[CENTER](7)
اللحظة الأولى : أدبيا[/CENTER]

في أي ظاهرة ، اللحظة الأولى مجهولة ... وأي كلام عنها هو كلام تقريبي ، هيال أكثر منه واقع ، بمعنى آخر : أدب أكثر منه تاريخ . وأفضل طريقة لاستعادة تلك اللحظة ، هو النظر إلى امتداداتها ، إلى نتائجها . هذا بالنسبة لاستعادتها ، أما بالنسبة لأهيمتها ، فيمكن أن نحصر هذه الأهمية في أمر واحد .. ونقول : طالما أن التقليد يشكل عاملا مهما في تناقل أيديولوجيا العربان، فإن الموقف ، أو المواقف ، التي اتخذت من التقنية ، سوف تنتقل ، او تقلد ، عبر الأجيال .

وطالما أن الاستعادة ستكون أدبية ، فأفضل من استعاد صورة تلك اللحظة الفريدة التي شكلت العلاقة بين " العربان " و " التقنية " هو الأديب السعودي الراحل : عبد الرحمن منيف ، في رائعته : مدن الملح .

هنا ، سوف أقوم بنقل بعض الأجزاء من الرواية في تصوير منيف ، كيفية التقى العربان بالتقنية ، وأعود بعدها في المداخلة القادمة لتحليل تلك اللحظة.

" التيه " ، أول أجزاء مدن الملح ، تحكي ملحمة النفط ، كيف جاء الامريكان للصحراء واستخرجوه ، كيف تم اللقاء بينهم وبين اهل الصحراء ، وما هو أثر استخراجه في حياة أهل هذه الصحراء . في الرواية تكلم منيف عن تشكل مدينة على الساحل ، مدينة اسمها حران ، كيف تكونت ببطء ، بجزئين : جزء امريكي وآخر عربي . كان أمير حران ، خالد المشاري ، هو الشخصية التي أنطق منيف من خلالها : اللحظة الأولى .

خالد المشاري ، قدمت إليه هدية من تاجر جاء إلى حران كزيارة ، كانت الهدية عبارة عن : منظار . كيف كانت علاقة المشاري مع هذا المنظار ؟ كيف " فلسفه " و " تكيف " معه ؟ أسئلة تجيب عنها الاقتباسات التالية :

عندما قدمت إليه " ابدى الأمير ترددا في قبولها اول الامر ، لكن ما لبث ان سر بها سرورا كبيرا حين وضع المنظار على عينيه واخذ ينظر في هذا الاتجاه وفي ذاك الاتجاه وبدأ يشير بيده ويضحك فرحا ودهشة " . وابن نفاع ، متشدد مدينة حران ، حين سمع بقصة هذا المنظار " الذي يتيح لمن يقف على شاطئ البحر ان يرى القمحة في ابعد مكان من التلال الغربية " ، حين سمع ابن النفاع بذلك قال :
" – صارت الدنيا بآخرتها .. وما عاد الإنسان يخاف من من كتاب وحساب او من رب العباد." وحين سؤل عن ردة الفعل هذه ، قال :
" – منذ أن جاء الامريكان جاءت معهم العفاريت والمعاصي والمصائب، ولا احد يعرف ماذا سيحصل في الايام الآتية . " ثم بعد ذلك قال :
" – اللهم يا رب ، يا مالك الملك ، يا قوي ، يا رحيم .. امتني على دين آبائي واجدادي ، على دين نبينا محمد ، ولا تجعلني عاصيا كما عصى قومي . اسمعني يا ربي واستجب دعائي ".

أما الأمير ، فقد كان يراقب باخرة وصلت حديثا ، " عندما شاهد الأمريكيين الذين يضطربون على الباخرة ، ويمكن رؤيتهم بوضوح من خلال المنظار ، ويكونون اغلب الوقت عراة او اقرب الى العري ، فقد بلغ الاستغراب بالامير حدود الخوف والاضطراب الشديد ، اذ اكتشف ان معهم عددا من النسوة ، وان هاته النسوة مثل الرجال عاريات او اقرب الى العري . لم يصدق عينيه اول الامر ، وتصور ان ما رآه مجرد وهم أو تغبيش في العيون نتيجة استعمال المنظار فترة طويلة ، وقد حصل له مثل هذا من قبل ، أما بعد أن فرك عينيه ..... ثم عاد إلى المنظار ونظر إلى الباخرة ، وغلى الناس فوقها ، فقد صرخ ... :
-اواه ... يا اولاد الحرام ، يا اميركان .. مصاليخ ، كلهم مصاليخ ، ربي كما خلقتني ".

بعد ذلك تدهورت حال الامير ، واصبح يشعر بالوحشة ، فجاءه نائبه وأمسك " بالمنظار ، هزه عدة مرات وقال بحدة :
-هذه هي البلية . ".

الشيء الثاني الذي تعرف عليه المشاري ، هو ذاك الشيء الذي لاحظه أول مره بينما كان عاكفا على منظاره . فقد " بلغت به الدهشة حدا كبيرا عندما شاهد تلك الآلة العجيبة التي كانت محمولة على احدى البواخر ، ثم انزلت ، اذ ما كادت تستقر على الارض لحظات حتى انطلقت الى داخل المعسكر بسرعة رصاصة . رأى الأمير ذلك بعينه المجردة أول الأمر ، ولما استعمل منظاره المقرب بسرعة ومهارة ليتعرف على ماهية هذه الآلة ، بدأ يصرخ ويشير بيده وينادي ، خاصة عندما شاهد هاملتون ، نائب رئيس المعسكر ، يمتطي الآلة ويحركها " .


" أما الأحاديث التي دارت في اول المساء حول الصندوق الحديدي الذي جاء به مدير الشركة. وكيف ان هذا الصندوق الذي كان لونه اصفر ضاربا الى خضرة ، او بلون الحرباء اوائل الربيع ، كان يمشي بسرعة دون ان يدفعه احد ، دون ان يجره احد ، وكيف ان اثنين او ثلاثة من الاميركان دخلوا الى جوفه مع المدير واختفوا تماما . رغم ان هذا الامر على جانب كبير من الاهمية ، ويثير الاستغراب والتعليقات والتساؤل ، وكان من الممكن جدا ان يثير الامير ذاته فيتصدى الى شرح وتوضيح طبيعة هذه الآلة للآخرين ، وكيف يمكن ان تسير مسافاات كبيرة دون ان تتعب ، الا ان حالته النفسية لم تكن رائقة او مشجعة .... ومع ذلك كان مضطرا ان يتكلم ، ان يقول شيئا . قال في لحظة من اللحظات وهو يهز رأسه ويفكر في امور كثيرة :
-الصندوق .. وغير الصندوق ، يلزم ان يناظره الواحد ، يقلبه ، قبل ما يقول فلاني وتركاني.
قال نائب الامير وقد ادرك ما يرمي اليه الامير :
-والاحسن يركبها يا ابو مسفر !
-القول قولك يا ابو رشوان ، تعم يركبها ، يجربها ! "

بعد ذلك ، التاجر الذي اهدى للأمير ذلك المنظار، حسن رضائي ، كان قد عاد إلى حران ، ومعه هدية جديدة .
" ... دخل ثلاثة من بحارة حسن رضائي ، من الذين يعملون معه على الباخرة .... كان اثنان منهما يتعاونان على حمل كيس متوسط الحجم ... أما الثالث فكان يحمل قطعة مكعبة من حجر أسود يشبه الفحم .

وفي جو من الصمت الذي خيم ، وقد رافقه الترقب والانتباه نهض حسن رضائي بثقة ، اخرج من جيبه سكينا صغيرة وفتح الكيس ، وطلب من احد رجاله ان يخرج ما بداخله . جرت العلمية بحذر بالغ وانتباه شديد ، فلما وضع ذلك الصندوق اللامع ، والذي كان في طرف منه مغطى بقماش يشبه الصوف ، أمام الأمير ، نظر إليه باهتمام ، لكنه ظل صامتا . انه يرى لأول مرة شيئا مثل هذا ، فلم يستطع ان يخمن لأي أمر يمكن ان يستعمل ، فلما اخرجت بعض الحبال ، او ما تشبه الحبال ، من الجانب الخلفي للصندوق ، وربطت إلى الفطعة المكعبة السوداء التي كانت إلى جانب ، وبعد أن تأكد حسن رضائي بنفسه أن كل شيء وضع في مكانه ، فرك يديه وابتسم ابتسامة واسعة ، وجلس بقرب الصندوق ، وقبل أن يبدأ المرحلة الجديدة من عمله ، نظر إلى الأمير ونظر إلى الآخرين . كانوا صامتين وقد ظهرت على وجوههم علامات الخوف والتساؤل معا ، تنحنح وقال :
-هذه الهدية التي حملتها إليك من مكان بعيد ، يا صاحب السمو ، سوف تنقل اليك العالم ، وسوف تنقلك إلى العالم ، حتى أبعد نقطة ... وانت في مكانك .
انفتحت عيون الامير دهشة واهتز رأسه اهتزازا موصولا دلالة انه فهم واستوعب تماما ما قاله حسن رضائي . ظل صامتا مترقبا الخطوة التالية .

قال حسن رضائي ، وقد تغيرت لهجته :
-وهذه الآلة ، يا صاحب السمو ، شديدة الحساسية والدقة ، بحيث لا يجوز ان يمد أحد يده اليها غيرك .
ازدادت الدهشة على وجه الامير وخالطها نوع من الخوف ، وتبادل الرجال النظرات فيما بينهم . قال حسن رضائي ، وهو يفرك يديه ويبتسم بثقة :
-الآن نبدأ ...

وحرك يده على الصندوق ، من أحد الجوانب ، وانتظر قليلا ، وعيناه مثبتتان على وسطه ، ووجهه شديد القرب منه ، كأنه يوشوشه . اضاء شيء اخضر وسط الصندوق ، فتبادل الأمير نظرات سريعة مع الآخرين . كانت نظرات تساؤل وحوف ، لكنه حاول ان يتماسك . أما في اللحظة التالية ، وعندما حرك حسن رضائي بعض الأجزاء البارزة من الصندوق ، ودوت اصوات قوية منبعثة من حيث لا يدري احد ، فقد اجفل الحضور جميعا ، تراجع عدد من الرجال ، واختبأ واحد وراء اثنين من رفاقه . أما الأمير فقد غير جلسته والتفت إلى الآخرين وكأنه يطلب اليهم ان يكونوا اقوياء ومستعدين . حرك حسن رضائي الأجزاء البارزة اكثر من قبل ، فاضاء اللون الاخضر بقوة ثم تلاشى ، مو وشة قوية صاخبة . حرك من جديد ، وفجأة انبعث صوت موسيقى . كانت الموسيقى واضحة ، وكأن الصوت يصدر من الخيمة ذاتها . نظر الرجال بعضهم في وجه بعض باستغراب ، أما الأمير فقد تحرك بجسده كله واقترب من الصندوق ، وكانت ابتسامته تملأ وجهه . ثبت حسن رضائي الصوت اكثر من قبل ورفعه فامتلأ المكان . "

" كان بعضهم ينظر الى بعض بدهشة تصل حدود عدم التصديق : كيف يمكن لهذا الصندوق أن يخرج الموسيقى وان يتكلم ؟ من يعزف ؟ أين يجلس وكيف يأكل وينام وكيف يسعه هذا المكان ؟ وهذا الذي يتكلم ، كما يتكلم ابن نفاع او الامام ، هل هو نفسه الذي عزف الموسيقى ام احد غيره ؟ "
كان تعليق الأمير على الراديو كالتالي :
"- العالم اللي حولنا عالم عجيب وكله أسرار . والله ، سبحانه وتعالى ، علم الانسان ما لم يعلم . المهم ان تسلم نيته وينفتح قلبه وعند ذاك ينشرح صدره والله سبحانه وتعالى يلهمه ويعلمه.
بدا كلام الأمير غامضا لا يعني شيئا ، اضاف وهو يتوجه بالكلام إلى نائبه :
- الدربيل يشوف الشعرة من مسافة بعيدة . صندوق الحديد الأصفر يركض مثل الغزال ولا يتعب ، وهذا الصندوق ساعة يحكي وساعة يشكي وساعة يصلي على النبي !
واضاف بعد قليل بنوع من العجب :
- سبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم . "

بعد هذا ، دعى الأمير اكابر مدينة حران ، ومن بينهم كان ابن نفاع ، ولما أسمعهم الراديو كانت ردات فعلهم كالتالي :
" كان لدى كل رجل من الرجال اشياء كثيرة يمكن ان يقولها ، فالذين سافروا ورأوا العالم كانوا يريدون ان يتكلموا ويسرفوا في الكلام ، صحيح ان الدباسي رأى الراديو من قبل ، رآه في مصر عند صديق ابن البارح ، لكنه لم يثر ولم يعجب (( لأن كل شيء في مصر لا يصدقه العقل )) هكذا كان يلخص اغلب الاحيان انطباعاته دون قدرة على الدقة أو التفصيل ، أما عبد الله السعد فقد مال على محمد السيف وقال بهمس : (( ابن النقيب ، خوينا بالبصرة ، عنده واحد ، وانا شفته ! )) أما الآخرون الذين لم يسافروا ابعد من العجرة فانهم كانوا في حيرة من امرهم ، وتمنى اكثر من واحد لو ان الامير يغطي هذه البلية او يبعدها (( لان كل شيء يمكن يحصل في الدنيا )) واكثرهم لم يكن مستعدا لان يسمع اي شرح او تعليق لأن هذا الجهاز العجيب يمكن ان يتكلم ويغني وينقل القصص وربما يفعل اشياء كثيرة اخرى ، انه يفعل ذلك رغم صغره ، وقد يكون الناس الذين فيه مخلوقات عجيبة مسحورة او ممسوخة . الوحيد الذي تجرأ على السؤال هو ابن نفاع ، لكن رغم جرأته كان متوجسا وخائفا ، قال موجها الكلام الى حسن رضائي :
-هذه البلية من سواها ؟
رد حسن رضائي ببعض الارتباك نتيجة النظرات المعادية التي لم يكف ابن نفاع عن توجيهها اليه طوال السهرة ، رد بسرعة :
-الانسان اخترعها
-قل لي ... قل لي : الالمان او الامريكان ؟
-هذا الراديو صنع هولندي
-هولاندي ؟
-نعم .. هذا مصنوع في هولندا .
-وهناك يعرفون العربي ؟ يصلون ويصومون ويقولون اشهد ان لا إله إلا الله ؟ "

وبعد ان طلب الدباسي من حسن ان يجلب له راديو مماثل " رد ابن نفاع وقد اصابه الذعر :
-وتحطه ببيوتنا يا دباسي ؟
-وكل الله يا رجال ، طول بالك !
هكذا رد الدباسي وهو يبتسم ، ومن جديد سأل ابن نفاع :
-وتحطه ببيوتنا ؟ تجيب الذيب لغنمنا ؟
قال الامير :
-والله يا ابن نفاع انت ما ترضيك الا حزوم نجد ، كل شيء ما يعجبك ، وكل شيء تقول عليه حرام .
وتغيرت لهجة الأمير وقال موجها الكلام الى الجميع :
-يا جماعة الخير ، انتم ، سمعتم اللي قاله عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، واللي قاله عن ابن الخطاب ... وغيرهم وغيرهم ؟
قال ابن نفاع وهو ينهض محتجا :
-يا جماعة الخير .. اياكم وخضراء الدمن .
توقف قليلا ثم اضاف بسخرية :
-مثل ابليس له عين واحدة ، عين خضراء ، وهذه هي التي نهى عنها الرسول وسماها خضراء الدمن .
واضاف بلهجة تهديد :
-وباكر يجركم الى جهنم . "


نكتفي بهذا المقدار .