سلام وهدوء وراحة قلب
[CENTER]
![[صورة: candles_and_flames_2.gif]](http://i21.photobucket.com/albums/b258/georgios42/Christians/candles_and_flames_2.gif)
[/CENTER]
كل ما أتيت إلى هذه الساحة يختلجني شعور بالراحة ودفء القلب
يوم من الأيام سأتي اليها ولن ارحل
أميرتي اهلا ً بك في هذه الراوية (f)
ــــــــ
نكمل وأعذرونا بحيث كنا ممنوعين !!!
الفصل السادس
ولادة المجتمع البيثاغوري
في حوالي سنة 1518 ق.م، وبعد مضي أربعة أيام وليالٍ وصلوا إلى خليج تارنتوم Tarentum إى مدينة كروتونا Crotona التي أشتهرت بثقافتها العلمية والدينية، إذ كان يعيش فيها العديد من الأطباء والعلماء في الرياضيات. ومن بين المدن الإيطالية كانت هي المدينة الأنبل، لكنها وفي تلك الأيام كانت تواجه أزمة كبيرة، فالأوضاع فيها على المستويات الأخلاقية والسياسية والإقتصادية كانت كارثية. والبضائع الفاخرة التي كانت تدخلها تسببت في أن يكون إقتصادها غير ثابت، أما نظامها السياسي فلم يكن متزناً وذلك مرده إلى العيوب الأخلاقية التي أفسدته. فاللاعدالة، وإنعدام المساواة، وفقدان الوحدة بين أهلها مع هذا التراكم الكبير للمشاكل ألحق الضرر الكبير بها.
وكان بيثاغور مدركاً لتلك الحقائق وهو يواجه تحدياً جديداً، لكن إرادته كانت تحركها رؤياه وخاصة عندما أدرك بأن أهل تلك المدينة هم من عبّاد أبولو.
- وقال بيثاغور لأحد تلامذته أثناء تجوالهما مع بعضهما في أرجاء كروتونا:" أنا أتمنى أن تلقى مبادئي الإصلاحية الأرض الخصبة لها هنا عند كل الناس بمن فيهم مجلس شيوخ هذه البلدة".
هذا وأن سمعة المعلم الطيبة كانت قد سبقت وصوله إليها شخصياً، ذلك ان البحارة الكنعانيين – الفينيقيين كانوا قد نشروا أخباره في أرجاءها.
وإستراح بيثاغور ليومين من رحلته بغية أن يقوم بتصفية ذهنه، وتجهيز نفسه للمهمة. إذ أن أحد تلاميذه كان قد أعلمه بأن سكان المدينة يتحدثون عنه. عندها، أدرك أنه من الواجب عليه أن يظهر لهم ما من شأنه أن يترك في نفوسهم الأثر الطيب والإنطباع الجيّد.
وأختار يوماً مشمساً وجميلاً، فمشى بين الجموع بلباسه الأبيض موجهاً تحيات السلام لجميعهم قاصداً التلة الصغيرة التي وما إن وصلها حتى جلس على عشبها الأخضر، وراحت الناس من نساء ورجال يتحلقون حوله إلى جانب تلاميذه البيثاغوريين الذين أتوا معه من ساموس . وظل صامتاً لبرهة من الوقت إذ كان يتأمل. وأخذت الجموع الحيرة والدهشة لما كان بادياً فيه من غموض وإختلاف، وهو الهادئ جداً بحضوره الغريب والمميز. وراحوا يتهامسون فيما بينهم عن ما له من هالة قوية.
ووقف بيثاغور، وساد سكون تام المكان، فنظر من حواليه ورأى كم كانت أعدادهم كبيرة ملاحظاً في أعينهم ما لهم من توسلات له لكي يخاطبهم، كونهم كانوا شديدي الشغف لسماعه وهو المدرك ذلك تماماً والذي من أجله كان هناك.
وبدء يعظ:" في ذات مرة كان هناك شابٌ من موطني صيدون إبن صيادٍ للأسماك، فأراده أبوه أن يكون مثله صياداً. فراح يعلمه مدرباً إياه على إصطيادها، إلا أن ذاك الشاب لم يكن سعيداً بسبب عدم ملاقته النجاح في عمله، إذ كان وفي كل مرة يذهب فيها للصيد كان يعود مع الغروب وسلته فارغة، وظلت أموره سائرة على هذا المنوال لفترة طويلة من الزمن، وراح يفكر ملياً بضرورة تركه لمهنة الصيد بحثاًعن عمل آخر. وكان أن حصل معه في يومه الأخير من عمله كصياد أنه وعندما كان بعيداً عن الشاطئ رأى ضباباً طافياً على وجه الغمر ومن خلال ذاك الضباب بان له رجل كهلٌ مبحر بمركبه عائداً من صيده الأسماك وسلته مليئة بأعداد وفيرة منها. وشاهد الكهل في عيني الشاب نظرةً حزينةً، فسأله بصوت ينم عن عاطفة نبيلة:" ما هي مشكلتك يا ولدي؟ ولماذا أنت حزين للغاية؟
أجابه غاضباً:" منذ ما لا يقل عن ثلاثة أشهر وأنا اقصد البحر بمركبي للإصطياد وفي كل مرة كنت أعود وسلتي فارغة".
وظل الكهل صامتاً ومترقباً نهاية قصة الشاب الذي سأله:" أنا أرى سلتك مليئة، فهل أنك وفي كل مرة تذهب فيها للصيد تعود منه وسلتك ممتلئة كما هي الحال الآن؟ أنا أعتقد بأنك محظوظ للغاية، أليس كذلك"؟
فنظر إليه الكهل بهدؤ وقال له:" أنا عندما بدأت بالصيد كانت حالي كحالك تماماً، إذ كثيراً ما كنت أعود وسلتي فارغة، وعلى الرغم من ذلك فلم ينتابني اليأس من ذلك، إلى أن أدركت أخيراً بأن المسألة هي ليست مسألة حظ، بل هي مسألة حب. لذلك فأعلم أنه من الواجب عليك أن تحب البحر كثيراً حتى يبادلك الشعور مكافئأً إياك بملئه سلتك".
- وتابع بيثاغور:" وهكذا أحب الشاب البحر، والبحر أيضاً بادله الشعور".
وأنهى المعلم بكلامه الأخير هذا عظته.
وكانت الجموع شديدة التأثر بقصته البسيطة التي كانت في الوقت عينه شديدة العمق، والتي فهمها بعضهم حرفياً كما هي، أما البعض الآخر منهم فراح ينتظر الرابط الذي سيربطه بتلك القصة وبالمعلم الغامض الذي أخبرها.
- ومن على تلك التلة علا صوت بيثاغور الناعم المحدث الصدى في آذان السامعين حيث كانت النسمات العليلة ملطفة الأجواء هناك، وراح المعلم يشرح ما لقصته تلك من مغازٍ ومعانٍ:" أيها الإخوة والأخوات الطيبون والطيبات. إن الحكمة هي كالبحر تماماً إذ لا يستطيع أحدٌ الوصول لأساسها الكامن ولا بالدنو منه مهما حاول ذلك. وأمام هذا فعلى المرء الساعي إليها أن يحبها حتى يدركها، ذلك أن أدراكها لا يأتي إلا من خلال توازن الأبعاد الثلاثة لكينوتنا. وأعلموا، أن مملكة الحكمة هي في داخل كل فرد منكم حيث من الواجب عليكم إنارة طريقكم لكي تتمكنوا من الوصول إليها. إنها علم الحقيقة".
لقد كانت عظته مليئة بالنعم، وعيناه تشعان حكمة أثناء كلامه محدثة طاقة تواصل إذ جذب بظهوره الجليل الناس لصورته الشبه إلهية الحاضرة دوماً فيه، وتبسّم.
وإنطلاقاً من عظته تلك في كروتونا، فقد جذب إنتباه الناس إليه ملزماً إياهم برفع عقولهم صوب مملكة الحقيقة، الأمر الذي جعل منهم لتوّهم محررين من قيود الخوف التي كانت آسرةً بحثهم عن المجهول.
- وسأله أحد الشبان بفضول:" هل أنت الحكيم"؟
- فرد عليه بتواضع وثقة:" لا، أنا لست الحكيم يا أخي، أنا " حبيب الحكمة " : فيلو – صوفيا (1 ) Philo – Sophia.
وبطريقة مفجاءِة، راح البعض من الكروتونيين يقارنونه بالإله جوبيتر. أما الأخرون منهم فأعتبروه إبن أبولو، في حين أن البعض الآخر منهم رأى فيه تجسيداً للإله أبولو بذاته.
أما بيثاغور من ناحيته، فلم يكن يروق له ما كان يظنه فيه هؤلاء، فأراد أن يؤكد لهم أنه رجل عاديٌ أدرك الأُلوهة بعد أن أمضى سنين عدة وطويلة من تحضير نفسه العميقة وتنقيتها. غير أن الوقت لم يكن مؤاتياً له لإعلانه لهم ما هو عليه حقيقةً، وذلك بسبب إحتمال عدم تفهمهم إياه، أو مخافة أن يستنتج البعض منهم بأن كلامه هو كلام تجديف مهين بحق آلهة اليونان. وراح يفكر بكيفية تلقينهم ما له من علوم ومعارف رويداً رويداً بربطه الرابط المفقود لتركيبة الحقيقة المخفية عنهم.
ومرّت الأيام هادئة بحياة الكروتونيين، ففي كل مرة كان فيها المعلم يصعد التلة كانت الجموع تحتشد من حوله بالمئات للإنصات " لحبيب الحكمة " بإنتباه شديد. أما هو فكان دوماً يخاطبهم مظهراً لهم في خُطَبه الحب والإهتمام الكبيرين لإدراكه في أعماقه بأن المحبة هي اللغة الوحيدة التي يمكنه الوصول من خلالها إلى قلوبهم وعقولهم وحتى أرواحهم.
وكان مجلس شيوخ كروتونا شديد القلق بسبب تنامي إعداد الناس الذين كانوا يقصدونه متهافتين عليه لسماعهم كلماته، وللغاية أراد أعضاء المجلس إتخاذ موقف منه لكنهم إرتأوا أنه من الحكمة أن ينتظروا بعضاً من الوقت، إذ كان من المحتمل عندهم أن تكون ظاهرته تلك لا تتعدى كونها مجرد ظاهرة ثقافية وعلمية لا أكثر ولا أقل وهي ربما ستتوقف تلقائياً في يوم ما من الأيام. أما بالنسبة لدوره كمساري فلم يكن أبداً بنظرهم ليشكل أية مخاطر على مجلسهم ذاك.
وفي تلك الأثناء، كان المعلم يحث الشبيبة على ضرورة التعمق في المعارف عن طريق البحث الدؤوب في المعاني الباطنية المحتجبة خلف العالم الظاهر في وقت كان فيه الكروتونيون يظهرون إلتزامهم القوي بتعاليمه.
وفي إحدى الصباحات الباكرة في الوقت الذي فيه توّجت الشمس المملكة السماوية توجّه المعلم من جديد إلى التلة، وشد ما كانت دهشته كبيرة عندما شاهد جمعاً كبيراً من الشبيبة محتشداً بإنتظار قدومه إليهم. فوقف في وسطهم صامتاً، وأنتابه الشعور بأنه جد قريب من كل فرد منهم، وراحت طاقته بالإنتشار في كل الإتجاهات منصهرة مع طاقاتهم. وبطريقة لا تخلوا من الغرابة ضمّت طاقته طاقاتهم بحضور الإرادة الإلهية.
- وراح يخاطبهم:" يا إخوتي، إني أتمنى لكم الصحة والعافية، وأنتم ربما تتسآلون عني وعن ما سأقوله لكم. فأعلموا أني بإسم الحكمة أتكلم ناطقاً بالحقيقة.
كرموا أولاً إيل – أبولو الإله المطلق بصمت وطهارة. ومن بعده كرموا الآلهة التي لا تموت، وأيضاً القانون الإلهي الذي رتب الآلهة بدقة، وبالقَسَم أعبدوهم. وكرموا أيضاً أنصاف الآلهة، وأخيراً الرجال الذين قاموا بالأعمال الجيدة والحسنة.
ومن المحتمل أنكم تتسألون عن الحياة، فأعلموا أن الحياة هي تسلسل لأحداث وأرقام متجسدةً في مسيرة الزمان والمكان. وأعلموا أيضاً، أن التطور هو قانون الحياة، وعليه فليكن معلوماً لديكم أنه من الواجب عليكم أن تكونوا شاكرين وممتنين لأهلكم الذين نقلوا إليكم التطوّر وعلى هذا أنتم لهم مدينون. وإستمعوا بإنتباه لكباركم، وإحترموا أهلكم، وفكروا بهم بسمو، وأحبوهم غير متسببين لهم بالألم لأنهم أحبوكم وأهتموا بكم من قبل أن تولدوا. فإسمعوا هذا مني وتذكروا دوماً بأنكم مدانون لهم بالشكر والإمتنان وعرفان الجميل تماماً كشخص يكون قد مات، فجاءه من أقامه من موته معيداً إياه للحياة والنور".
وبعدها، مد يده اليمنى ناحية الشرق، أما اليسرى فمدها جهة الغرب وتابع كلامه:" في الصباح تشرق الشمس من الشرق، وفي المساء تغيب من الغرب. وإن هذا القانون الطبيعي هو دائم التكرار يومياً، إنه بذلك ممثلٌ دورة التجسد. وأعلموا، بأن الشرق هو أكثر كرامة من الغرب، وكذلك الصباح أكثر من المساء. لذلك، فأنتم ترون بأن البداية التي هي نصف الكل لها قيمة أكثر من النهاية تماماً كالحياة التي هي ذات قيمة أكبر من نصفها الثاني الذي هو الموت".
وكان المستمعون له جد معجبين بحكمته وشريعته وآدابه.
وإنتابهم الشعور بالإرتياح من أثقال وتعقيدات الحياة ومن ما عليهم من واجبات حيال أهلهم.
وببطء بدأوا يستوعبون ويفهمون تعاريفه الفلسفية للأشياء ولكل ما كان ينقله لهم من حقائق.
* * *
لاحقاً، إنتقل بيثاغور وتلاميذه إلى المدن المجاورة من ريجيوم Rhegium إلى سيباريس Sybaris مدركاً من كبار تلك المدن بأنها في الماضي كما الحاضر قامت بممارسات غير لائقة ولا عادلة تجاه بعضها البعض، هذا فضلاً عن ما قاموا به من إستعباد فيما بينهم.
- وراح بيثاغور يخاطب أبناء هذه المدن ببلاغة:" أيها المواطنون الأصدقاء، إن الحياة البشرية طبيعياً سوف تتأثر سلباً بسبب الأفكار والتصرفات الغير لائقة لتصبح بذلك مساقة بالرغبات الغرائزية في إستخدام القوة للسيطرة الساكنة في نفوسنا الجبانة والضعيفة والمريضة. وإن هذه الأساليب من شأنها أن تؤدي إلى وقوع أحداث كارثية في المجتمعات البشرية. فالبشر كانوا دوماً يبحثون عن الحماية، ولتأكيدها قاموا بكل ما هو ضروري مستخدمين القوة في الكثير من الأحيان مما أدى إلى ولادة العدائية التي بسببها حل الظلم وإستعباد الضعفاء، وكان كل ذلك نتيجةً لشذوذ العقل البشري. فأسمعوني بدقة وإنتباه، فأنا أطلب منكم أن تتوحدوا مع الآخرين بطريقة جديدة.
تصالحوا مع أعدائكم.
نقوا أنفسكم من من العداء والعدائية وأللاعدل والرغبة بالإستعباد.
وإعلموا بأن كل هذه الأمور تتطلب شجاعة، فكونوا شجعان. وأفعلوا ذلك بتواضع وإعتدال.
وحثوا أنفسكم على عشق الحرية.
وهذبوا مشاعركم لتشعروا بالعدالة والعيش بمساواة، لأن هذه هي أهم الصفات الحقيقية للحكمة".
ودخلت كلماته إلى عقولهم ملهمة إياهم في البحث عن آفاق جديدة وإنتماء جديد لبشرية مسالمة ومُحِبة في خطة الحياة المتطورة.
فبيثاغور بحكمته فاق كل حكماء اليونان، وحتى كل العلماء الكبار من حول المتوسط. ذلك أنه خلاصة الحكمة البشرية على الإطلاق.
وفي إحدى أيام الربيع، كان المعلم ذاهباً برحلة من سيباريس إلى كروتونا وهو مستمتع بالطقس المعتدل والهواء العليل حيث كانت الشمس بادية وكأنها تلعب إيقاعاً، مكوّنةً بذلك نقاطاً متحركة على ردائه الناصع البياض. وكان البحر هادئاً، وهو في طريقه على مقربة من الشاطئ، إلتقى بالبعض من صيادي الأسماك وهم يرفعون شباكهم المملؤة منها. فأدرك المساري بأن الوقت قد حان له بغية أن يظهر ألوهيته ذلك أن الظروف باتت مهيئة أمامه للإتيان بمعجزة.
- وخاطب الصيادين قائلاً:" مرحباً يا أصقائي الصيادين، إني أراكم جد متحمسين وأنتم ترفعون الشباك من أعماق المياه".
- وردوا عليه فرحين:" نعم بالتاكيد".
قال:" إذن لا تكونوا متفجائين إذا قلت لكم أنه بمقدوري معرفة الرقم الدقيق لما أصطدتموه من أسماك".
- وقال أحد الصيادين بسخرية:" وهل انت إلهٌ من الآلهة؟ فنحن كنا قد سمعنا دوماً عن أناس كثيرين فيما مضى كانوا قد إدعوا بمعرفتهم المجهول، ولكن سرعان ما كان يظهر بأنهم ليسوا سوى أناس مجانين".
وضحك الكل ساخرين من المعلم.
وضحك معهم أيضاً بيثاغور من دون أن يعلق بشيء، ومن ثم نظر إلى كل فرد منهم. فإنتابهم الشعور بأن نظراته الخارقة قد نفذت إلى عمق أعماق نفوسهم، وراحوا يرتجفون من الداخل.
وساد السكون لهنيهات على الشاطئ، وكأنه ضباب غيمة مرخية بظلالها عليهم.
- وقال:" يا أيها الصيادون الأعزاء، عندما أدلي بنبؤتي ويظهر لكم صدقها وصحتها يجب عليكم عند ذاك أن تعيدونني بشيء واحد".
- الصيادين:" ما هو هذا الشيء الذي تريد منا ان نعدك به"؟
- بيثاغور:" يجب عليكم أن تعيدوا الأسماك حية إلى المياه في البحر".
- وسأله واحدٌ منهم بقلق:" ولكن، ماذا سنأكل"؟
- وسأله آخرٌ كان كهلاً:" حية"؟
- وقال أحدهم مظهراً الجدية والحراصة:" إن الصيد هو عملنا الذي نقوم به لنحيا".
- عند ذاك تكلم المعلم بحذاقة وإهتمام:" أتركوا مشاكلكم وقلقكم لي، وتحلوا بالإيمان. فلا عليكم، سأحلها".
وبدأ الصيادون بوضع أسماكهم التي كانوا قد إصطادوها على رمال الشاطئ، وراحوا يعدّونها. وكان بيثاغور مراقباً إياهم بدقة. وأستغرق عدّها الكثير من الوقت لكثرتها، وهي كانت ما تزال حية بحضور حبيب الحكمة. . . وعندما أتموا مهمتهم بعدّها كلها، أبلغهم بيثاغور بعددها، وشد ما كانت دهشتهم كبيرة، ذلك أن الرقم الذي أعطاهم إياه كان مطابقاً بالتمام والكمال لعددها. وراحوا يتهامسون فيما بينهم مبدين إعجابهم الكبير به، وتقديرهم لما له من قوة على الإدراك.
- وقال لهم:" الآن، وبعد أن شاهدتم بأم العين ذلك، أطلب منكم حالاً إعادتها كلها إلى البحر".
فأعادوها إنفاذاً منهم للوعد الذي قطعوه على أنفسهم أمامه، ومن ثم قام بدفع ثمنها كاملاً لهم طالباً منهم أن لا يخبروا أحداً عن تلك الواقعة.
بعدها، رجع إلى كروتونا تاركاً خلفه إبتسامته الإلهية.
وتبعه الصيادون الذين آمنوا به. وتمكنوا من معرفة إسمه من بعض الصبية الذين كانوا هناك على الشاطئ جالسين. وما هي إلا بضع ساعات حتى شاعت أخبار تلك المعجزة بين كل النساء والرجال. وبات الكثيرون جد تواقين لرؤية المعلم الخارق ومخاطبته والإستماع إليه، وراحوا يتقاطرون إليه قاصدين كروتونا من كل أرجاء إيطاليا.
* * *
في ذلك الوقت لم تكن شهرة بيثاغور لتشكل ظاهرة ثقافية وإجتماعية مثلما أعتقد أعضاء مجلس شيوخ كروتونا، ولم يكن بيثاغور مشعوذاً ولا دجالاً بل كان يبدو مجسداً للغز حقيقي ذلك أن أتباعه والمخلصين له باتوا بالآلاف وهم قادرين على فعل أي شيء.
واستدعى مجلس الشيوخ المؤلف من 1000 عضو بيثاغور ليمثل أمامه، وعندما أتاهم رحبوا به بإحترام كبير.
- وسأله رئيس المجلس:" نحن سمعنا بالذي كنت تعلمّه لأولادنا، وها نحن الآن ملتقون وإياك موافقينك على كل ما طرحته من قوانين إجتماعية وأخلاقية. لكن، قل لنا صراحةً، لماذا تقوم بكل ذلك حاملاً كل شيء على منكبيك"؟
- أجاب:" بما أنكم كلكم يا أيها النبلاء موافقون على تعاليمي فإن ما طرحتموه عليّ من أسئلة إستضاحية لا قيمة له البتة. على أي حال، لست أنا الشخص الوحيد الحامل كل هذه الأثقال بل كلنا حاملين إياها بطريقة أو بأخرى نحن بني البشر في سيرنا على دروب الحياة الوعرة".
وتوقف المساري عن الكلام للحظات، لكي يتابع بعدها كلامه، غير أن واحداً من كبار أعضاء مجلس الشيوخ قاطعه بقوله:" لكننا سمعنا، والبعض الآخر منا رآى أنه ولدى تكلمك، فإنك تتكلم وكأن ثمة قوة خفية عاملة فيك. فما هو سرك؟ وما هي تلك القوة الخفية التي تمكنك من قيادة الناس"؟
- أجابه بهدؤ:" لا يوجد هناك من سر، إن القوة الخفية التي أنتم عنها متسألين هي ليست سوى ما للحكمة من قوة. تلك الحكمة النائمة في كل فرد منكم منتظرة إستنهاضها في داخلكم، وأعلموا أن المسألة معي هي ليست في كوني قائداً للناس بل هي في إنصهار أساسنا الكامن، وهم بذلك إليّ منجذبين بنفس الطريقة التي فيها أنا منجذبٌ إليهم ".
فنظر وجهاء مجلس الشيوخ ببعضهم البعض مدهوشين بعد أن تبيّن لهم أن بيثاغور لا يشكل عليهم أية مخاطر تذكر، وبدت لهم كلماته حاملةً معانٍ إلهية.
- وسأله أحدهم:" لقد سمعنا عنك بأنك قد قمت بمعجزة، والناس منهم من يرى فيك إلهاً، ومنهم من يرى بأنك مجسّدُ لأبولو في إحدى تجسداته. هل أنت فعلاً كذلك؟
- ورد عليه المعلم ببراعته المعهودة:" تجسد أبولو؟ أو إحدى تجسداته؟! كيف لي أن أكون كذلك؟ وأنا مولود من إمرأة. إسمعوني، لقد قلت للكروتونيين مراراً وتكراراً من أنا، ولكم سأقولها أيضاً يا أيها الإخوة الأعزاء: أنا حبيب الحكمة،وهذا ما أنا عليه. وضعوا في رؤوسكم بأن عملية ولادة الإنسان هي مقدسة وعليكم واجب إحترامها كثيراً لأنها الطريقة الوحيدة التي بها يتم تقمص روح العالم".
لاحقاً، سأل المجلس بيثاغور عما إذا كان لديه أي شيء ذو قيمة يريد قوله للكروتونيين، إذ أن أعضاء المجلس سيكونون جد مسرورين بإلإستماع لك، لأننا كلنا في هذا المجلس القادة الحاليين للناس.
إنها دعوة رسمية للمعلم ليتوسع بما له من تصورات حتى يزداد الناس تعمقاً بما له من علوم، ومن ثم قدم لهم الضمانات بأن تعاليمه لا تشكل أية مخاطر على دستور دوريان Dorian ( 2 ) المعمول به في كروتونا، بل على العكس من ذلك فإن تعاليمه من شأنها أن تدعم الدستور. وبعد أن إستمع المجلس لتأكيداته تلك، إنتابهم الشعور بالإرتياح. إذ أن بيثاغور لم يكن أبداً مشكلاً أية تهديدات لهم وللناس على السواء، فهو المجسد لشخصية الإنسان المصلح الروحاني.
- وتكلم ببيثاغور مظهراً إهتمامه الكبير:" يجب عليكم أن تدركوا يا أيها الوجهاء الكرام بأنكم قد ورثتم بلادكم هذه من آبائكم وأجدادكم، وبأنكم قد حصلتم على مركزكم هنا في هذا المجلس بفضل ما منحكم أياه الناس من ثقة كإرث مشترك بينكم وبينهم. وأنا إنما قلت لكم ذلك كي تمارسوا سلاطاتكم وفقاً لذلك كي تتمكنوا من نقلها بإخلاص للأجيال التي ستأتي بعدكم".
- ومن ثم، سار بيثاغور في تلك القاعة ليقف في وسطها متابعاً كلامه:" إسمعوني جيداً، أنا الآن سوف أعطيكم خمسة وصايا من الحري بكم الإعتماد عليها في إدارتكم الحكم:
1- ساووا بينكم وبين كل الناس فيما تفعلونه لهم. وإذا رغبتم في أن تقوموا بعمل ما إستثنائي فليكن ذلك العدالة بحد ذاتها، هذا لأن كل إنسان يتوق إليها.
2- ليكن كلامكم دوماً محقاً، ولا تقسموا بالآلهة التي من الواجب فصلها عن قوانين المدينة . وخذوا دوماً الخيارات والقرارات الحازمة في إدارتكم للحكومة.
3- كونوا مخلصين في كل شيء وخاصة لزوجاتكم، فلا تكون لكم علاقاتكم الغرامية خارج إطار الزواج من أجل أن تتجنبوا تفكك الأسرة والمجتمع، ولكي لا تصبح أمّتكم قائمة على الأبناء اللاشرعيين.
4- كونوا مهتمين بالآخرين كي لا يقوموا بالأعمال السيئة والمشينة ولا تخيفوهم بإلحاق القصاص بهم عند مخالفتهم القوانين، بل على العكس من ذلك. فضعوا في أذهانهم الإحترام العميق للتصرفات الحسنة وقدموا لهم الفرصةلأنها الطريق الوحيدة " والجيدة " التي تجعل منهم مدركين لطريق الحق والخير في الحياة.
5- كونوا متعاونين مع الذين يخالفونكم الرأي ولا تعتبروا أن إختلاف رأيهم عن رأيكم هو بالأمر المهين لكم، بل على العكس من ذلك إذ يجب عليكم الإستفادة من ما لهم من أفكار وتصورات. وأقول لكم: عيشوا الديمراطية".
لقد إستمع المجلس للمعلم بتعجب ناظرين إليه بإعجاب ذلك أن ما طرحه من أفكار وقوانين إصلاحية كانت حاملة في طياتها العناصر الحقيقية للحكمة الأصيلة.
ومرت الأشهر، وبيثاغور يلاقي النجاح في جذبه للأعداد الكبيرة من المواطنين الأغنياء وغالبية أعضاء مجلس شيوخ تلك المدينة، هذا فضلاً عن الأعداد الكبيرة من الشبيبة الذين كانوا قد إلتحقوا به سابقاً. وهو بما لديهم من قوة ونفوذ تمكن أن يعيد لكروتونا إستقلالها وحريتها، وباتت كل المدن من ريجيوم إلى سيباريس حاصلة على كل ما حصلت عليه كروتونا. ولدى تحقق كل تلك الأمور بات كل الكروتونيين ومواطنوا المدن المجاورة لها شديدي الإعجاب به.
وفي غضون ذلك، كان طموحه وإرادته في الجعل من البشرية على أفضل حال قد قطع به أشواطاً بعيدة صوب التحقيق بطريقة أكثر شمولية. وهو لاحقاً وفي إحدى إجتماعات مجلس شيوخ كروتونا عرض عليهم تشييد معهد يضمه وتلاميذه وهو الذي كان قد قام بعرض فكرته نفسها على الأغنياء من الكروتونيين.
- فسأله بإحترام رئيس المجلس مستوضحاً:" هلا تفضلت بتقديم شرح وافٍ لنا عن الغاية التي منها تريد بناء المعهد"؟
- أجابه:" إن غايتي في بناء المعهد هي في أن أجعل منه مقراً لأخوية مكونة من مساريين علمانيين يعيشون سوية حياة مشتركة مع بعضهم فيه من دون أن يكونوا منعزلين عن المجتمع، ومن بين أؤلئك الأشخاص المساريين المستحقين سيكون هناك أساتذة – مساريين ليعلّموا الرياضيات والفيزياء وعلوم النفس والدين. أما الشبيبة المتابعة لقوانين الشراكة في الحياة فسيكونوا خاضعين لإمتحانات يحددها لهم المسارون ليصار بعدها إلى قبولهم لتلقي المسارة التي بعدها وتحت قيادة المعلم الأكبر في الأخوية سينضمون إلى الدرجات المختلفة من المسارة كلٌ حسب مستواه الفكري في الذكاء وإرادته الخيّرة. وفضلاً عن هذا كله، فسيكون على الراغبين في دخول الأخوية التخلي طوعاً عن ما لهم من ممتلكات حيث يصار إلى وضعها بعهدة أمين صندوق الأخوية الذي وفي حال قام أحد الإخوة بتركه الأخوية، فإن أمين الصندوق ذاك سيعيد له ممتلكاته . وسيكون لدي في الأخوية أيضاً جناح مخصص للنساء حتى يتمكنّ من تلقي المسارة وفق ما هو منسجم مع ما لهنّ من أدوار في الحياة".
وبذلك، أنهى المعلم كلامه شارحاً بدقة أهدافه الرامية لتشييد معهده.
وكان، أن معظم أعضاء مجلس شيوخ كروتونا قد حبّذوا فكرته فراحوا يتداولون فيما بينهم بشأنها.
وبعد مرور القليل من الوقت، تبنوا مشروع المعلم بوضعهم إياه على جدول أعمالهم للسنوات القادمة.
وفي داخل قاعة المجلس تم إبلاغ بيثاغور بقرار المجلس الداعم لمشروعه، فشعر بالسعادة تغمر قلبه. هذا لأن رؤياه قد صارت حتمية التحقيق.
- وقال لهم:" إن أعظم الرجال هم اؤلئك الذين يرون ما هو مفيد لمجتمعهم فاهمين ومتعلمين من الأحداث المفيدة التي أختبرها الآخرون".
وأنتابهم الشعور بالإطراء.
* * *
ومرّت ثلاث سنوات في ذاكرة الكروتونيين قبل أن دمروا بيت الدعارة الذي كان على حدود مدينتهم مشيدين مكانه معبداً جعلوه مكرساً للحوريات ( 3 ) وكان ذلك في حوالي سنة 515 ق.م.
وكان ذاك المعبد محاطاً برواق ذو أعمدة تحيط به الحدائق الخضراء التي كانت تفوح منها الروائح العطرة. وبوسط ذاك المكان كان بيثاغور قد قام بتشييد بيته، ذلك أن المعلم كان دوماً يظل في الوسط مشعاً على الدائرة لتفضيله البقاء على مسافة واحدة من الجميع.
- وفي ذات مرة أنتابه الشعور بضرورة أن يقوم بمخاطبة شبيبة كروتونا، فقصدتهم في معبد أبولو من أجل ذلك، وقال:" أيها الإخوة الأعزاء، سأقدم لكم الآن البعض من النصائح التي عليكم أن تفكروا بها وتتأملوها لتعملوا بها في حياتكم، فإسمعوا:
1- لا تحكموا على أحد، ولا تقوموا بأي رد فعل على الذين يحكمون عليكم.
2- إنه لمن السهل على البعض أن يكونوا معتدلين في حياتهم ومكمّلين مناشدتهم للحقيقة، غير أن ذلك هو بالأمر الصعب في المحافظة عليها ما دام الوقت يمر على الناس الذين ما تعلموا من بداياتهم كيفية الحفاظ عليها من الأناس السلبيين.
3- إذا قررتم السلوك في تلك الطريق، فيجب عليكم إتباع الأشخاص الذين تركوا البصمات الأولى، فلا تكونوا لهم من المعارضين كي لا تتسبوا لهم بالمهانة.
4- وأخيراً، أقول لكم: من المفروض عليكم أن تسمعوا بإنتباه شديد كي تتمكنوا من التواصل مع الناس حتى يستمعوا إليكم هم بالمقابل. ولذلك، فعندما تريدون الكلام كونوا مختصرين فيه قدر المستطاع إذ أنكم بذلك تتركون الأثر الكبير بالقليل من الكلام".
- ولاحقاً، إنتقل بيثاغور إلى معبد جونو حيث كانت النسوة منتظرات إياه بحذر، فخاطبهن:" أيتها الأخوات دعوني أقدم لكنّ أربعة نصائح عليكنّ التفكير بها، فإسمعنّ:
1- قبل كل شيء كنّ متواضعات وعادلات وذوات أخلاق عالية كي تسمع الآلهة صلواتكنّ.
2- لا تعبدنّ الآلهة بالدم والأجساد، بل على العكس. فقدمنّ لها الحلوى التي من صنع أياديكنّ ولا تزيدنّ في التقدمات لها كي لا تشعرنّ بأنكنّ مقصرات في واجباتكنّ في التضحية لأن أهم ما يعمله الإنسان في حياته هو التضحية. . .
3- من الواجب عليكنّ محبة ازواجكنّ كما أحببتمنّ أهلكنّ، وعليه فلا تعارضوهم وفي نفس الوقت لا تكنّ خاضعات لهم. لكن، لا تهملنّ القيام بالطقوس المقدسة في اليوم الذي فيه تجتمعنّ بهم في علاقتكنّ الزوجية وهذا من حقنّ فعله.
4- كنّ مستمعات الآن لما سأقوله لكنّ. إن نوعكنّ يا أيتها النساء هو مناسب كثيراً للإخلاص الديني. ولتكن تلك الكاهنة العرافة في معبد دلفي مثالاً لكنّ في كشفها الغامض. وليكن معلوماً لديكنّ أنه ليس من الضروري أن تلبسنّ الثياب الباهظة الأثمان مثلما أنتنّ الآن لابسات، بل على العكس من ذلك. فأنتنّ وعندما تدخلنّ المعبد عليكنّ أن تكنّ خاشعات وبلا حلي وجواهر لما لها من تأثير مادي عليكنّ، أما ثيابكن فيجب أن تكون بسيطة للغاية".
- ومن ثم، انهى المعلم لقاءه معهنّ بالكلمات التالية:" أنا سأقوم الآن بتسمية العذارى من بينكنّ:
عشتروت – بروزر باين.
أما العروس فهي نينفا.
والأم ماثير.
والجدة مايا".
وبعد مخاطبته الكل في ذاك النهار، شعر بيثاغور بالسرور لأنه فتح الطريق أمامهم للدخول إلى مجتمعه الذي كان حينها في طور التأسيس، أما الكاريزما التي كانت فيه فكانت تلهم سامعيه مؤكدة لهم شخصيته الفريدة الأمر الذي جعلهم يطلقون عليه لقب المؤَلَه بدلاً من إسمه بيثاغور ولكنه ومن دون أي إستغراب لما لقبه به هؤلاء، كان يفضل أن ينادوه بحبيب الحكمة أو الفيلسوف.
إن الألوهة ما كانت أبداً صفة مغلوطة تطلق عليه، وهو الذي سمع في إحدى المرات بوجود أنثى دب كانت تهاجم السكان مسببة لهم الجراح والآلام، فدنى منها ناهراً إياها فجمدت في مكانها ولم تعد تأتي بأية حركة. ولدى إقترابه منها أكثر، راح يدللها بيديه الناعمتين والقويتين مشيراً لها إلى مرجة خضراء كي تذهب إليها. وبعد ذلك أطعمها البعض من حبوب الذرى والبعض من من ثمار شجرة السنديان التي كانت على مقربة من هناك، ومن ثم امرها بأن لا تعود للإقتراب مجدداً من أي كائن حي. وللحال، إبتعدت إلى الغابة وإختبأت في الجبال ولم يعد يراها أحد من الناس في الجوار.
وراحت أعداد المجبين به تتزايد يوماً بعد يوم بشكل هائل بسبب ما كان يقوم به من معجزات وما يدلي به من تعاليم للحكمة التي أدركها.
وفي يوم من الأيام، وهو في منزله منكبٌ على ما سيتخذه من اجراءات لأجل مجتمعه هذا فضلاً عن إعداده لعقيدته التي كان أمله جد كبير بما سيكون لها من أثارٍ كبيرة في تطوّر البشرية، تناهى لمسمعيه صوت الجماهير الكثيرة الحماس خارجاً. فترك البيت ليرى ما هو الحاصل خارجاً، وإذا به يجد الناس المنتظرة إياه بشغف كبير يريدون سماع عظة منه، فقال:
" إن الحياة هي كالألعاب الأولمبية حيث تقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام مختلفة، منهم من يأتون إليها للقتال وهم المصارعون، ومنهم من يقصدها للتجارة، أما الذين هم اكثر حكمة فيأتون إليها فقط للمشاهدة وهم سعيدين بذلك. ودعوني أعلمكم بأن دخول الناس إلى هذه الحياة هو كتعاقب الجماهير لتلك الألعاب ولكن في واقع إجتماعي معيّن ووجهات نظر متباينة حيث البعض منهم تراه متأثراً بالحاجة للمال وللأشياء بغية الحصول على الرفاهية، وهذا هو الشر الأول الذي يدخل البيوت والمدن. أما البعض الاخر منهم فهم المحبين للقوة والسيطرة. وأخيراً هناك الذين بقومون بتركيز طاقاتهم على المجد الذي به هم راغبون. فإعلموا، أن أطهر الناس هم الذين يتأملون بالأمور الرائعة والأشياء التي من شأنها أن تستنهض في نفوسهم الحياة، إنهم الفلاسفة. وليكن معلوماً لديكم أن ما شيء يحدث صدفة، ولا بالمال يمكنكم تحقيق ما تصبون إليه. ولكن، بالإرادة الإلهية تحدث الأمور خاصة للأناس الخيّرين والأتقياء".
ولامست كلمات عظته تلك قلوب الجموع المحتشدة، إذ كانت بالنسبة للغالبية منهم بمثابة دعوى مفتوحة لمتابعتهم علومهم الفلسفية. وهذا ما كان بالضبط ما يريده بيثاغور.
ولكن ماذا عن كلامه الذي ذكر فيه " هذه الحياة "؟
هل كان يشير إلى عقيدة التقمص؟
هل أدركوا ذلك؟
وراح يتسآل.
- بعدها تكلم المعلم ثانية:" إن الحياة البشرية مقسّمة إلى أربعة مراحل:
ففي البداية نكون أطفالاً ومن ثم نصبح شباباً في غضون عشرين سنة.
إنه ربيعنا.
وبعده، نعيش راشدين لعشرين سنة أخرى.
إنه صيف حياتنا.
ويليه، عشرون سنة أخرى نعيشها ونحن كباراً.
فهذا هو خريفنا.
وأخيراً، نشيخ لعشرين سنة.
ويكون ذلك شتاءُنا.
وإن كل هذه المراحل في الحياة تشكل وحدة مع الفصول الأربعة لأمنا الطبيعة".
في الحقيقة إنه ليس فقط نحن والطبيعة، بل كل المخلوقات هي متشابهة بطريقة فريدة من نوعها وغريبة بذاتها.
ولا بد من الإشارة، إلى أن بيثاغور وكلما شعر بالحاجة إلى إظهار قواه كان يفعل ذلك بشغف كبير.
وفي يوم من الأيام في تورنتوم Torentum التي جاءها المعلم، قام بمنع ثور من أكله الفول في إحدى الحقول وذلك بعد أن همس بأذنيه. ولم يعد بعدها ذاك الثور يأكل تلك النبتة التي باتت نبتة مقدسة بالنسبة للمعلم!
ومن خلال أعماله تلك وغيرها من الأعمال المشابهة، كان بيثاغور يثبت بأن الأعمال التي كان يقوم بها بما لديه من قوى ليست مطلقاً أعمال شعوذة أو أي نوع آخر من الخدع السحرية التي تطبق على الحيوانات البرية المفترسة. فأعماله تلك، كانت بمثابة التجسيد للحكمة الإلهية التي كانت تخرج مباشرة من فمه إذ كانت لديه قوة الكلمة.
وفي أحد الأيام عندما كان عابراً لنهر كوساس ( أو ) ناسوس سمع صوتاً إلهياً يحييه، لقد كان ذلك الصوت آتياً من الدوائر العليا في مملكته الداخلية قائلاٍ له:
" لا تخف، أنا أباك المحب أضع بين يديك أسس المملكة الكونية".
كان المعلم وحيداً في صمت يقوم بتجزيء تنظيم أخويته إلى دائرتين أولها الدائرة الداخلية التي فيها معرفة الناحية الخفية للأشياء التي يتم إكتشافها، هذا فضلاً عن ألغاز المعلوم وأللامعلوم حيث تصبح ظاهرة للأشخاص المؤهلين للمسارة.
أما ثانيها، فكانت الدائرة الخارجية التي تضم كل الأعضاء الاخرين في المجتمع البيثاغوري الذين كانوا يحيون أيضاً في المدينة قائمين بالطقوس الظاهرية في عبادة أبولو الإله المطلق الواحد الموناد الصوفي وأيضاً عبادة الحوريات باحثين عن حياة متطورة إجتماعياً.
وهو متبعٌ لرؤياه، وضع حبيب الحكمة تصوراته الأساسية للعقيدة التي هي مرتكزة أولاً على الإيمان بأن الإنسان هو طبق الأصل عن الكون في داخله. وثانياً الإيمان بخلود النفس، وأخيراً الإيمان بتقمص الأرواح في أجساد جديدة.
في الحقيقة تصوّر بيثاغور بحكمة نظاماً لأخويته خالقاً بذلك مجتمعاً علمانياً ودينياً في آن واحد. أما فيما هو متعلق بالعقيدة فقد قام بيثاغور بجمعه كل المبادئ التي كان قد تعرّف عليها سابقاً من الحضارة الكنعانية – الفينيقية، إلى حضارة المصريين، والكلدانيين، والزردشتيين، والحكماء الصوفيين الهنود.
وهكذا، ولد المجتمع البيثاغوري الذي كان يضم معهداً تتم فيه الدراسات الكاملة عن العلوم في الحياة بحيث أن التلميذ وهو يدرس بإنتباه كامل النظريات كان يدخل في تطبيقها بحذر، ليجد نفسه سائراً على الطريق التي توصله إلى تناغم الأسرار الباطنية في روحه وعقله مع الكون.
لقد كان هذا سر الفلسفة الحقيقية الذي كان بيثاغور يظهره علانية لتلاميذه وخاصة اؤلئك الذين كانوا من الدائرة الداخلية. وهو بمثابة الإرتقاء للفكر البشري نحو المستويات السامية من الوعي حيث يتم هناك الإنصهار.
إنه تحقيق داخلي للحقيقة التي تجذبنا كلنا إذا أردنا الدخول إلى داخل مملكتها حيث تسكن المحركات الأكثر عمقاً للإيمان.
وهكذا، قصد المعلم أن يجعل من الفلسفة الديانة الحقيقية للحكمة. وتحت قيادته نمت المدينة وباتت مجسدة لطريقة حياة أكثر مثالية.
ـــــــــ
[CENTER]
يتبع (f)[/CENTER]