مقتطفات صوفية
عطف الألف المألوف علي اللام المعطوف
بقلم: د. علي جمعـة
هذا عنوان كتاب لأبي الحسن الديلمي من رجال القرن الرابع الهجري, فهو نص قديم من أكثر من ألف عام يتناول مسألة الحب الإلهي والحب بوجه عام, فيقارب مقاربة بارعة ويدرس درسا مستوعبا ويحلل بدقة ظاهرة الحب.
1- أبو الحسن الديلمي هو عالم صوفي سني, وهو مجهول تاريخ الميلاد والوفاة ولكنه عاش أكثر أعوام حياته ـ إن لم يكن كلها ـ في القرن الرابع الهجري, وتربي في مدرسة شيخ شيراز الكبير أبي عبد الله محمد بن خفيف الذي توفي عام(371 هـ982 م) وكان الديلمي قد التقي بابن خفيف سنة352 هـ ومكث معه عشرين عاما يتلقي منه الأخلاق الكريمة بتربية صافية قد افتقدناها في حياتنا الثقافية والروحية ـ نرجو الله أن تعود ـ ولقد تتلمذ العلامة ابن خفيف ـ أستاذ الديلمي ـ علي شيخ الشافعية ابن سريج المتوفي عام(306 هـ), ودرس العقيدة علي الإمام أبي الحسن الأشعري المتوفي عام(324 هـ), ولبس خرقة التصوف علي يد شيخه رويم وهو أبو الحسن رويم بن أحمد وقيل بن محمد بن يزيد بن رويم البغدادي شيخ الصوفية توفي عام(303 هـ), وصحب الجريري المتوفي عام(344 هـ) وأبا العباس بن عطاء المتوفي عام(309 هـ), وكان صديقا للحلاج المتوفي عام(309 هـ), ولكنه نصح مريديه أن يسلموا له حاله ولا يقتدوا به في شطحاته.
2- كتب الديلمي سيرة شيخه ابن خفيف وقد فقدت النسخة الأصلية التي كتبها بالعربية, وبقيت النسخة المترجمة إلي الفارسية والتي ترجمها ابن جنيد الشيرازي, ونشرت بتركيا عام1955 علي يد الأستاذة المنصفة الألمانية( أنا ماري شيمل) ثم نقلها إلي العربية عن نشرة أنا ماري الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا رحمه الله في القاهرة عام.1977
3- ورث الديلمي عن شيخه ابن خفيف مذهبه الفقهي فكان شافعيا, ورأيه الاعتقادي فكان أشعريا, ومشربه الصوفي المعتدل, واهتمامه العميق بموضوع( المحبة), ونزعته القوية إلي السياحة والرحلة, وعاش بين فارس والعراق وغيرهما من أقطار العالم الإسلامي, في هذا القرن الزاهر الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها, إلي أخريات القرن الرابع, كما صحب الفيلسوف أبا حيان التوحيدي المتوفي سنة(400 هـ), وروي عنه في كتاب( العطف), والطبيب أبا عبد الله البيطار المتوفي سنة(383 هـ), والعديد من شيوخ الصوفية, وكتب خمسة مؤلفات لم يصلنا منها إلا كتاب( العطف) الذي نتكلم عنه, وترجمة كتاب( السيرة) الذي كتبه في سيرته شيخه والذي ذكرناه آنفا.
وقد ترك الديلمي ومؤلفاته خاصة كتابه( عطف الألف المألوف علي اللام المعطوف) أثرا واضحا في التقاليد الروحية لمدرسة شيراز الصوفية, من خلال الشيخين البارزين ابن بكران الشيرازي الذي روي كتاب العطف عن الديلمي, ثم المقاريضي المتوفي(509 هـ) الذي رواه عن ابن بكران ـ حسب السند المثبت علي المخطوطة الوحيدة الباقية من الكتاب في مكتبة جامعة توبنجن بألمانيا ـ ورواها بعدهما الصوفي الشهير( روزبهان البقلي الشيرازي) المتوفي سنة(606 هـ) الذي تمتلئ مؤلفاته الثلاثة المتداولة( مبهر العاشقين, وشرح شطحيات, ومشرب الأرواح) بالاقتباسات والنقول عن كتب الديلمي, وبخاصة كتابه( عطف الألف المألوف علي اللام المعطوف).
وقد يبدو عنوان الكتاب غريبا, وهو نتاج تقليد متداول حينذاك في التعبير الرمزي عن علاقة الخالق ـ عز وجل ـ بخلقه; وهي علاقة المحبة والتعاطف; فالألف رمز للذات الإلهية التي هي معدن الحب الحقيقي والجمال الخالص, واللام ـ عندهم ـ رمز للوجود الإنساني أو الكون الجامع المتمثل في آدم أو الإنسان, والعلاقة المتبادلة بين الجانبين يرمز لها بالألف واللام أو اللام ألف( لا) التي هي علاقة الألفة والتعاطف والمحبة في أكمل صورها وأصفاها, وهي التي تتجلي في نفوس العارفين, وتملأ حقائقها أفئدتهم حين يجذب الرب زمام إرادة العبد إليه ـ وذلك هو العطف ـ فيشغله به عما سواه, وإن كان يتذوق في الوقت نفسه مظاهر الجمال في كل شيء, ويعيش الحب بمستوياته وأبعاده الكونية المتعددة, والحب دوما هو للحبيب الأول ـ سبحانه ـ والحنين إنما هو لأول منزل( في الجنة) كما قال أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوي
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتي
وحنينه أبدا لأول منزل
4- لقد بقيت هذه الدرة الثمينة في أصدافها, حتي كشف عن جوهرها باحث فرنسي هو الأستاذ( فاديه) فأخرج الكتاب للناس أوائل الستينيات من القرن الماضي بالقاهرة, دون تحقيق علمي للنص العربي, ثم أصدر ترجمة فرنسية له في مطلع الثمانينيات, ثم اشتغل الباحثان الأمريكي( جوزيف بل) ـ أستاذ اللغة العربية بجامعة برجن بالنرويج ـ والمصري الدكتور( حسن الشافعي) ـ الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية وهو مجمع الخالدين بمصر, ورئيس الجامعة الإسلامية بباكستان سابقا ـ بترجمة الكتاب إلي الإنجليزية فتوافرت لخدمة نصه النفيس خبرات تعرف طبيعة الموضوع في أبعاده الروحية ولغته الفنية ومضامينه الفكرية بشكل عميق, ثم في حساسية التذوق والتعبير عن ذلك كله في ترجمة إنجليزية رائقة صافية ـ كما يقول النقاد المتخصصون.
5- ويبدأ المؤلف كتابه ـ بعد المقدمة ـ بالخطة التفصيلية للموضوعات, ثم يقدم استدلاله علي جواز إطلاق وصف العشق والمحبة علي الله تعالي, ثم يتحدث عن الجمال وارتباطه بالحب وفضله وفضل المحب والمحبوب والحب, ثم يورد بابا رابعا عن سر التسمية وأصل كلمتي الحب والعشق في العربية مزاوجا بين أقوال اللغويين وتأويلات الصوفية.
وبعد ذلك يدخل المؤلف في صميم الموضوع فيفرد بابا للكلام في المحبة, فيوضح أصل الحب وماهيته, ويبين الخلاف في حقيقته ومنبعه, ووصفه, ويبين الحب الممدوح, ويفصل في منكري الحب, ثم يتكلم عن أثر الحب وعلاماته, وآراء المحبين في علامات الحب والعشق, وتقسيم الحب إلي أنواع كحب الله للعبد, وحب العبد لله, وحب العباد في الله, ويتكلم عن علامات كل قسم من هذه الأقسام, ثم يتكلم عن حب الخواص وحب العوام وحب كل ذي روح من إنسان وحيوان وطير. ويختم كتابه بالحديث عن كمال الحب ويذكر أخبار موت المحبين الإلهيين من الأنبياء والأولياء ـ سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين ـ وقد يعجب القارئ لهذا الكتاب الذي مضي علي تأليفه أكثر من ألف عام, لما يتسم به من طابع صوفي ونزعة روحية بطبيعة الحال يتدفقان في طرافة محببة, وبساطة موحية, ممتزجا بمشاعر حميمة, وملاحظات دقيقة, تنم عن نفس نبيلة, وعقل متفتح, وتأمل طويل, وذات تكاد تختلط بطبيعة الموضوع.
6- لا نشك في أن سيكون لهذه الترجمة الإنجليزية من هذين العالمين الجليلين الأثر الحميد بإذن الله في تجاوب العقول المنصفة والقلوب النزيهة في الغرب, مع هذا الخطاب الموضوعي المعبر في تلقائية وصدق عن حقيقة ديننا وثقافتنا, بعيدا عن الخطاب الاعتذاري واللهجة الدفاعية التي قلما تستهوي تلك العقول والقلوب.
ولئن كانت الترجمة الإنجليزية قد صدرت بحمد الله في ثوبها القشيب في( إدنبرة) خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي واسم الكتاب بالإنجليزية(ATreatiseonMystical(Love, فعسي أن يصدر النص الأصلي العربي عما قريب, وقد أنجزه الباحثان علي نهج علمي بمقدماته وفهارسه, وتدقيقاته وتعليقاته الخصبة الغنية ـ بإذن الله ـ في القاهرة علي نحو يليق بعاصمة الثقافة العربية, فتتعانق الجهود, وتتعاطف القلوب علي الضفتين في لقاء فكري وروحي حميم ببركات الديلمي وشيخه ابن خفيف ـ رحمهما الله, فيصدق في ذلك الحال قول الشاعر ابن خفاجة:
فلما اجتمعنا قلت من فرحي به
من الشعر بيتا والدموع سواقيا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
هذا هو العمل الصالح والكلم الطيب الذي يرفعه الله تعالي ويقبله, وهذا نموذج يحتذي به, عسي أن يدرك كثير من أصحاب الطاقات كيف يعملون في صمت علي منهج مستقيم في عرض إسلامنا علي العالمين من غير ضجيج مفتعل أو صمت مريب.
|