حتى ينال سبيلا إليها
فيركضُ, ينقض
فلم يُسعد العلمُ قلبيَ,
بل زادني حيرةً واجفة
بكيتُ لها وارتجفْت
وأحسستُ أني وحيدٌ ضئيل كقطرة طلّ
كحبّةِ رمل
ومنكسرٌ تعسٌ, خائف مرتعد
فعلْميَ ما قادني قطْ للمعرفة
وهبْني عرفتُ تضاريس هذا الوجود
مدائـنه, وقراهُ
ووديانه, وذراهُ
وتاريخ أملاكه الأقدمين
وآثار أملاكه المحدثينِ
فكيف بعرفان سرِّ الوجودِ
ومَقْصِده,
مُبتدا أمره, منتهاه
لكي يُرفعَ الخوف عني,
خوفُ المنون, وخوفُ الحياة,
وخوفُ القدر
لكي أطمئن!
سألتُ الشيوخَ, فقيل:
تقرب إلى الله,
صلّ ليرفع عنك الضلال,
صلّ لتسعدْ
وكنت نسيتُ الصلاة,
فصليّت لله ربّ المنون
وربّ الحياة, وربّ القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي
ويئز كريح الفلا
وأنا ساجدٌ راكعٌ أتعبّد
فأدركتُ أنّى أعبدُ خوفي, لا اللهَ
كنتُ به مشركاً لا مُوحّد
وكان إلهي خوفي
وصلّيْتُ أطمعُ في جنّته
ليختال في مُقلتي خيال القصور ذوات القِباب
وأسمع وسوسة الحَلْي, همس حرير الثياب
وأحسستُ أنى أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعةُ الصلواتِ لزاد الثمن
وكنتُ به مشركاً, لا مُوحّد
وكان إلهي الطمع!
وحيّر قلبي سؤال:
تُرى قُدّر الشركُ للكائنات?
وإلا, فكيف أصلّي له وحده
وأخْلي فؤادي عمّا عداه
لكي أنزع الخوف عن خاطري
لكن اطمئن...
كما يلتقي الشوق, شوق الصحارى العِطاشِ
بشوق السحاب السخيّ
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد,
قدّس تُربته ربُّه
وجمّعنا الحبُّ, كنت أحبُّ السؤال
وكانَ يُحبّ النّوال
ويعطى, فيبتلُّ صخْرُ الفؤاد
ويعطى, فتندى العروق, ويلمع فيها اليقين
ويعطى, فيخضرُّ غُصْني
ويعطى, فيزهر نُطقي وظني
ويخلع عني ثيابي,
ويُلبسني خرْقةَ العارفين
يقول هو الحبُّ: سرّ النجاة,
تعشقْ تفزْ
وتفنى بذات حبيبك,
تصبحُ أنت المُصلّي, وأنتَ الصلاة
تعشقتُ حتى عشقتُ,
تخيّلتُ حتى رأيت
رأيت حبيبي,
وأتحفني بكمال الجمالِ, جمالِ الكمال
فأتحفْتُه بكمال المحبةَ
وأفنيْتُ نفسي فيه!
يقول فاروق شوشة: من أروع حوارات مسرحية (مأساة الحلاج ) ما دار بين الحلاج وأحد السجناء معه في سجنه, يُحرّض الحلاج على الهرب, فيسأله الحلاج لم أهرب? فيقول له: كي تحمل سيفك من أجل الناس. فيردّ الحلاج بأن مثله لا يحمل سيفاً, فيقول له السجين - وكأنه يقرعه ويؤنبه - هل تخشى حمل السيف? يجيب الحلاج :
لا أخشى حمل السيف,
ولكن أخشى أن أمشي به
فالسيف إذا حَملتْ مقبضه كفٌّ عمياء
أصبح موتاً أعمى
وعندما يقاطعه السجين بقوله:
ولماذا لا تجعل من كلماتك نُور طريقه?
يجيب الحلاج إجابته الحاسمة الكاشفة عن جوهر الداعية الذي لا يتسلح - في نشر رسالته على الناس - بغير الكلمة:
هبْ كلماتي غنّت للسيف
فوقّع ضرباتِهْ
أصداءَ مقاطعها,
أو رَجْعَ فواصلها وقوافيها
ما بين الحرف الساكن والحرف الساكن
تهوي رأس كانت تتحرك
يتمزّق قلب في روعة تشبيه
وذراع تقطع في موسيقى سجْعة
ما أشقاني, عنذئذٍ, ما أشقاني
كلماتي قد قتَلتْ!
لا أبكي حزناً يا ولدي, بل حيْرة
من عجزي يقطر دمعي
من حيرة رأيي وضلال ظنوني
يأتي شجوي, ينسكب أنيني
هل عاقبني ربّي في روحي ويقيني?
إذ أخفى عني نوره
أم عن عيني حجبْتهُ غيوم الألفاظ المشتبهة
والأفكار المشتبهة?
أم هو يدعوني أن أختار لنفسي?
هبْني اخترتُ لنفسي, ماذا أختار?
هل أرفع صوتي?
أم أرفع سيفي?
ماذا أختار...?
ماذا أختار...?
*******
|