[CENTER](6)
التقنية خارج الغرب[/CENTER]

الغرب ، كما رأينا ، تعرف على التقنية بالتدريج : ما ان ينهي انبهاره بآلة إلا ويتعرف على آلة جديدة . هذا التدرج هيأ الوقت لاستيعاب هذه التقنية والافادة منها . فكون الاختراعات اتت بتدرج ، وكونها نبعت من الغرب نفسه ، هذا أدى إلى أن تكون ردة الفعل إيجابية وكانت الجماهير سرعان ما تتقبل هذه التقنية . نعم ، كانت تحدث بعض المشاكل مع التقنية الجديدة كمشكلة النساخين مع المطبعة والحرفيين مع المحركات .. لكن هذه المشكل لا تنطلق من رفض للتقنية بما هي عليها ، بل تنطلق من تعارضها مع مصالحهم .

كل هذا التقدم جعل الغرب يتطلع حواليه ، وما ان يشاهد مكانا حتى يسارع في الانقضاض عليه تحت مسمى " الاستعمار " . كانت البلدان المستعمرة تتعامل مع فاتح غريب ، يملك أدوات وتقنية " عجيبة " ، سرعان ما ارتبطت هذه التقنية به ، فكان الأخذ باسبابها ضربا من ضروب الخيانة والتقدم في نفس الوقت . بالمقابل كان الغرب ، بمقدر ما يستنفد خيرات تلك البلدان ، كان يهيئها كمجالات استهلاكية لسلعه التي يروج لها ، ومن أيديهم العاملة التي كانت تعني له سلعة رخيصة وتكلفة أقل . كل هذا كان كفيلا بحدوث ما يشبه نوع من " التعايش " بين هذه الشعوب وتلك التقنية ، حتى إذا ما جاء استقلالها .. أضحت الإشكالية التي تطرحها هذه الشعوب : تحويل شعوبها واقتصادها من مستهلكين إلى منتجين و التحرر من الهيمنة الاقتصادية الغربية .

دول شرق آسيا نجحت في حل هذه الاشكالية ، بأن تبنت النظام الغربي ، فتحولت اليابان رأسمالية ، واصبحت الصين اشتراكية . وكدليل على هذا النجاح ، كانت اليابان الدولة غير الغربية الوحيدة التي كانت لها طموحات استعمارية في القرن التاسع عشر ، وعبرت عن نفسها بقوة عندما هزمت الامبراطورية الروسية ، واستعمرت الصين . كما انها في المجال التقني تقدمت تقدما هائلا ، ففي الفترة ما بين 1908-1931 استطاعت اليابان من مضاعفة عدد مصانعها إلى الثلاثة أضعاف . وفي العهد القريب كانت اليابان اول من استخدم " الترانزيستور" في التلفاز في ما يعرف الآن بشركة " سوني " ‘ وتكاد تكون اليابان هي المحتكرة لأجهزة الفيديو. الصين التي بدأت متأخرة ، الآن هي من أكثر البلدان ازدهارا ورخاء ، وهي الدولة الغير غربية الوحيدة صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن . والصناعات الصينية منتشرة في كل مكان ، برخصها ، وجودتها المطردة التقادم . بعد ذلك ظهرت الكوريتان والفلبين وغيرها كنموذج جديد للتقدم ينافس النموذج الغربي التقليدي . يتلوها في سلم النجاح باقي الدول الاسيوية وامريكا اللاتينية .

العرب ، رغم قربهم جغرافيا من مسقط رأس التقنية ، إلا أنهم أكثر الأمم بعدا عن اهلها . فمصر كانت إحدى محطات نابليون ، ومحمد علي كان سباقا في الاخذ بأسباب النهضة . لكن ، مع هذا التقارب الأشبه بالمعاصرة لتطور التقنية ، كان العرب بعيدين عنها . يصعب حصر السبب ، لكن يمكن القول أن السبب كان متمثلا في تبعية العرب للدولة العثمانية ، واستتباع موقفهم من هذه التقنية وتعاملهم موقف الخلافة العثمانية ، التي قابلتها منذ البداية بالرفض وكانت هي السباقة في سن الإفتاء بحرمة التقنية ، عندما حرم شيخ الإسلام العثماني الطباعة بحجة أنها تسبب مفسدة ، ألا وهي كساد تجارة النساخين. إضافة للترك كان الاستعمار الذي تلى الاتراك سببا آخرا في التأخر بالأخذ بأسباب التقنية ، كان الاستعمار لا يجد نفسه إلا في مهمة تحويل المستعمرات لبؤر استهلاكية والاستفادة من رخص الايادي العاملة والتزود بمود تلك الاراض الاولية . هذا الدور كان كفيلا بأن يحرص المستعمر على إبعاد فكرة الإنتاج ومحاربتها في المستعمرات . اضافة إلى الاوضاع السياسية التي جعلت تعرف العرب على التقنية دائما صدامية ، هناك الثقافة ، التي كانت معبئة تعبئة تامة ضد أصحاب تلك التقنية ، تعبئة تجد نفسها بما يحمله الوعي من الحروب الصليبية القديمة من ذكريات وتاريخ وحكايا .اضافة إلى الذكريات السيئة كان هناك الدين ، الذي تحول إلى مجموعة تقاليد وعادات ... كانت التقنية الحديثة ، التي تمثل واقعا ، منافسا كبيرا له . فتعددت الأصعدة التي جعلت فكرة الأخذ باسباب التقنية بعيدة جدا عن المفكر فيه بعد محاولة محمد علي الفاشلة. وبعد الاستقلال والثورات .. كان الاستبداد وقضية فلسطين والفساد الاداري والتعليمي والهيمنة الاقتصادية الغربية من أكبر اسباب فشل مشاريع التنمية ، وتأجيل النهضة .

لم يكن تساؤل كـ: مالمبرر الشرعي الكافل بإيفاد التقنية إلى أرضنا ؟ مطروحا في هذه البلدان إذ أن الغرب قد تكفل – عن طريق الاستعمار- بتعريف تلك البلدان بالتقنية . في بلاد العربان ، كان على عبد العزيز أن يواجه هذا التساؤل وأن يحل تلك الاشكالية ، التي أدى الاختلاف في الإجابة عليه إلى واحدة من أهم معارك عبد العزيز وهي معركة السبلة. وهذه الاشكالية التي امتدت عبر الاجيال بواسطة أداة التقليد التي تتمتع بها أيديولوجيا العربان أدت إلى أحداث كثيرة كان اخطرها استيلاء جهيمان على الحرم المكي . قبل أن نسهب في الحديث ، سنعود الآن إلى تلك اللحظة التي وعدنا باستعادتها ، أقصد : اللحظة الاولى التي التقى فيها العربان بالتقنية ، وعنها ستدور المداخلة القادمة .