{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
Al gadeer غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,723
الانضمام: Jan 2004
مشاركة: #11
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
انت رائع يا عزيزي

تابع بوركت

(f)
07-23-2005, 01:38 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #12
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
وهذا الفصل الرابع لعيونك يا Gadeer يا أدمي ... ولك هذه (f)وخصوصا ً أنني علمت مؤخرا ً انك شاركت في موضوع من مواضيع الأميرة

وللزملاء نتمنى حسن المتابعة (f)

****

الفصل الرابع


ألغاز مصر


ظهرت ممفيس كحقيقة جوهرية لحلم طالما آمل بيثاغور بتحققيقه، وأخذته الدهشة عندما شاهدت عيناه جمالها.
وتحت نور أشعة الشمس المصرية الأولى، راح بيثاغور يمشي متذكراً السنوات الست التي أمضاها في معابد وطنه كنعان – فينيقيا، متلقياً المسارة.
إنها السنة 541 ق.م، وبيثاغور بلغ من العمر عامه أل 29. فدخل المدينة عبر غابة من المسلات: Obelisk. وظهرت أمامه التماثيل الواقفة في كل مكان مرحبة به في مملكة الألغاز.
وكان بيثاغور مدركاً، بأنه وفي داخل المعابد المصرية كان العلماء بالأسرار الباطنية مقيمين. أؤلئك العلماء المالكين العلوم الباطنية، أي المعرفة الإلهية. فأرتجف من الداخل لشعوره بأن أسرار الآلهة لم تعد بعيدة عن متناوله.

من بعيد، وعلى درجات الهيكل، كان يبدو ظاهراً ما هو أشبه بإنسان في حلة بيضاء مراقباً بيثاغور السالك عبر درجة الحكمة والأستذة. أما بيثاغور، فلم يلحظ بأن هناك ثمة شخص ما يقوم بمراقبته. إنه المعلم الأكبر، الذي لاحظ في بيثاغور طاقة حقيقية للبحث عن الحقائق.
وقد شاهد بيثاغور أثناء سيره لنهاية الغابة، البعض من خدام الهيكل الذين كانوا بإنتظار وصوله إليهم. ومن دون أي كلمة، ساروا به إلى القاعة الداخلية المحاطة بأعمدة اللوتس الكبيرة – " عرائس النيل "، التي كانت حاملة بكل نقاوتها وجبروتها العقد الشمسي، معبد أوزيريس.
ودنى المعلم الكبير من بيثاغور، وهو مرتدي رداءً من الكتان الأبيض، وفي رجله حذاءٌ من ورق نبات البابيروس، وكان أصلع الرأس. وراحا ينظران ببعضهما، فأعجب بيثاغور بنظراته الهادئة والمعبّرة عن ما في مصر من ألغاز. ولاحظ بيثاغور أيضاً نوراً داخلياً يلمع في عينيّ كاهن أوزيريس. أما الكاهن، فقد وجد في بيثاغور روحاً أصيلة لتجسد المقدس، ذلك أن بيثاغور لم يكن بإستطاعته إخفاء ذلك، لأن ذاته الحقيقية كانت سالكة على درب التنوّر.
- وسأله الكاهن بصوت خافت:" أعتقد بأنك كنعاني – فينيقي، وأستطيع الجزم بذلك من خلال لباسك الأرجواني.
فما هو إسمك؟
ومن أية مدينة أنت؟
ومن هم أهلك"؟
- فأجابه:" أنا بيثاغور من صيدون. أما أبي فقد كان تاجراً جاب كل أرجاء المتوسط، وأمي هي ربة منزل عادية".
- الكاهن:" في أي معبد تلقيت دروسك في المسارة"؟
- بيثاغور:" لقد تتلمذت في كل معابد كنعان – فينيقيا، من صور إلى جبيل فصيدون.
حتى أنه مؤخراً، كان أن قُبِلَ بي في معبد جبل الكرمل حيث أصبحت أخاً في " الأخوية البيضاء ". وهذه رسالة توصية بي ( 1 ) لك من الكاهن الأعلى لذاك المعبد".
- وأدرك الكاهن بأن بيثاغور كان يقول الحقيقة، فقال له:" إحتفظ بالرسالة معك يا بيثاغور، فأنا أصدقك. أنا هو سونخيس وسأظل مراقباً إياك، هلا تبعتني من فضلك"؟
وسار الإثنان معاً عابرين القاعة بخطوات ثابتة.

لقد كان المصريون إلى جانب كونهم مهندسين بارعين، فنانين كبار أيضاً. إذ أن رسوماتهم على الجدران والأعمدة جذبت إليها عينا بيثاغور. إنهم ذواقين في مزجهم للألوان مع بعضها. وكان اللون الذهبي الأصفر، كما الأحمر، والفيروزي، والأبيض، السمات البارزة في رسوماتهم لآلهتهم ، وللبشر، وللحيوانات، ولأشياء أخرى على خلفية رملية، معطية الشعور الدائم بالغرابة حيالها، والإعجاب بها.
وعبرا الأبواب الكبرى إلى الخارج، ليدخلا رواقاً حجرياً شاقاً الصخور، تحيط به ألواح مزدانة بالنقوش، هذا فضلاً عن عدة تماثيل لأبي الهول. وعند ذاك أحس بيثاغور بحضور غريب، والسماء فوقهما صافية. ووصلوا إلى معبد صغير، واقف أمام باب مدخله تمثال ملوكي لإحدى الآلهة الأنثوية، وهي جالسة على عرشها، متوجةٍ بقرص الشمس المحاط بقرنين. وفي يدها المستندة على خضنها كانت تحمل الصليب المصري Ankh. أما في يدها الأخرى فكانت ممسكة بكتاب مُغلَق، أما وجهها فلم يكن ظاهراً لأنه مغطىً. وكانت هناك كتابة تحت التمثال، فقراءَها بيثاغور:
" ما من إنسان مائت إستطاع أن يرفع الحجاب".
- وقال له كاهن أوزيريس بهدؤ:" إنها إيزيس حاملة الأسرار الباطنية ".
وظل بيثاغور محافظاً على صمته.
- وأضاف الكاهن:" وراء هذا الباب تجد المكان الحاوي للأسرار الباطنية، أنظر يا بيثاغور إلى العامودان أمامك. فالأحمر يرمز لصعود الروح بإتجاه أنوار أوزيريس، أما الأسود فهو يرمز إلى حبسها في عالم المادة".
ولدى سماع بيثاغور لكلمات الكاهن، راح ينظر بعمق إليها، متذكراً العامودان اللذان كان قد سبق له أن رآهما في رحلته الروحية على مدخل معبد بعل – ملقارت في صور، فتعجب بصمت.
- وتابع الكاهن الكلام:" إن مطلق أي إنسان يغامر بدخوله إلى كنه علومنا وعقائدنا السرية الباطنية، يكون بمثابة المتلاعب بحياته والعابث بها. إذ أن الضعيف والشرير سيلاقي الفشل الحتمي. أما القوي والخيّر، فبإمكانه الولوج إلى الحكمة وخلود النفس. على أي حال، لقد تجاوز الكثيرون هذا الباب، وقليلون هم الذين خرجوا منه مسارون حقيقيون. ففكر ملياً وبحذر شديد يا بيثاغور بالأخطار التي من المحتمل أن تواجهك في إختبارك. وإذا ما وجدت أنك غير قادر على المتابعة فإنسحب الآن فوراً، لأن ما إن يتم فتح الباب وتدخل منه فإنه لا يعود بإستطاعتك التراجع".
وبهذا، ختم الكاهن الأعلى في ممفيس كلامه المحدد للقواعد الأساسية لتلك المغامرة بجدية تامة.
وبعد كل هذا، بات بيثاغور مدركاً بأن كل المسارة التي قام بها لغاية الآن كانت هي الأساس الكامل لحياته. ففكر بأنه إذا تراجع سيخر كل شيء. فالقوة التي كانت لديه، هي التي كانت تميزه عن الآخرين. ولم يكن يوجد لديه أي مكان للشك، لأنه كان مالكاً الإرادة والإيمان.
- وقال بثقة كبيرة:" سأتابع حتماً، إنه خياري".
- وتبسّم كاهن أوزيريس سائراً به إلى خدام الهيكل الذين كانوا بإنتظاره، وقال له:" إنني أنصحك بالبقاء معهم لمدة عشرة أيام وليالٍ مانعاً نفسك عن تناول اللحوم وشرب الخمرة. وبصمتٍ كامل عليك سماع التراتيل المقدسة والقيام بطقوس الطهارة".
وبعد ذلك، إختفى الكاهن في القاعة الكبرى للمعبد.
* * *


لقد أمضى بيثاغور الأيام العشرة ولياليها ملتزمماً بما طلبه منه الكاهن، وكان بفارغ الصبر منتظراً مجيء الليلة الكبيرة، والتي أخيراً حلّت. فذهب بيثاغور مع المساعدين بإتجاه بوابة الألغاز. ومن ثم دخلوا إلى غرفة النور فيها خافت، إذ كان البعض من جوانبها مضاءاً بالمشاعل المعلقة على الجدران.
وفي صمت عميق، مر بيثاغور بالقرب من تماثيل لأجسام بشرية ذات رؤوس حيوانات، كرؤوس الأسود، والأفاعي، والثيران. . . وفي آخر تلك الغرفة كانت هناك مومياء، وهيكلٌ عظميٌ. حيث أن الأولى كانت تمثل خلود النفس، أما الثاني فكان ممثلاً للموت.
ومن ثم أشار المساعدين بأصابعهم إلى ثغرة في الحائط، بالتمام واقعة أمام بيثاغور. إنها المدخل للنفق الذي لا يمكن عبوره إلا زحفاً على البطن.
- وقال له أحد المساعدين بصوت أجش:" لا تزال أمامك فرصةٌ للتراجع، إذ أن الباب لم يقفل بعد".
- فأجابه من دون تردد، وبكل ثقة بالنفس:" سأبقى، عليّ المتابعة".
- رد عليه:" إذن، يجب عليك المتابعة لوحدك الآن".
ومن ثم ناوله مشعلاً مضاءاً، وتركه المساعدين ليتابع وحده مغلقين الباب خلفهم.
وبات عليه الآن بمفرده مواجهة المجهول الحتمي الذي لا مجال للفرار منه.
وراح يزحف في النفق الذي كان يتسع تدريجياً كلما أمعن في التوغل فيه. وبدأ يشعر بالرطوبة المحيطة بجسده ويديه، ليجد نفسه بعدها، زاحفاً عبر الأوحال التي كانت تزداد كثافتها شيئاً فشيئاً كلما تقدم للأمام.
ولم يكن هناك أمامه من مخرج، وعليه المثابرة في الإكمال. وكان لا يزال ممسكاً بيده المشعل لإنارة الطريق أمامه. وبعد مضي ساعة من الوقت، تمكن من إجتياز النفق بأكمله، متغلباً بذلك على عنصر الأرض.
وكانت لا تزال أمامه عدة إختبارات عليه ولوجها وإتمامها. فوصل إلى رواق ضيّق وطويل. وبعد تجاوزه إياه، رآى في آخره ناراً مشتعلة يزداد وهجها. فأدرك أن عليه إجتيازها، ولكن كيف؟ سأل نفسه.
- عندها، سمع صوته الداخلي، المحدث الصدى في مملكته الداخلية مخاطباً إياه:" لا تشعر بالخوف، بل على العكس عليك المحاولة للتغلب عليه".
وببطء، دنى من النار، فأخذته الحيرة، إذ لم تكن تلك النار سوى وهمٌ بصري مكوّن من خدعة أعدها بإتقان المعلمون المصريون الكبار. وتجاوزها بيثاغور عابراً إياها ومتغلباً عليها.
ودخل إلى غرفة ثانية، حيث فجاءة راحت الأرض تنزلق من تحت قدميه، فإنحدر سريعاً إلى منحدر حاد جداً، ليجد نفسه أمام حفرة كبيرة توصل إلى الفراغ، إلى هوة سحيقة،
و. . . الموت. ولم يكن هناك أمامه أي طريق للعودة صعوداً.
وبسرعة، جمّع كل قواه الجسدية، مستعملاً يداه ورجلاه ليخلص نفسه من السقوط في تلك الهاوية. وفي تلك اللحظات الحرجة، رأى فتحة عن يساره، بفضل نور المشعل الذي كان حاملاً إياه بيده. فقفز إليها؛ لقد نجى. متغلباً بذلك على عنصر الهواء.
ولكن سعادته لم تطل، فسقط مجدداً من الناحية الأخرى في قلب بحيرة ظهرت أمامه فيها التماسيح وهي تطفوا على وجه مياهها. ولكنه بشجاعة فائقة، راح يسبح مسرعاً، مستخدماً رجليه، ويداً واحدة من يديه، لأن يده الأخرى كان متشبثاً من خلالها بالمشعل، الذي مكنه نوره من رؤية ما هو شبيه بشكل درجات في آخر تلك البحيرة. وهكذا، وبمثابرة كبرى وصل إليها مدركاً إياها، متغلباً بذلك على عنصر المياه.
وأرتاح بيثاغور على ضفاف تلك البحيرة. لأن التعب كان منهكاً إياه، وردائه بات ممزقاً كلياً. غير أنه كان سعيداً وراضياً، إذ أنه نجح في إحكام سيطرته على العناصر الأربعة السلبية والإيجابية منها.

لاحقاً، مشى صعوداً على درج لولبي محفورٌ في الصخر، فوصل إلى قاعة كبرى مليئة بأجمل التماثيل الحاملة المشاعل بآياديها. وكان نور تلك المشاعل، يظهر له البعض من الصوّر الرمزية المرسومة على الجدران فيما بين تلك التماثيل.
وفجاءة، ظهر أمامه واحدٌ من العلماء بالأسرار الباطنية، فرحب به في القاعة، مقدماً له التهاني الحارة على نجاحه في تخطيه للإختبارات الأربع بنجاح. وراح يريه كل تلك الرسومات، بصفته " حارس الرموز المقدسة ". وكان تحت كل رسمة من تلك الرسومات يظهر حرفٌ، ورقمٌ. أما عددها فكان إثنان وعشرون رسماً، وحرفاً، ورقماً.
- وقال له العالم هامساً بأذنيه:" إن كل تلك الرسومات التي شاهدتها لتوّك، تمثل أبجدية العقيدة الباطنية. إنها المبادئ الكاملة والمفاتيح السرية للكون. وإذا ما تمكنّت من معرفة كيفية إستخدامها بإرادتك، تستطيع عند ذاك أن تملك القوة والحكمة. وهي مقسّمة كالتالي:
أول ثلاثة أحرف منها تمثل العناصر الثلاثة =
- الأرض.
- الماء.
- النار.
- أما الرابع، فهو يمثل الهواء، وهو الرابط المحرك لتلك العناصر.
وعلاوة على ذلك، توجد الكواكب السبعة التي تؤثر على الأرض وعلى ساكنيها، وهي:
- الشمس.
- القمر.
- زحل.
- المشتري.
- الزهرة.
- عطارد.
- المريخ.
وجميعها ممثلة بسبعة أحرف.
أما الأحرف الإثنتي عشرة الأخرى الباقية، فهي للأبراج الإثنى عشر".
وللحال، تذكر بيثاغور ما كان قد تعلمه عن الأبجدية المقدسة من معلميه الكبار في جبيل، أما هنا في ممفيس فقد باتت معرفته تلك متبلورة بشكلها العملي.
- وتابع حارس الرموز:" إن كل حرف من تلك الحروف مع رقمه في اللغة المقدسة، له تأثيره على الأبعاد الثلاثة لعوالم الروح، والفكر، والمادة".
وقد أدرك بيثاغور ما كان يقوله الحارس بالتمام، لتذكره موسيقاه التي كان يعزفها على قيثارته التي ولكل وترٍ من أوتارها ما أنعش نغمة تردد صداها بين السماء والأرض، مستحضرة أمامه تناغم الدوائر.

ومن بين تلك اللوحات، كانت أوَلَها ممثلة عالِماً بردائه الأبيض وفي يده صولجانٌ وهو متوّجٌ على رأسه بتاجٍ ذهبيّ.
- وراح العالم الحارس يشرح:" إن الرداء الأبيض يعني الطهارة، والصولجان يظهر الأستذة، أما التاج الذهبي، فهو يعني النور الكوني. إذ أن كل إرادة تتحد مع الله لتجسيد الحقيقة والعدالة، تكون في علاقة مباشرة بالإشتراك مع القوة الألوهية على الحياة الوجودية، وهي موهبة أبدية لدى الأحرار في نفوسهم".
وكان بيثاغور مصغياً بإنتباه لافت.
- وأنهى العالم الحارس كلامه:" إن الحرف { أ } والرقم [ 1 ] يرمزان للوحدة والتوازن في الحياة. أما على المستوى الجسدي، فهما يرمزان للإنسان الكوني الذي وعندما تتوسع طاقاته الباطنية، يصبح بإمكانه رفع نفسه إلى دوائر الكون الكبير أللامتناهية".
وكان بيثاغور شديد الإعجاب، بهذا الأسلوب الجديد في تلقي المسارة. وعندما كان الحارس مكملاً شروحاته لمعاني كل لوحة من اللوحات ، كان بيثاغور يتفهّم ما لها من معانٍ راقية وصوّر مجسدة إياها.
ومن ثم فتح العالم الحارس الباب المؤدي إلى مغارة كان ينيرها بخجل قنديل معلّق في سقفها. وراح ينتظر المساعدين ليأخذوا بيثاغور بعيداً إلى غرفة أخرى ليغسلوه، وليحلقوا له شعره، وليبدّلوا ردائه بآخر جديد من الكتان الفاخر.

وحيداً، كان بيثاغور مرتاحاً على أريكة كبيرة، منتظراً وصول المعلم الكبير بحسب ما أعلمه به مساعدوه، وهو منهك من التعب، مظهراً شعوره بالسرور بكل ما هو محاط به من سكينة، كان يتخللها صوت موسيقى خفيفة مالئة المكان، آخذةً إياه في رحلة ممتعة من الأحلام، وعيناه مغمضتان وهو مستلقٍ.
ولاحقاً، عندما فتح عينيه. رأى أمامه خلف ستارة بيضاء شفافة، ما هو أشبه بشكل إمرأة وهي تحرك جسدها على أنغام الموسيقى الهادئة، وكأنها أفعى. إنها إمرأةٌ من نوبى ، Nubian، مرتديةً فستاناً أرجوانياً شفافاً، مظهراً مفاتنها. تلك المرأة، ذات الشفتين الكبيرتين الحمراوتين، والوجنتان الناعمتان الجميلتان، دنت منه، وهي حاملة بيدها كأساً مملؤاً بالورود تفوح منها رائحة قوية. فذهل بيثاغور بما لها من قوة جاذبية، فوقف ووضع يديه على نهديها، فدنت منه أكثر، وعيناه الكبيرتان السوداويتان المشعتان محدقتان به في محاولة منها لإستثارته غرائزياً.
- وسألته بصوت خفيف وناعم:" هل أنت خائفٌ مني يا ايها الرجل الجميل"؟
وإضطربت مشاعر بيثاغور .
- وهمست بأذنه:" إنني مُحضِرة لك جائزة المنتصرين، ونسيان الآلم وكأس السعادة".
ولدى سماعه لكلماتها، أيقن بأن ما هو حاصلٌ معه الآن، ليس إلا تجربةً وإختباراً. فتردد، وشعرت منه بذلك. فجلست بجانبه على الأريكة وهي ترمقه بنظرات توّسلية.
- وبما له من إرادة قوية رفض الخضوع لملذات الجسد. ووقف بسرعة، مبتعداً عن الأريكة، ومن ثم نظر في عينيها، وقال:" لا تلمسيني، لأنني ما وصلت بعد إلى نفسي العليا! وأنت بذلك تعيقينني في ذلك، وتعرفين أنك واقفة بطريقي. . فإبتعدي".
فإستاءت من تصرفه معها، مخفضة عينيها صامتة. وشعرت بالخدر في كل انحاء جسدها، مدركة أنه عليها الخضوع لمشيئته. وذلك بعد أن بائت محاولاتها لإثارته بالفشل.
فجاءة، ظهر في تلك الغرفة إثنا عشر مساعداً وهم يحملون بأيديهم المشاعل، وراحوا يلتفّون من حواليه. وساروا به منتصراً، إلى ملاذ إيزيس، حيث كان بإنتظاره مجموعة من العلماء بالأسرار الباطنية وهم مصطفّين في شكل نصف دائري‘ حيث كان تمثال إيزيس واقفاً وقفته الملوكية في قلب المعبد، وهي تبدو فيه مزدانة بوردة ذهبية على صدرها، ويعلوا رأسها تاجٌ مُشَكّلٌ من سبع إشعاعات، وإبنها هوريس Horus مرتاحاً بسلام بين ذراعيها.
وبرز سنخوس الكاهن الأعلى متشحاً بوشاحه الأبيض فوق ردائه الأرجواني، وإستقبل بيثاغور الذي كان أن أقسم بأن يظل محافظاً على صمته، وإلتزامه بالعقيدة الباطنية. فرحب به الكاهن الأعلى قابلاً به بإسم الجمعية كأخٍ مساريّ.
وغمر بيثاغور فرحٌ عظيم، إذ بات تلميذاً لإيزيس. وبحضور كل اؤلئك العلماء بالأسرار الباطنية، شعر بحضور إلهيّ قوي متجسد. وبأن دائرة الحقيقة قد رسمت أمامه الطريق التي عليه واجب السير عليها، فاتحة أمامه الباب لولوجها.
* * *


تحت أشعة الشمس المصرية مشى بيثاغور عابراً الصحراء، تاركاً ممفيس وقاصداً الأهرام.
وكانت الرمال الذهبية الناعمة تحت قدميه، ومشاهدته للتلال الصغيرة المنتشرة من حوله قد أضافت إلى تأملاته مزيداً من التساؤلات عن عالمٍ ذو معانٍ وأبعاد صوفية.
فالصحراء كانت المكان الأفضل لكل الأنبياء الذين كانوا يبحثون عن الحكمة وتنقية الأفكار. إذ أن السفر فيها خلق عند بيثاغور حالة وجودية لا توصف.

لاحقاً، هبط الليل مرخياً سدوله على الصحراء، وراحت الأوهام تحيك بخيوطها في ذهنه. إذ، سمع أصواتاً محدثة الصدى في البرية المحيطة. إنها أصوات الجن، والأرواح، والملائكة، والشياطين. . .
لم يكن متأكداً!
وفكر.
لا إنتظر لحظة. . .
وسار مبتعداً بضع خطوات.
فبدت له تلك الأصوات على حقيقتها.
إنها لم تكن سوى صوت الليل الصامت، ولم يكن هناك من شيء ليس بعادياً لما كان قد تناهى لمسمعيه.
إنه فقط صدى صوت وحدته التي شوهتها اكثر الظواهر طبيعية. . .
إنها الطبيعة بحد ذاتها!
وبات الآن واضحاً أمامه بصورة جلية ما كان السبب في إعتقاد البعض من الناس بأن الصحاري هي مسكونة.

من بعيد، بان أمامه أبو الهول والأهرامات منتصبين بكل عظمتهم، وهم ثابتون بوجه الزمان. فإرتجف بيثاغور لشعوره بما لهم من هيبة وطاقة جذابة مريداً معرفة ما في كنهها من ألغاز.
- وراح يتسآل:"
إلى ما ترمز؟
كيف تم بناء ذلك الهرم الكبير؟
لماذا؟
ماذا يخبئ يا ترى خلف جدرانه في الداخل؟
هل هي الأرقام؟
خلود النفس؟
الحقيقة؟
ما كل هذا؟
وعندما إقترب منها أكثر، دنى منه مساعدان، فرحبا بقدومه، وأرشاداه إلى مبنى صغير قائم بين تمثال أبي الهول والهرم الكبير تحت الأرض.
هذا المكان، ليس بإستطاعة من هو جاهلٌ أن يدخل إليه.
ودخله بيثاغور.
- وقال له واحدٌ من المساعدان بصوت أجش:" إنه، الهات – خا Hat - Kha . منزل الأجساد".
وفي الهات – خا، بدأ بيثاغور دربه الطويل داخلاً إلى الدرجة الأولى ليدرس لسنين عدة التركيب العضوي للجسد البشري كما الحيواني، وللنبات أيضاً، وخصائص المعادن. وراح منكباً على التعمق بما لها من وظائف، وأنظمة تنفسية، وعضلية، وأوعية دموية. ولقد كان ذلك بالنسبة له برنامجاً لتطوير ما كان درسه في صيدون عن علوم التشريح. فصار طبيباً، مدركاً للملكات الأربع في الحياة الدنوية، مكتشفاً من خلالها سحر الطبيعة.
وكان يمضي البعض من أوقاته داخل صومعته متاملاً في التكوين، ومتعلماً عنه، وعن الهندسة، هذا فضلاً عن دراسته للأبجدية الهيروغلافية في قاعات المعابد التي تمكن فيها من الإضطلاع على مسيرة الإنسان الحياتية، وقصة الحضارة.

لاحقاً، في الهات – بيو Hat – Biou، منزل النفوس. في داخل المعبد الخارجي لهرم خفرع، درس بيثاغور علم وظائف الأعضاء الباطنية. ( 2 )
وإنتقل خلال السنين التي توالت إلى الدرجة الثانية التي فيها يتم التعرّف على المستوى الأثيري، فتعلم كيفية تطوير وتوجيه طاقاته الكامنة الحية التي أعطته قوىٍ عظمى، رافعةً إياه إلى الأستذة على المستويات الجسدية والأثيرية.
إن تلك الدراسات التي قام بها، والتي كانت تعرف آنذاك بالسحر الأثيري، مكنته من الحصول على القدرات الشفائية العجائبية بما قد أصبح لديه من هالة مغنطيسية.
- وقال له المعلم الأكبر سنخوس:" إن كل تلك القوى التي حصلت عليها يا بيثاغور هي جد خطرة. وعليك توخي الحذر في إستخدامك لها، إذ أنها قد تؤذي بالمقدار الذي فيه قد تنفع. وأعلم، أن النبل والوعي من الواجب عليك دوماً المحافظة عليهما لدى محاولتك القيام يالمعجزات".
فهز بيثاغور برأسه مدركاً يقيناً بأن تلك الأسرار التي باتت الآن بحوزته من شأنها أن تنعكس عليه سلباً في إستعماله لها بما هو مخالف لمبادئها الخّيرة.
وتابع بيثاغور المضيّ قُدُماً في مسارته، ودخل إلى الدرجة الثالثة التي فيها يُعَلّم التنجيم، المعروف بالسحر السماوي بظاهرتيه الخارجية والخفية. وكانت الناحية الخارجية منه متجلاة بتموضع الكواكب وحركاتها التناغمية في نظامنا الشمسي. أما الناحية الأخرى له والخفية، فكانت تظهر القوى الحيوية المختلفة المنبثقة عن الكواكب التي هي وراء توازنها الكامل في وجودها الفضائي. وهنا، تذكر بيثاغور " تناغم الدوائر " عندما كان باحثاً في جبيل، ذلك أن الأرقام والموسيقى عادت للمثول أمامه من جديد في مصر.
وفي خلال كل تلك السنوات التي أمضاها في " قاعة الألغاز الكبرى "، وجد نفسه أمام الإله أوزيريس، وشفيعة الهيكل الإلاهة إيزيس الحاملة الأسرار الباطنية.
ولدى دخوله الدرجة الرابعة وتعلمه السحر الكوني الحقيقي على مدى ثلاث سنوات، تمكن من الحصول على القوى التي جعلت منه قادراً على إتمام الطقوس على الأحياء كما الأموات لمساعدة أرواحهم في رحلتها من موتها المادي إلى قيامتها الروحية في دائرة الوعي المطلق.
وفي مكان التطهير، كان هناك جسد ميت لأحد كهنة الهيكل وهو مسجّى على خشبة الأموات المحاطة من ناحيتيها بمجسمات لأسود ترمز لحراسته. وكان هناك نور خفيف منبعث من عامود اللوتس ينير المكان، في وقت كان فيه الكاهن الأصلع المختص بالتحنيط عاملاً على الجسد تحت إشراف المشرف الأعلى على الأسرار. وكان دخان البخور مرتفعاً من مبخرة طويلة مالئاً المكان بعبير شذاه. وبان خلف المبخرة نقش على الحائط لصورة " أنوبيس Anubis " برأس إبن آوى، وهو إله المُحَنِطين.
ومن ثم بدأو بغسل جسد الميت بمياه النيل، وإنتزعوا منه الكبد، والرئتين، والأمعاء، والدماغ، ووضعوهم في جرة. أما القلب، فقد أبقوا عليه لإعتقادهم أنه " مركز الذكاء ". ولاحقاً، دهنوا الجسد بالزيت المقدس، ومن ثم كفنوه بالكتان الأبيض الفاخر. وبعدها، حضّر الكهنة البعض من التعاويذ لوضعها على الجسد، ووضعوا على جبين الميت " الصليب المصري " الذي كان يرمز لخلود النفس. أما على قلبه، فقد وضعوا مجسماً " لخنفساء " لإعتقادهم بأنها تحرك الولادة الأبدية. وأخيراً، فقد عمدوا إلى تغطية وجهه بقناع ذهبي.
وبعد إنقضاء أربعين يوماً على موت الكاهن، حمل الكهنة المومياء العائدة له على أكتافهم سائرين بها في رواق طويل مودٍ إلى " غرفة الجنازة ". على مقربة من نهر النيل، حيث القرص الشمسي " رع " من سقف تلك الغرفة كان مرسلاً أشعته على المومياء مانحاً إياها بشكل رمزي حرارة الحياة.
وكان على بيثاغور، الذي بات مالكاً للعلم الباطني الكوني الحقيقي أن يتم الطقس الباطني على تلك المومياء لإرشادها في رحلتها الأخيرة إلى العالم الآخر.
فوقف بحلته البيضاء ككاهن لأوزيريس، محاطاً بعدد من الكهنة الآخرين في جو كانت فيه رائحة البخور فواحة في كل أرجاء تلك الغرفة.
- وأفتتح بيثاغور الطقس المقدس الرامي لإقامة الميت في العالم الاخر، وقال:"
بقوة " رع " سنقودك في رحلتك! إن روحك و نفسك منفصلتان. وإن أنوبيس حارس الموتى هو بالإنتظار، وإنك سوف تلاقيه وهو الذي سيقوم بإرشادك. هذا هو إسمه، وبمعرفتك للكلمات السحرية ستناديه ليفتح البوابة أمامك ويسير معك. أما الإلاهة إيزيس فستكون حاميتك من البداية، وطوال رحلتك".
وكان الصمت التام مرخياً بظلاله على القاعة.
- وتابع بيثاغور:" عند الجبال الغربية حيث تختفي الشمس، تقف بوابة العالم الآخر، وها أنت الآن قد بلغتها. فأدخلها، لتجد خلفها النهر المظلم في " قاعة الليل " التي هي مملكة " شيت Seth " العدو اللدود لأوزيريس. فتابع رحلتك ولا تخف من الأشرار المنتظرين وصولك والذين سيحاولون تحطيم مركبك بغية إغراقه".
- وأخذ بيثاغور نفساً عميقاً ليتابع:" يجب ان تكون لديك الإرادة والقوة لكي تتغلب على الأفعى أبوفيس Apophis التي ستحاول أن تسد بوجهك الطريق المؤدي إلى مملكة الحرية. فكن على إستعداد الآن لتخوض تجارب البوابات السبع، ولدى نجاحك في تخطيها، عليك تحضير نفسك للدخول في إختبارات الأعمدة العشر التي تتيح مجال الدخول. أنت هناك الآن، فأمشِ صعوداً على " درجات العدالة " التي امامك، وأنظر إلى آلهة الخلق، إنهم هناك للترحاب بوصولك إليهم. وسوف يقوم أنوبيس بأخذك بيدك ليدخلك إلى " قاعة العدالة الكبرى " حيث أوزيريس منتظراً إياك، وهو جالسٌ على عرشه بفارغ الصبر، ليشهد محاكمتك الأخيرة، فكن حاضرأ لمواجهة قدرك".
- وراح بيثاغور متابعاً بحماسة:" إن توت – تاوتوس الإله الحارس سوف يقوم بتدوين النتيجة التي ستظهر بعد وزن قلبك بميزان الحق تحت مراقبة أنوبيس. وإن آموت Ammut الوحش هو الآخر مراقباً إياك عن كثب. فإذا أظهر قلبك أعمالاً سيئة، فإن آموت الشيطان سوف يقوم بإبتلاعه، فتوخى الحذر. وأنا أتمنى أن تكون أعمالك الخيّرة في الحياة مخلّصة إياك ومساعدة لك في التخلص من دائرة الضرورة الحتمية للوجود المادي".
وحل صمت كبير.

لقد تم وزن قلب الميت، وتبين للآلهة أنه خيّرٌ.
فتابعت نفسه طريقها إلى " بحيرة اللوتس " لتتطهّر للأبد.
وفي " حقول اليالو Yalu "، فإن نفسه التي إطّهرَت باتت مباركة، وحائزة الحياة الأبدية في الفردوس حيث تابعت حياتها عاملة في " النيل السماوي ".
- وعند ذاك، أنهى بيثاغور الطقس الجنائزي بدقة، وقال:" الآن، إنتهت رحلتك بإتحاد ذاتك مع الروح الأبدية محدداً إياها بالكاهن الأسمى رع".
- وهمست نفس الميت بنغمة روحية محققة ذاتها في مملكة الحقيقة المطلقة، قائلة:" أنا البداية والنهاية، أنا رع والكائن الأسمى فيّ، وبات هو ذاتي!
- وشرع بيثاغور مرنماً ترنيمة الحياة والقيامة التي علمه إياها علماء الهيكل:"
إنها الحقيقة.
أوزيريس يحيا.
الميت يحيا.
أقم نفسك.
أنت المالك النفس.
أنت الذي تم إحياءه.
تعال أيها الإله.
إن إيزيس تكلمك".

وبعد كل ذلك، وضع الكهنة المومياء في تابوت حجريّ ودفنوها في المقبرة واضعين معها كل الحاجيات التي سوف تسخدمها في الحياة الأخرى.

وكان بإستطاعة بيثاغور رؤية الآلهة ومخاطبتها، ليس بإستخدامه لقواه الذاتية الحيوية فحسب، بل بالعمل من خلال دائرة الفكر، مرتكزاً على عقله الواعي. ذلك أنه كان عالماً بالأسرار الباطنية، ومدركاً القوى الكونية الحقيقية.

على أي حال، لم تكن تلك هي الدرجة الأعلى للمسارة، إذ كانت هناك ما تزال أمامه درجة أخرى وأخيرة، تظهر الحقيقة الأسمى.
* * *


بيثاغور، وهو الآن عالمٌ بالأسرار الباطنية. ظل، ولعدة سنوات متأملاً ومفكراً لوحده بصمت. وفي لحظات الشك والألم والتساؤلات التي مر بها، كان المعلمون يشيرون عليه بأن يتابع عمله متجملاً بالصبر.
وفي أحيان كثيرة، كانت الشكوك تنتاب بيثاغور أحيانا بما له من قدرات ذاتية، وراحت الكوابيس تقلق نومه. إذ أن الدخول إلى الأعماق ليس بالأمر السهل، تلك الأعماق التي كانت بادية له كحقيقة راقية وسامية أساسها الكامن أهم بكثير من تلك الدراسات التي حصّلَها في غضون السنوات الأخيرة الطويلة.
- وصرخ بيثاغور بصوت عالٍ تردد صداه في صومعته:" ما هي الحقيقة؟

وكان الحكماء القدماء يعتقدون بأن الإنسان ليس بإستطاعته معرفة الحقيقة وإدراكها، إلا إذا أصبحت جزءاً أساسياً في كيانه. وكان بيثاغور مدركاً ذلك تماما الإدراك، وميقناً بأن كل الذي تعلمه لغاية الآن لا يُمَكِنَهُ من التواصل مع الحقيقة، إلا إذا أصبح موازياً لصيرورته.
لذلك فهو لم يستسلم، وشيئاً فشيئاً، وبالإرادة والإيمان شرع بإختبار مملكته الداخلية، فاصلاً ذاته عن العالم المحسوس، عندها بدأت الحقيقة رحلتها في داخله مشرقة فيها كأشعة شمس الصباح الأولى التي تظهر ببطء لتنير وجه الأرض.
- وسأل بيثاغور بقلق المعلم الأكبر، عندما كان ماشياً وإياه في قاعة المعبد، متأملاً بزهرة اللوتس المرسومة على الحائط:"
متى ستعلن الحقيقة؟
هل سأدركها؟
- فأجابه المعلم سنخوس:" إن الحقيقة لا تعطى، فنحن غالباً ما نجدها في داخلنا أو لانجدها على الإطلاق. وبالتالي، فإنه ليس بمقدورنا أن نريك أياها، لأنها كامنة في أعماقك وعليك العثور عليها بمفردك. أما زهرة اللوتس التي أنت الآن ناظرٌ إليها، فهي قد نمت في المياه منذ فترة طويلة قبل أن تفتحت أوراقها على وجه المياه نفسها. فلا تكن متسرعاً ولا مستعجلاً تَفَتُّح الحقيقة في داخلك، لأن ذلك مرهون لوقته المناسب.
إن زهرة اللوتس هي مثلك تماماً كونها حاملة في ذاتها العناصر الأربعة. أما الإختبارات التي خضتها كشرط أساسي لولوجك إلى العالَم الباطني، ليست لها أية معانٍ سوى ما لك أنت من رغبات وإنفعالات حادة وشكوك ومخاوف مكوّنةٍ الحواجز والموانع القاطعة الطريق أمامك الموصل إلى ما ستصبح ما أنت عليه حقيقة".
- وإنقضت سنة أخرى، وبيثاغور يقاوم أوهامه فتغلب عليها. عندها رآى المعلم الكبير بأن الطاقة المحيطة ببيثاغور هي إشارة تسمح بإعلان الحقيقة له. فتكلم بطريقة أدخلت الطمأنينة لقلب تلميذه:" . . . لأنك شعرت بالحقيقة في داخل قلبك النقي التواق لها، فسندخلك الآن إلى مجموعة المساريين الكبار. وليكن معلوماً لديك بأن ما من أحد عبر عتبة أوزيريس دون مروره بالموت والقيامة".

أمام أبي الهول، ها هو بيثاغور بصحبة المعلم الكبير، يراقبان سوية كوكبة الأسد.
- وتكلم الكاهن الأكبر:" إن أبا الهول هو المدخل للمسارة الأخيرة. إذ أنه يمثل الحالة البدائية للإنسان بإطلاعه إيانا على مبادئ التطور والأسرار المتجسدة في اللاهوت الكامل.
فأبا الهول الذي أنت واقف أمامه الآن، والمكوّن من جسد أسد، وله مخالب ثور، وأجنحة نسر، ووجه إنسان. هو صورة عن العناصر الأربعة:
فجسم الأسد، يمثل عنصر،
الأرض.
البداية.
الصمت.
أما مخالب الثور فهي ترمز،
لعنصر النار.
القوى الحيوية.
الجرأة.
وأجنحة النسر تشير إلى،
مفتاح العقل.
المعرفة.
وأخيراً وجه الإنسان يدل على،
الماء.
الوحدة.
الإرادة.
وإن الباب للمسارة الأخيرة هو تحت رأس أبي الهول، وما بين ذراعيه.
وفُتِحَ الباب على مصراعيه، ودخلاه.
وكانت المشاعل المعلقة على الجدران في الداخل تنير الرواق الطويل المتواجد في آخره تمثال غريب، يده اليمنى مرتفعة فوق رأسه، أما الأخرى، فكانت تشير إلى الأرض.
- وسأل المعلم الأكبر بيثاغور بجدية:" ما هو اللغز في هذا التمثال حسب رأيك"؟
- وبعد أن فكر بيثاغور لبرهة من الوقت، أجابه بثقة كبيرة:"
كما في السماء، كذلك على الأرض".

وتابعا سوية صعودهما على درج يوصل إلى الطابق الأساسي تحت الهرم الكبير. فعبرا داخل ممرات أخرى حتى وصلوا في النهاية إلى غرفة الملك في الهرم الكبير.
هناك، في قلب الهرم، كان بإنتظارهما ثلاثة معلمين كبار بحللهم البيضاء، وهم متشحون فوقها بأردية أرجوانية. وكان أحدهم مغطياً رأسه بتاج ذو قرنين تتوسطهما كرة ممثلة للقمر.
أما الثاني، فكان يعلوا رأسه تاجٌ عليه أفعى رمزاً للطاقة المحركة التي كان على بيثاغور واجب إستنهاضها في داخله.
إنها، حللهم التقدليدة في طقوسهم المسارية.
وكان هناك تابوت حجري توّزعوا في الإتجاهات الثلاث المحيطة به، وهم حاملين بآياديهم المشاعل التي كانت تنير الغرفة الفائحة فيها روائح البخور.
- وتفوّه الكاهن الأكبر:" ليس بإستطاعة أحد يا بيثاغور الهروب من الموت، ولكن كل روح مصيرها القيامة. وأنت، ستنام في التابوت الحجري لمدة ثلاثة أيام وليالٍ منتظراً نور أوزيريس".
وتممد بيثاغور لتوّه في ذاك التابوت، مشابكاً يديه على صدره. وبعد أن رتل الكهنة الثلاثة البعض من التراتيل كلٌ بدوره، باركوه بأيديهم ومن ثم تركوا الغرفة برفقة الكاهن الأكبر.
هناك، وفي ظلمة حالكة وفي صمت كبير، إنسلت نسمة باردة إلى الغرفة ملامسة جسده الممدد في التابوت. وشيئاً فشيئاً بدأ جسده بالإرتجاج بسرعة وقلبه يخفق بقوة. عندها راح يفقد وعيه لجسده المادي شاعراً بالخفة، فإرتفع بجسده الأثيري إلى بوابات الخلود. وكانت روحه تحلق كطائر الفينيق في الدوائر الروحية حيث ادرك بأن الحياة نابضة في كل مكان، والتطور هو القانون الأبدي. وبانت له الأشكال والأرقام، وشاهد حيواته السابقة كلها.
وفي اليوم الثالث في ذاك الفضاء الصوفي العميق الذي دخله، كان هناك شيء ما محهول يشع نوراً. فإقترب بيثاغور منه في الوقت الذي راح فيه ذاك الشيء بالإقتراب منه أيضاً. إنها النجمة الخماسية الأبعاد، وإتحدا معاً. وعندها إنتشر نور عظيم جذاب في مملكة الظلمة.
عند ذاك أدرك بيثاغور بأنه قد أصبح الكون Microcosm في الكون الكبير Macrocosm إلهاً في قلب الله. وفجأة، توقفت الرؤيا وراح يشعر مجدداً بجسده الذي عاد إليه ثانية، وشعر بأنه مثقلٌ، ففتح عينيه ليجد المعلمين من حوله منتظرينه. فناولوه القليل من الشراب عندما كان يقوم من التابوت.
- وقال الكاهن الأكبر سنخوس بسعادة:" ها أنت الآن قائم من الموت مختبراً اللغز الكبير، إذ أنك قد تغلبت على الموت محققاً بذلك الخلود لنفسك".
ونظر إليه بيثاغور بعينيه المشعتان حكمة.
- وأضاف الكاهن:" تعال معنا الآن لنحتفل سوية بإتمامك المسارة بنجاح. إذ أنك قد أصبحت كواحد منا مولوداً من جديد".
- وذهب الجميع إلى مدخل القاعة، وأنتظروا. وفي الوقت المناسب الذي فيه ضربت أشعة الشمس وجه بيثاغور، أعلنه المعلم الكبير مسارياًوقال:" سوف تدرك من الآن وصاعداً بأن الله فيك مثلما أنت فيه. وبأنك قد أصبحت كل ما هو حاصل، وكل ما قد حصل ماضياً، وكل ما سيحصل مستقبلاً. وبتّ كل ما هو أنت".

***

يتبع ....... مع الشكر لكم أولا ً وأخيرا ً .....
07-23-2005, 09:49 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #13
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
نكمل :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الخامس


رؤية المعلم


إن المسارة التي قام بها بيثاغور في مصر والتي أوصلته إلى أعلى الدرجات، قليلون هم الباحثون عن الحقيقة الذين وصلوا إلى حيث هو وصل. فعاد إلى ممفيس وظل هناك في المعابد ككاهن أعلى لأوزيريس.

إن الألغاز التي لفّت مصر، مع كل الأسرار التي كانت تخفي العقيدة الباطنية للحقيقة، خلقت عند غالبية الأمم الأخرى شعوراً بالفضول والغيرة التي أثارت في نفوسهم الأحقاد، مما دفع بكامبيس الثاني Cambyses II إبن وخليفة قورش الثاني الملك الكبير على بلاد فارس إلى شن هجوم كبير على مصر. وكان ذلك في حوالي سنة 525 ق.م. حيث قامت قوات فارسية شرسة مؤلفة من جيش عظيم بإجتياح أرض حام. فأحرقوا المدن الدينية مدمرين معابد أمون – رع في ممفيس وطيبة. أما الأهرامات فقد ظلت منتصبة هذا لأنها كانت محمية من قوة خفية هي قوة الطبيعة الباطنية! . . .
وإقتيد الفرعون بساميتيكوس الثالث وعائلته الملوكية مع كل أفراد الحاشية وهم موثقوا الأيدي والأرجل بين الدمار إلى حيث قطعت رؤوسهم. وكانت تلك الواقعة بمثابة الإعدام الديني والسياسي لرموز مصر. . .
وبعد مرور ما ناهز أل 15 عام في مصر على الوقت الذي قضاه بيثاغور فيها إقتيد هو الآخر إلى بابل مع كهنة آخرين لأوزيريس. وكان لبيثاغور حينها ما يناهز أل 45 عاماً من العمر. فوصلوا إلى بابيلون، تلك المدينة التي باتت في حوالي سنة 539 ق.م. مقاطعة للأمبراطورية الفارسية.
وكانت مدينة بابيلون محاطة بجدران كبيرة وضخمة عليها صوّر فسيفسائية لحيوانات وأبطال وآلهة. وكانت تماثيل الآلهة المجنحة مطلة على تلك الأرض المأهولة.
أما بوابة عشتار، مدخل المدينة ففتحت ذراعيها مرحبة بالقادمين الجدد إليها الذين مروا بجانب القلاع الكبيرة، والقصور الضخمة، والمنصات المقامة فوق بعضها البعض. هذا فضلاً عن الجنائن المعلقة التي أخذت أنفاسهم، ومن ثم إقتيدوا إلى المعابد.
ففي معابد عشتار وبيل التي كانت نُسَخٌ بابيلونية عن الآلهة عشتروت وبعل ( أدونيس ) الكنعانية – الفينيقية، كان بيثاغور والكهنة المصريون يقيمون فيها كأسرى دينيين.
بابيلون ( 1 )، بابل: " باب إيل "، باتت كعاصمة روحية تعيش فيها عدة شعوب مختلفة بلغاتها وعباداتها ودياناتها في معمعة من الأفكار المتناقضة بين العقائد الدينية المختلفة لكل من الكلدان البابلييين، والمجوس الزردشتيين – الحكماء النصف عراة الصوفيين الهنود.
وفتحت أمام بيثاغور آفاق جديدة، إذ قد وجد أمامه بأن الفرصة سانحة لدراسه تلك العقائد بغية التمكن من الإضطلاع على أسرارها من معلميها.
فدرس بيثاغور مع العلماء الكلدانيين بالأسرار الباطنية الكابالا ( 2 ) القائمة على المعاني الخفية للأحرف والأرقام المتعلقة بالكتابات القديمة العائدة لسنين عدة في الماضي، وهو الذي كان قد تعرف سابقاً على نموذج مشابه لها في كل من جبيل وممفيس. وكانت الكابالا الكلدانية ضامة لواحدة من أقدم اللغات على وجه الأرض مكتوبة بطريقة طلاسمية أو مرتلة كالتراتيل حيث كانت تستعمل لإستحضار الأرواح. فتعلم بيثاغور هذا الفن الباطني وسيطر عليه.
لاحقاً، إنضم بيثاغور إلى زراتاس Zaratas المجوسي المساري في الديانة الزردشتية حيث علمّه علوم السيطرة على القوى الباطنية للطبيعة بواسطة النار الروحية التي هي النور الأثيري المنتشر في كل مكان.
- وفي إحدى الزوايا المنعزلة من بابيلون في قلب الطبيعة، دوّت كلمات ذاك المجوسي في أذني بيثاغور:" هناك سبيين وراء وجود الكون، هما الأب والأم. فالأب هو النور وإله النار " أهورامازدا " الإله الخيِّر، أما الأم فهي الظلمة الباردة " أهريمان إلهة الشر".
- فسأله بيثاغور:" لما الأم هي الشريرة يا زاراتاس"؟
- أجابه:" إنها ليست شريرة بالمعنى المجازي للكلمة، إما قصدت بذلك . . . أهورا مازدا الأب هو الإله السماوي مكوّن الروح، أما الأم فهي إلهة سفلية كوّنت الحياة الجسدية على الأرض".
- بيثاغور:" تقصد بقولك هذا بأن الروح هو كالنار مبدأ الحياة في الكون الواقف ضد الأجساد الفانية للأحياء".
- زاراتاس:" نعم يا بيثاغور، إنه الأساس الكامن لكل الأشياء، وإن المبادئ الميتافيزيائية للكون هي مؤلفة من الجنة والجحيم ( الأرض )، الذكر والأنثى".
كما وكان زاراتاس عالماً بالتنجيم أيضاً، فعلم بيثاغور علم الفلك والكواكب مع أعدادها وتأثيرها الجاذب الكهربائي على حياة الكائنات البشرية. مع العلم بأن بيثاغور كان قد تعلم أيضاً ما كان مشابهاً لتلك العلوم في مصر.
- وعندما كان يمضي أوقاته الأخيرة مع المجوسي زاراتاس في قلب الطبيعة، إستمع بيثاغور لكلاماته:" لا يوجد من المادة الشريرة ما بإستطاعته تدمير الحكمة التي لديك والروح التي بداخلك. ولذلك سوف أقوم بتعليمك كيفية تنقية نفسك من أرجاس حيواتك السابقة التي مررت بها".
وإنتظر بيثاغور. . .
لاحقاً، في الليل بدأت الطقوس المسارية على أصوات قرع الطبول الخفيفة. فقام بيثاغور بطقس الإطهار في وقت كان فيه المجوسي مستخدماً الأعشاب والنباتات السحرية للتَطَهُّر. وكان لبيثاغور إيمانٌ بما لتلك الطقوس من قدرات باطنية.
وأنهى زاراتاس أخيراً طقسه معمدّاً بيثاغور بمياه نهر الفرات.
وبعدها، إلتقى بيثاغور بالسادو الهندي الذي علمه طيلة سنوات تقنيات اليوغا – العلم المقدس الغير مشتمل للروحانيات ولا لما هو متعلق بالكواكب.
فاليوغا، علم يعتمد على الإنسان الذي هو الكون الصغير في الكون الكبير.
- وقال له الحكيم الهندي بحماس شديد:" إن جسدك يا بيثاغور هو مؤلف من سبع شاكراز، أي المراكز السبعة للطاقة. وهنا يجب عليك إستنهاض الأفعى أي النور الأثيري - الأكاسا لخلود النفس والحكمة. فأرفع هذا النور الأثيري على إمتداد عامودك الفقري كي تصل إلى تَفَتُّح اللوتس في رأسك الإلهي لتندمج بذلك مع الوعي المطلق".
ومن قبل، كان بيثاغور قد تعرف في مصر على علم وظائف الأعضاء الخفية الشبيه باليوغا التي تعني الإتحاد.
على كُلٍ هذا ما كان يتوق إلى تحقيقه كل مساري في خلق إتحاد أبعاده الثلاثة وإتحاده مع العالم المحيط به والأساس الكامن للحياة.
وحقق بيثاغور هذا الإتحاد عندما كان في غرفة الملك حيث دخل الأبدية في قلب نبع الحياة بإرادته محلقاً فوق جسده المادي، إذ كان بمقدوره الرجوع إليه ساعة يشاء محققاً لنفسه الخلود بذلك.
- وتذكر بيثاغور أقوال كهنة ممفيس له:" إن علم الأرقام والسيطرة على الإرادة هما مفاتيح العلوم بالأسرار الباطنية الحقيقية الفاتحة أبواب الكون.
وبعد قضاءه لما يقارب السنوات الخمس في بابيلون، تبيّن له بأن كل الديانات تنبع من حقيقة واحدة هي الهرمسية فيما مضى من الزمان، وقد توارثتها الشعوب كُلٌ حسب مستوى ذكائه وتركيبته الإجتماعية. وإنقسمت الحقيقة بذلك لقسمين، أولهما الإكزوتيريك، أي الشكل الخارجي للديانة المُعَدّ للجهلة جيلاً فجيل. أما ثانيهما، فهو في الإيزوتيريك، أي الشكل الداخلي الخفي والمستور والسري في الديانة الذي يعطى للمسارين نخبة بعد نخبة.
وكان بحوزة بيثاغور المفتاح، أي العلم الباطني الملخّص لكل العقائد، فبات مدركاً الماضي، وفاهماً الحاضر، ومستشرفاً المستقبل.
وشهد التلاعب بالبشرية، الذي كان يقوم به الملوك – الكهنة بإدعائهم الحق في " إمتلاك الحقائق الدينية ". وأمام ذلك، فقد تكوّنت لديه إرادة تغيير هذا الواقع المغلوط بتحريره البشرية من القيود التي كانت معيقة تطوّرها وقاطعة أنفاسها.

أما الآن فقد حان الوقت به ليعود إلى اليونان لإتمام رسالته، متذكراً أقوال أمه الحبيبة بارتينيس عن نبؤة دلفي.
إنه قدره المكتوب خلف ذاكرة العالم المادي حيث لا حدود للوقت، فالماضي والحاضر والمستقبل هم مندمجين في إطار الوجود الآني.
فالذاكرة الكونية أكاشيك Akashic هي التي كانت قد أبانت للعرافة بيثيا في معبد دلفي بأن بيثاغور سيكون رجلاً عظيماً للبشرية كمخلص لها. ولم يكن لديه هو أي شك بذلك لإدراكه معاني حياته وأبعادها، إذ لا شيء بنظره ممكن حدوثه من باب الصدفة.
- وقال في قرارة نفسه:" يجب علي إتمام مهمتي".
ولم يكن بالأمر السهل عليه تركه لبابيلون وإستعادته لحريته من دون أن يكون هناك من أمر صادر عن ملك الفرس. وراح يفكر ملياً بإيجاد مخرج له منها صارفاً البعض من وقته في البحث عن الوسيلة الفضلى لتحقيق ذلك.
ولحسن حظه، أو ربما بإرادة إلهية. وجد بيثاغور سبيل الخروج، إذ كان هناك شخص يدعى ديموسيدس Democedes وهو ساموسي من ساموس كان مقرباً جداً من الملك كونه طبيبه الخاص، فقام بعرض الموضوع على الملك بأن يحرر بيثاغور. وبعد أيام عدة، أصدر الملك مرسوماً أجاز فيه لبيثاغور بالرحيل معيداً له حريته. فاغتبطت نفسه لذلك موقنا بأن روح التغيير قد إنتشرت مالئة الهواء الذي تتنشقه البشرية.
* * *


كانت السفينة متجهة إلى ساموس والمسافرون على متنها سعيدون، ووصل بيثاغور إلى موطنه الثاني بعد غيابه عنه لمدة ثلاثين عاماً وهو له الآن من العمر أل 51 عاماً، وكان ذلك في حوالي سنة 520 ق.م.
وشد ما كانت صدمته قوية عندما شاهد أحد الحكام ممارساً لسلطاته تحت وصاية ملك الفرس الذي ألحق الخراب بمدينة ساموس. فكل المدارس والمعابد تمّ إغلاقها، أما العلماء والشعراء فقد لاذوا بالفرار هرباً من جور ديكتاتورية الأمبراطورية الفارسية. إنها كارثةٌ ثقافية وحضارية بالفعل.
وكانت الغالبية من الناس في ساموس تظن بأن بيثاغور قد مات، وحدهم المسنون كانوا على يقين تام بمعرفتهم له عندما راح يتكلم متحدثاً بلياقته المعهودة والفائقة، إذ أن حضوره كان دوماً مغموراً بصفاء عظيم، وكلامه لا يخلوا مطلقاً من الحكمة. وبان للجميع بردائه الأبيض، وهو متشح على خصره بحزام أرجواني معبّراً خير تعبير عن الوحي الإلهي بطبيعته الساحرة التي كان يمتاز بها عن الآخرين الكثيرين.
ولاحقاً، طلب منه المسنون في ساموس بأن يتحدث للجموع في مكان عام عن معارفه التي أدركها، فلم يرفض لهم ما طلبوه منه، معتبراً دعوتهم له بأنها في غاية النُبل وهي بالأمر المُشَرّف له، وكان جد مغبوطاً لأنه وجد في ذلك خير وسيلة ليساعد بها أبناء ساموس. . . فذهب المساري إلى ساحة المدينة، ووجد الجموع محتشدة وراح يخاطبهم بالطرق الرمزية محدّثاً إياهم بالأمثال حيث كان هذا الأسلوب في التعبير مشابهاً للأساليب المصرية. غير أن أبناء ساموس لم يكونوا متفهّمين لما كان يتفوه به من كلام عميق إذ أن الغالبية الساحقة منهم كانوا تجاراً متحدرين من الطبقة الإرستقراطية الإجتماعية الحاكمة على تلك المدينة، ولم يرق لهم أبداً أسلوبه الكلاميّ، وذهبوا إلى حد عدم الإعتراف به كرجل ذو حكمة عميقة هذا لأنهم كانوا عاجزين عن مواكبة أفكاره النَيّرة، ولم يكونوا مؤهلين كفاية للإلتزام بتعاليمه. فالطريقة الروحية والرياضية التي كان بها بيثاغور محاولاً تعريف اليونانيين عليها بشتى الوسائل لم تكن مرغوبة لديهم على الإطلاق، ولم يعد يأتي أحدٌ من الناس لحضور عظاته، ذلك أن تعاليمه لم تنل القبول بها عندهم.
وأمام هذا الواقع، لم يفقد بيثاغور الأمل، إذ كيف له أن يفقده وهو إبن النبؤة الذي بات معلماً ورائياً.وبعد بضعة أيام من التأمل، أدرك بيثاغور بأنه عليه بدلاً من مخاطبته للجموع، أن يقوم بتركيز كل طاقاته على الأفراد الذين تكون لديهم الرغبة في التعلم.
وعاد مجدداً للمدينة، وراح ينتظر مراقباً الناس التي كانت تسير أمامه، وهو ذو العينين الثاقبتين كعيني النسر. وما هي إلا هنيهات، حتى حط نظره على رجل شاب بدى ظاهراً لديه بأن ثمة نور يحيط جسده المادي كعلامة وإشارة إلى أن هذا الشخص هو قابلٌ لتلقي العلوم وفهمها. وللحال، ناداه بيثاغور وعرفّه على نفسه ومن ثم طلب إليه الجلوس بجانبه.
- وسأله:" ماذا تفعل في حياتك يا أيها الرجل الشاب"؟
- أجابه:" أنا رجلٌ رياضيٌ مولعٌ ببمارسة الرياضة البدنية بشغف كبير".
بيثاغور:" إنه أمرٌ جيّدٌ أن يمرّن المرء جسده، ولكن إعلم بأن هذا ليس بكافياً".
- الشاب سأله بإستغراب ودهشة:" ما هو قصدك بكلامك هذا".
- بيثاغور:" لماذا أنت ممارسٌ للرياضة البدنية؟ أليس لأنه لديك الرغبة في أن تصبح رياضياً ماهراً وجيّداً"؟
فهز الشاب برأسه.
- وتابع بيثاغور:" إن الإنسان يا أيها الأخ هو كائن بثلاثة أبعاد وأعلم جيداً بأنه لا يمكنك الدُنوّ من الكمال عبر بُعد واحد فقط بمنأى عن الأبعاد الأخرى المتبقية. ولذلك، فإلى جانب تمرينك لجسدك عليك أيضاً أن تمرّن كل من عقلك وروحك، وإذا كان عقلك وروحك في مستوى ليس بجيّد فالأمر عند ذاك سيرخي بظلاله السلبية على جسدك أيضاً. فالإنسان الكامل هو الذي بمقدوره أن يتمم توازنه الكامل بتوحيده عقله وروحه وجسده في ذاته الواحدة".
وبدت على ذاك الشاب علائم القلق والتعجب، إذ أن الذي كان يخاطبه ليس رجلاً كسائر الرجال، فهو مختلف كل الإختلاف عن كل الذين كان قد إلتقاهم في حياته.
- وطرح الشاب سؤالاً على بيثاغور:" هل تعرف الطريقة التي يتم بواسطتها تدريب العقل والروح معاً"؟
ولم يجبه، وراح الإثنان يتبادلان النظرات العميقة.
وتوقف الزمن.
ولاحظ الشاب في عيني بيثاغور نوراً عظيماً إستكان له بالهدؤ، ففهم.
- ومن ثم قال:" هل تعلمني"؟
لقد كان بيثاغور محقاً، إذ ليس بإستطاعة أي معلم أن يخاطب جمعاً غفيراً بغية تعليمه، وذلك مَرَدُهُ إلى أن أفكارهم قد تشرد بسهولة.
على أي حال، لقد نجح بيثاغور في جذب تلميذه الأول إلى دائرة الإستنارة بالحقيقة، وهنا فعلاً بدأت مهمته. وهكذا، شرع المعلم جاهداً في تعليمه العلوم الهندسية والحسابية مظهراً له البراهين القاطعة بالشروح العميقة بإستخدامه لآلة خاصة للعد. ( 3 ) Abacus.
ويوماً بعد يوم، كان التلميذ يزداد إنجذاباً لما كان يقوم به من دراسات مع معلمه ممرناً له عقله بعلم الأرقام بإتباع نظام عميق ومحكم يُفضي إلى تهذيب العقل.
ومر وقت طويل قبل أن غادر المعلم وتلميذه جزيرة ساموس عابراً البحر في رحلة إلى المدن اليونانية التي وصلاها بعد مرور يومين، فإستراحا ليوم واحد، ثم تابعا رحلتهما عبر جبال عالية مهيبة عابرين الأحراج المحيطة بنهر بليستوس Plistus حيث كانت رحلتهما تلك مليئة بأحاسيس الإعجاب والتعجب.
وظهر أمامهما معبد دلفي منتصباً في قلب الجبل، وكالإله الجالس على عرشه كان المكان الأكثر قداسة في اليونان يستقبل نور أبولو إله العالم الهليني الممثل لحقيقة باطنية تجسد ألغاز الحياة بماضيها وحاضرها ومستقبلها بتعبيره عن التناغم القائم بين الأرض والسماء، وما بين الجسد والروح الممكن تحقيقه بواسطة التطبيق المباشر في حياة البشر عامة، وفي حياة المسارين منهم خاصة.
وقام بيثاغور، يصحبه البيثاغوري الأول بزيارة كل المعابد المهمة في اليونان تقريباً حيث كان يرحب به كمعلم، إذ وفي الكثير من الأحيان كان المعلمون الكبار يخلون أمكنتهم لبيثاغور عندما كان يئم معابدهم بإجلاسهم إياه على مقاعدهم الخاصة.
ها هو الآن في دلفي، لا ليستشير العرافة بل ليعيد إحياء طاقات الكهنة وعرافي الهيكل تاركاً الأثر الكبير في نفس اليونان.
وإلتقى بيثاغور في داخل الهيكل بثيوكليا Theoclea، ومن نظرته الأولى إليها وجد فيها روحاً حية متماوجة في أعماقها إذ كانت لديها موهبة إستشراف المستقبل منذ طفولتها، إلا أن موهبتها تلك لم تكن بعد قد بلغت مداها الأقصى، ولذلك فلم يكن بعد قد تم القبول بها كعرافة الهيكل.
أما ثيوكليا من جهتها، فقد شعرت بأن بيثاغور الواقف أمامها هو مساري حقيقي ومعلم كبير سيقوم بإحداث تغييرات جذرية. وكان لقاءهما محاطاً بطاقة عظمى، فراحت تنصت لكلماته بإحترام كبير وإنتباه شديد وظلت صامتة كما الليل إذ لم يكن لديها ما تقوله.
وفي الصباح الباكر كانت شمس أبولو تشع من خلف الجبل ضاربة قلب المعبد في الوقت الذي كان فيه بيثاغور يتمشّى في قلب قاعته الكبرى مرتدياً ردائه الأبيض الناصع ومتشحاً على خصره بحزامه الأزرق مخاطباً كهنة أبولو طالباً منهم قبول ثيوكليا كاهنة عرافة وذلك بعد أن يكون قد لقنها تعاليمه السرية وتأهيله إياها لتلك المهمة.
وكان بيثاغور كعادته في كل يوم يدخل المعبد من أجل تعليم المسؤولين الكبار فيه ليس فقط العقيدة الباطنية، بل أيضاً مستقبل العالم وقدر البشرية إذ كانت لديه رؤية المعلم.
وراح بداية يحدثهم عن مسارته في الأسرار الكنعانية – الفينيقية، وعن ألغاز مصر التي كشفت له أسرار إيزيس ونور أوزيريس حيث الإنسان يصبح كوناً صغيراً في الكون الكبير، وحيث الآلهة تنزل لملقاة الإنسان، والإنسان يصعد لملاقاتها.
ودخلت كلمات المعلم الصيدوني في عقول سامعيه، كدخول الهواء لرئتي كل متنفس.
وكان بريق عينيه يحيطهم بالدفء وكأنه لهيب نار مشتعلة، إنه لهيب الحكمة. أما الكاريزما الإلهية فكانت لديه.
وباللهيب نفسه، طبع ذاته الكامنة في قلب ثيوكليا التي شعرت بإنتمائها لتعاليمه فراحت مخيلتها تتسع، وعقلها يسبح محلقاً في الدائرة اللامتناهية التي تعيش فيها الأرواح والآلهة. وبدا لها العالم اللامرئي كحقيقة جوهرية متشابهاً بشكل نسبي مع العالم المرئي، غير أن ما يفرّق بينهما هو في مستوى الترددات إذ أن التوازن المطلوب لإدراكها العالمين هو كامن في عقلها الواعي واللاواعي على السواء.
- وتكلم بيثاغور عن الحروب والدمار التي كانت البشرية قد قامت بها، فقال:" لقد كان وما يزال فصلاً شريراً في ذاكرة أمنا الأرض وفي عيني خالقنا أبانا الذي في السماوات. إن نور الخلاص هو في أيديكم وهو بمتناول كل اؤلئك الذين أدركوا الوحي الإلهي. إنه أنتم يا أيها الأنبياء والحكماء الذين كشفت لهم الآلهة عن نفسها. إن صوفيا ( الحكمة ) تشع بنورها على كل الذين يطلبونها ويبحثون عنها. أما الآخرون المساقون خلف أهوائهم ومصالحهم المادية هم دون ريب عميان وسيبقون سجناء في ظلمات جهلهم".
وكان كل الحاضرين هناك منصتين لكلمات خطبته بتركيز تام وكامل وهم صامتون ومنجذبون إليه. أما حياة ثيوكليا فقد تبدلت وباتت البيتيا أي عرافة الهيكل بفضل ما علمها إياه المعلم.
- وفي ذات ليلة من الليالي في عيد أبولو، داخل المعبد كانت ثيوكليا مستسلمة لنوم عميق واعٍ. إنها في إنخطاف روحي، فدنى منها معلمها بيثاغور وقال لها:" أين أنت يا ثيوكليا"؟
- أجابت:" أنا في الأعالي أعوم في المملكة السماوية".
- سألها:" ما الذي تشاهدينه هناك"؟
- قالت:" إنني أرى الآلهة ونور أبولو. إن البشرية سوف تعاني حروباً من وقت لآخر، ولكن ستكون هناك بعضٌ من الفسحات الزمنية للسلام بين الفينة والأخرى، وستظل الأمور هكذا إلى الأبد إذ لا مفر من تلك المعادلة. أنت يا معلم رسول أبولو وسوف تقوم بإصلاح الأمور لكن ذلك لن يدوم، لكن على الأقل فأنت قد حاولت".
وهكذا تنبأت ثيوكليا.
وهي، ولدى عودتها من إنخطافها الروحي كانت الدموع تسيل على وجنتيها، فإقترب منها بيثاغور ملامساً بيديه دموعها الساخنة جداً متزوقاً طعم مرارتها. إنها حزينة وباردة، فضمها إليه ملقية برأسها على صدره بشدة. وراح يربّت بيده على ظهرها مراراً ومراراً محاولاً التهدئة من روعها، فشعرت بالآمان والراحة بين ذراعيه.
وبصمت، هز بيثاغور برأسه لإدراكه في أعماقه بأن ما قد رآته بيثيا من مستقبل للبشرية هو حتمي الحدوث، وهو الذي سبق له أن شاهد أيضاً المصير القاتم الذي تنتظره الإنسانية وذلك من خلال ما قام به من تأملات عميقة.
لاحقاً، غادر المعلم مع تلميذه معبد دلفي بأمل كبير وحذر شديد.
لقد أعطى المسارة للكهنة وللعرافة محدداً لهم العقيدة المقدسة متمنياً في قلبه أن يشع نور إيل – أبولو من جديد على اليونان من خلال تعاليمهم وهم الذين باتوا واعين لتلك المهمة.
* * *


لقد عاد المساري وتلميذه إلى ساموس وأختار مكاناً جميلاً خارج المدينة، وهو كهف بأسفل جبل ( على الأرجح جبل كركيس Kerkis ) جاعلاً منه منزلاً له. فأمضى أياماً وليالٍ بداخله منكباً على وضع قوانين حبه لصوفيا
( الحكمة ). وكان معه تلميذه حيث كانت الطاقة المنبعثة من المعلم منيرة ظلمة الكهف ومثيرة شغف ذاك التلميذ.
وكان المعلم يتأمل جالساً بصمت عميق بالأشياء التي ستساعده في تأسيس عقيدته وهو في حالة عقلية مختلفة ما وراء عالم الأحاسيس محلقاً في البعد السماوي مدركاً ومضات العقل الكوني المحدث التشكيلات والصوّر المرتبة في الخطة اللامتناهية للحياة الكونية، وكان إتصاله بذاك العقل قوياً للغاية في هذه المرة.
ولم يكن قد شعر بمثل هكذا شعور من قبل، إنها علاقة تجاذبية روحية مع الإرادة الإلهية. وبات كل شيء من حواليه في كل الإتجاهات والأبعاد حقيقة واحدة هي نقطة وحدة العالم المتجسد والغامض، للمخلوق واللامخلوق، شعت بلمعان برّاق لامعة في الداخل كما في الخارج رابطة الحقيقة المطلقة مع الحقائق النسبية في حالة واحدة من الإتزان الأبدي.
وفي تأملاته الأخرى، طوّر وأتم علومه عن الكواكب متتبعاً ومعتمداً على الشروح الماتيماتيكية، مما سمح له بأن يقوم بوضع سُلَم موسيقي إختلفت فيه النغمات بإختلاف الكواكب، إذ كان لكل كوكب منها نغمته الخاصة، معتمداً على حساباته للمسافات الفاصلة بين بعضها.

إن معرفة الحكمة كانت في غاية الوضوح في كنعان – فينيقيا، ومصر. غير انه لم يكن مقبولٌ بها بتاتاً في اليونان. وفي خضم المعمعة الثقافية التي كانت محيطة بالبحر المتوسط، بدأت معرفة الحكمة بصعودها السريع في تلك الأيام باليونان، وراحت شهرة بيثاغور وصيته ينتشران خارج المدن لتصل إلى قلب العالم اليوناني.
وبات كل اليونانيين معجبين بحكمته، فتحولت النتيجة في ساموس من سلبية إلى إيجابية. وراحت الجموع تتقاطر لدائرة الحكمة في كل أرجاء اليونان مواظبة على القدوم إليه يومياً وهم على آمل كبير بتعلم المبادئ الأساسية للحياة الكاملة.
وما هي إلا بضعة أسابيع حتى إنضم إليه في كهفه المزيد من التلاميذ. وكان الكهف يرمز للمادة التي منها تشكل العالم الذي كانت فيه تتحرك النفوس المأسورة في بحثها عن النور والحرية، إما عن طريق الموت، او من خلال المسارة.
وكانوا حوالي الثلاثين تلميذاً يجتمعون إليه للإستماع إلى تعاليمه وعقيدته، وهذا ما شجعه أكثر للمضي قدماً في متابعته لمهمته محولاً رؤياه إلى حقيقة محققة بإعداده مبنىٍ بشكل نصف دائري Hemikyklion وهو كناية عن مدرج صخري طبيعي مكشوف يشرف على المدينة. وهناك، على قمة الجبل، وبهدؤ وصفاء تام جمع بيثاغور من حواليه البعض من تلاميذه:
ميليسوس - Melissus
لاكون -Lacon
أرخيبوس- Archippus
كلوريبوس-Glorippus
هيلوريس-Heloris
هيبون-Hippon
وراح يعلمهم أسس الحياة الروحية.
أما مواطني ساموس فقد سألوا بيثاغور أن يقوم بتمثيلهم أمام الحاكم الفارسي لبلادهم بغية أن يكون السامع لهم مطاليبهم ملحين عليه بالإنضمام إليهم لإدارته أعمالهم. فهم، وبكل بساطة أرادوا منه أن يكون قائدهم السياسي. وهو لم يرفض ذلك فأراد مساعدتهم لأنه كان مواطناً أيضاً له رغبته في أن تتحق العدالة. وكانت الناس كلها واثقة به، ولذلك فقد شرع بالعمل بكل ما له من طاقات بغية النجاح في مهمته تلك.
ومرّت الأيام بسرعة، وبيثاغور يواجه المصاعب العديدة هنا وهناك. هذا لأن معرفته بالقوانين المدنية كانت بسيطة جداً، فوجد نفسه غير قادرٍ على الدخول في المساوامات السياسية ولا على التكيّف مع القوانين المدنية التي كان المجتمع ساعياً لبلوغها، هذا فضلاً عن كونه كان مريداً صرف الوقت بالتأمل في الحكمة في كهفه خارج ساموس، كما كان عليه أيضاً واجب الإهتمام بتلاميذه.
وإزدادت عليه الضغوط، وراح يسأل نفسه، كيف سأتخلى عن ما للناس من مشاكل . وإنتابه الشعور بالثقل في رأسه وضميره. أما أبناء ساموس بالمقابل فلم يكونوا على إستعداد لتلقيهم حكمته الإلهية وتطبيقها في حياتهم الإجتماعية، فراحوا يتجاهلونها غير راغبين في خلق التوازن بين ما للآلهة من قوانين وما للبشر.
- وكان المعلم في داخل كهفه المُنار بواسطة مشعل معلق جانباً يتأمل بقدره متسألاً:
" ما هي مهمتي يا ترى؟
ما هو معناها إذا ما كنت قادراً على مساعدة الناس الذين هم بحاجة للمساعدة"؟
وبإنخطاف عميق، توصل للقرار وباتت رؤياه واضحة في عقله. إذ رأى بطريقة غامضة ما عليه القيام به للنجاح في مهمته. وللغاية فقد قرر تأسيس مدرسة للحياة وللحكمة والعلوم تكون بمثابة المكان الذي فيه يتحقق الإتزان لإستنهاض الآلهة الكامنة في كل كائن بشري. إنها مدرسة لا تخرج سياسيين ولا رجال أعمالن بل مساريين حقيين من رجال ونساء، أباءٌ ملهمين، وأمهات مباركات.
- وأحتار بأمره، قائلاً في قرارة نفسه:" أين سأقيم تلك المدرسة يا ترى"؟
- وأجاب نفسه:" على التأكيد ليس في ساموس".
لقد أراد تحقيق رؤياه في مكان أكثر حرية وإنفتاح على كل ما هو جديد من أفكار وتعاليم حيث لا قيود مفروضة من أي نظام إجتماعي مرتبط بالزعامات السياسية.
وهو لم تكن مطلقاً فكرته في الإصلاح نوعاً من الثورة ضد الأنظمة، بل كانت في تعليم الشبيبة وخلق حياة مثالية . إذ أن رؤياه ما كانت لتسمح له بالقيام بحركة تمردية ثورية من المحتمل أن تأخذ شكلاً غير منظّم وفوضوي مما قد يؤدي إلى صدامات ليست بحضارية. بل على العكس من كل ذلك، فهو أراد أن يعمل على تنظيم نوع من المسارة العلمانية تستمد غذائها من تصوّر قائم على تحويل النظام السياسي الجائر في مدينة ما من المدن إلى نموذج مثالي متجسد بمعرفة الحكمة. وبمعنى آخر أكثر وضوحاً، بإقامة مدينة كاملة يتوحد فيها ما هو إلهي مع ما هو إنساني ومدني في العقل الإجتماعي.
ولم تكن مدينة ساموس على إستعداد للقبول بهكذا تصوّر، ولا حتى آية مدينة أخرى من المدن اليونانية التي كانت خاضعة لحكم المتعصبين المدّعين بأنهم المجسدين لعقيدة الحق الإلهي التي تحكمت بنفوس البشر دافنة إياهم في لحد المكان والزمان.
وفي داخل كهفه تصوّر أيضاً تحريراً للبشرية يطلقها خارج دوائر الوجود الحتمي حيث هي مأسورة، لتحلق عالياً في الدوائر الأبدية لكي تصبح آلهة تطفوا بحرية كومضات في " العقل الكوني ".
- وعند حلول صباح النهار التالي، إستفاق بيثاغور من نومه وفي ذهنه وجهةٌ. فقال لتلاميذه بجدية:" جهزوا أنفسكم للرحيل".
- وسأله أركيبوس بقلق شديد:" ولكن ماذا عن ساموس"؟
- أجابه:" إن قلبي مع أبناء ساموس أما عقلي فهو مع ماكنا – غريسيا Magna – Graecia، حيث هناك يوجد العديد من الرجال والنساء العطاش للمعرفة".
وبعد مضي البعض من الوقت، غادر المعلم وتلاميذه الكهف متوجهين صوب الشاطئ حيث كانت ترسوا إحدى السفن الكنعانية – الفينيقية.
وما هي إلا بضع دقائق حتى أبحروا متجهين إلى إيطاليا.

************

يتبع ..... مع الشكر لمتابعتكم الغالية (f)
07-24-2005, 07:38 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
نار غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 16
الانضمام: Aug 2004
مشاركة: #14
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
شكرا لك يا Georgioss

وشكرا على مجهودك....

تسجيل متابعة
07-25-2005, 05:04 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
أميرة المحبة غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 86
الانضمام: Jul 2005
مشاركة: #15
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
[CENTER]جرجس لا بد وانه موقوف ثلاثة أيام !!!

وأنا أنهيت الآن الجزء الأول من هذه الرواية الصوفية , وقلت لأسجل متابعة ,

مع محبة الأميرة .

***
07-27-2005, 02:37 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #16
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
سلام وهدوء وراحة قلب

[CENTER][صورة: candles_and_flames_2.gif] [صورة: candles_and_flames_2.gif] [صورة: candles_and_flames_2.gif][/CENTER]

كل ما أتيت إلى هذه الساحة يختلجني شعور بالراحة ودفء القلب

يوم من الأيام سأتي اليها ولن ارحل

أميرتي اهلا ً بك في هذه الراوية (f)


ــــــــ

نكمل وأعذرونا بحيث كنا ممنوعين !!!

الفصل السادس


ولادة المجتمع البيثاغوري


في حوالي سنة 1518 ق.م، وبعد مضي أربعة أيام وليالٍ وصلوا إلى خليج تارنتوم Tarentum إى مدينة كروتونا Crotona التي أشتهرت بثقافتها العلمية والدينية، إذ كان يعيش فيها العديد من الأطباء والعلماء في الرياضيات. ومن بين المدن الإيطالية كانت هي المدينة الأنبل، لكنها وفي تلك الأيام كانت تواجه أزمة كبيرة، فالأوضاع فيها على المستويات الأخلاقية والسياسية والإقتصادية كانت كارثية. والبضائع الفاخرة التي كانت تدخلها تسببت في أن يكون إقتصادها غير ثابت، أما نظامها السياسي فلم يكن متزناً وذلك مرده إلى العيوب الأخلاقية التي أفسدته. فاللاعدالة، وإنعدام المساواة، وفقدان الوحدة بين أهلها مع هذا التراكم الكبير للمشاكل ألحق الضرر الكبير بها.
وكان بيثاغور مدركاً لتلك الحقائق وهو يواجه تحدياً جديداً، لكن إرادته كانت تحركها رؤياه وخاصة عندما أدرك بأن أهل تلك المدينة هم من عبّاد أبولو.
- وقال بيثاغور لأحد تلامذته أثناء تجوالهما مع بعضهما في أرجاء كروتونا:" أنا أتمنى أن تلقى مبادئي الإصلاحية الأرض الخصبة لها هنا عند كل الناس بمن فيهم مجلس شيوخ هذه البلدة".
هذا وأن سمعة المعلم الطيبة كانت قد سبقت وصوله إليها شخصياً، ذلك ان البحارة الكنعانيين – الفينيقيين كانوا قد نشروا أخباره في أرجاءها.
وإستراح بيثاغور ليومين من رحلته بغية أن يقوم بتصفية ذهنه، وتجهيز نفسه للمهمة. إذ أن أحد تلاميذه كان قد أعلمه بأن سكان المدينة يتحدثون عنه. عندها، أدرك أنه من الواجب عليه أن يظهر لهم ما من شأنه أن يترك في نفوسهم الأثر الطيب والإنطباع الجيّد.
وأختار يوماً مشمساً وجميلاً، فمشى بين الجموع بلباسه الأبيض موجهاً تحيات السلام لجميعهم قاصداً التلة الصغيرة التي وما إن وصلها حتى جلس على عشبها الأخضر، وراحت الناس من نساء ورجال يتحلقون حوله إلى جانب تلاميذه البيثاغوريين الذين أتوا معه من ساموس . وظل صامتاً لبرهة من الوقت إذ كان يتأمل. وأخذت الجموع الحيرة والدهشة لما كان بادياً فيه من غموض وإختلاف، وهو الهادئ جداً بحضوره الغريب والمميز. وراحوا يتهامسون فيما بينهم عن ما له من هالة قوية.
ووقف بيثاغور، وساد سكون تام المكان، فنظر من حواليه ورأى كم كانت أعدادهم كبيرة ملاحظاً في أعينهم ما لهم من توسلات له لكي يخاطبهم، كونهم كانوا شديدي الشغف لسماعه وهو المدرك ذلك تماماً والذي من أجله كان هناك.
وبدء يعظ:" في ذات مرة كان هناك شابٌ من موطني صيدون إبن صيادٍ للأسماك، فأراده أبوه أن يكون مثله صياداً. فراح يعلمه مدرباً إياه على إصطيادها، إلا أن ذاك الشاب لم يكن سعيداً بسبب عدم ملاقته النجاح في عمله، إذ كان وفي كل مرة يذهب فيها للصيد كان يعود مع الغروب وسلته فارغة، وظلت أموره سائرة على هذا المنوال لفترة طويلة من الزمن، وراح يفكر ملياً بضرورة تركه لمهنة الصيد بحثاًعن عمل آخر. وكان أن حصل معه في يومه الأخير من عمله كصياد أنه وعندما كان بعيداً عن الشاطئ رأى ضباباً طافياً على وجه الغمر ومن خلال ذاك الضباب بان له رجل كهلٌ مبحر بمركبه عائداً من صيده الأسماك وسلته مليئة بأعداد وفيرة منها. وشاهد الكهل في عيني الشاب نظرةً حزينةً، فسأله بصوت ينم عن عاطفة نبيلة:" ما هي مشكلتك يا ولدي؟ ولماذا أنت حزين للغاية؟
أجابه غاضباً:" منذ ما لا يقل عن ثلاثة أشهر وأنا اقصد البحر بمركبي للإصطياد وفي كل مرة كنت أعود وسلتي فارغة".
وظل الكهل صامتاً ومترقباً نهاية قصة الشاب الذي سأله:" أنا أرى سلتك مليئة، فهل أنك وفي كل مرة تذهب فيها للصيد تعود منه وسلتك ممتلئة كما هي الحال الآن؟ أنا أعتقد بأنك محظوظ للغاية، أليس كذلك"؟
فنظر إليه الكهل بهدؤ وقال له:" أنا عندما بدأت بالصيد كانت حالي كحالك تماماً، إذ كثيراً ما كنت أعود وسلتي فارغة، وعلى الرغم من ذلك فلم ينتابني اليأس من ذلك، إلى أن أدركت أخيراً بأن المسألة هي ليست مسألة حظ، بل هي مسألة حب. لذلك فأعلم أنه من الواجب عليك أن تحب البحر كثيراً حتى يبادلك الشعور مكافئأً إياك بملئه سلتك".
- وتابع بيثاغور:" وهكذا أحب الشاب البحر، والبحر أيضاً بادله الشعور".
وأنهى المعلم بكلامه الأخير هذا عظته.
وكانت الجموع شديدة التأثر بقصته البسيطة التي كانت في الوقت عينه شديدة العمق، والتي فهمها بعضهم حرفياً كما هي، أما البعض الآخر منهم فراح ينتظر الرابط الذي سيربطه بتلك القصة وبالمعلم الغامض الذي أخبرها.
- ومن على تلك التلة علا صوت بيثاغور الناعم المحدث الصدى في آذان السامعين حيث كانت النسمات العليلة ملطفة الأجواء هناك، وراح المعلم يشرح ما لقصته تلك من مغازٍ ومعانٍ:" أيها الإخوة والأخوات الطيبون والطيبات. إن الحكمة هي كالبحر تماماً إذ لا يستطيع أحدٌ الوصول لأساسها الكامن ولا بالدنو منه مهما حاول ذلك. وأمام هذا فعلى المرء الساعي إليها أن يحبها حتى يدركها، ذلك أن أدراكها لا يأتي إلا من خلال توازن الأبعاد الثلاثة لكينوتنا. وأعلموا، أن مملكة الحكمة هي في داخل كل فرد منكم حيث من الواجب عليكم إنارة طريقكم لكي تتمكنوا من الوصول إليها. إنها علم الحقيقة".
لقد كانت عظته مليئة بالنعم، وعيناه تشعان حكمة أثناء كلامه محدثة طاقة تواصل إذ جذب بظهوره الجليل الناس لصورته الشبه إلهية الحاضرة دوماً فيه، وتبسّم.
وإنطلاقاً من عظته تلك في كروتونا، فقد جذب إنتباه الناس إليه ملزماً إياهم برفع عقولهم صوب مملكة الحقيقة، الأمر الذي جعل منهم لتوّهم محررين من قيود الخوف التي كانت آسرةً بحثهم عن المجهول.
- وسأله أحد الشبان بفضول:" هل أنت الحكيم"؟
- فرد عليه بتواضع وثقة:" لا، أنا لست الحكيم يا أخي، أنا " حبيب الحكمة " : فيلو – صوفيا (1 ) Philo – Sophia.
وبطريقة مفجاءِة، راح البعض من الكروتونيين يقارنونه بالإله جوبيتر. أما الأخرون منهم فأعتبروه إبن أبولو، في حين أن البعض الآخر منهم رأى فيه تجسيداً للإله أبولو بذاته.
أما بيثاغور من ناحيته، فلم يكن يروق له ما كان يظنه فيه هؤلاء، فأراد أن يؤكد لهم أنه رجل عاديٌ أدرك الأُلوهة بعد أن أمضى سنين عدة وطويلة من تحضير نفسه العميقة وتنقيتها. غير أن الوقت لم يكن مؤاتياً له لإعلانه لهم ما هو عليه حقيقةً، وذلك بسبب إحتمال عدم تفهمهم إياه، أو مخافة أن يستنتج البعض منهم بأن كلامه هو كلام تجديف مهين بحق آلهة اليونان. وراح يفكر بكيفية تلقينهم ما له من علوم ومعارف رويداً رويداً بربطه الرابط المفقود لتركيبة الحقيقة المخفية عنهم.
ومرّت الأيام هادئة بحياة الكروتونيين، ففي كل مرة كان فيها المعلم يصعد التلة كانت الجموع تحتشد من حوله بالمئات للإنصات " لحبيب الحكمة " بإنتباه شديد. أما هو فكان دوماً يخاطبهم مظهراً لهم في خُطَبه الحب والإهتمام الكبيرين لإدراكه في أعماقه بأن المحبة هي اللغة الوحيدة التي يمكنه الوصول من خلالها إلى قلوبهم وعقولهم وحتى أرواحهم.
وكان مجلس شيوخ كروتونا شديد القلق بسبب تنامي إعداد الناس الذين كانوا يقصدونه متهافتين عليه لسماعهم كلماته، وللغاية أراد أعضاء المجلس إتخاذ موقف منه لكنهم إرتأوا أنه من الحكمة أن ينتظروا بعضاً من الوقت، إذ كان من المحتمل عندهم أن تكون ظاهرته تلك لا تتعدى كونها مجرد ظاهرة ثقافية وعلمية لا أكثر ولا أقل وهي ربما ستتوقف تلقائياً في يوم ما من الأيام. أما بالنسبة لدوره كمساري فلم يكن أبداً بنظرهم ليشكل أية مخاطر على مجلسهم ذاك.
وفي تلك الأثناء، كان المعلم يحث الشبيبة على ضرورة التعمق في المعارف عن طريق البحث الدؤوب في المعاني الباطنية المحتجبة خلف العالم الظاهر في وقت كان فيه الكروتونيون يظهرون إلتزامهم القوي بتعاليمه.
وفي إحدى الصباحات الباكرة في الوقت الذي فيه توّجت الشمس المملكة السماوية توجّه المعلم من جديد إلى التلة، وشد ما كانت دهشته كبيرة عندما شاهد جمعاً كبيراً من الشبيبة محتشداً بإنتظار قدومه إليهم. فوقف في وسطهم صامتاً، وأنتابه الشعور بأنه جد قريب من كل فرد منهم، وراحت طاقته بالإنتشار في كل الإتجاهات منصهرة مع طاقاتهم. وبطريقة لا تخلوا من الغرابة ضمّت طاقته طاقاتهم بحضور الإرادة الإلهية.
- وراح يخاطبهم:" يا إخوتي، إني أتمنى لكم الصحة والعافية، وأنتم ربما تتسآلون عني وعن ما سأقوله لكم. فأعلموا أني بإسم الحكمة أتكلم ناطقاً بالحقيقة.
كرموا أولاً إيل – أبولو الإله المطلق بصمت وطهارة. ومن بعده كرموا الآلهة التي لا تموت، وأيضاً القانون الإلهي الذي رتب الآلهة بدقة، وبالقَسَم أعبدوهم. وكرموا أيضاً أنصاف الآلهة، وأخيراً الرجال الذين قاموا بالأعمال الجيدة والحسنة.
ومن المحتمل أنكم تتسألون عن الحياة، فأعلموا أن الحياة هي تسلسل لأحداث وأرقام متجسدةً في مسيرة الزمان والمكان. وأعلموا أيضاً، أن التطور هو قانون الحياة، وعليه فليكن معلوماً لديكم أنه من الواجب عليكم أن تكونوا شاكرين وممتنين لأهلكم الذين نقلوا إليكم التطوّر وعلى هذا أنتم لهم مدينون. وإستمعوا بإنتباه لكباركم، وإحترموا أهلكم، وفكروا بهم بسمو، وأحبوهم غير متسببين لهم بالألم لأنهم أحبوكم وأهتموا بكم من قبل أن تولدوا. فإسمعوا هذا مني وتذكروا دوماً بأنكم مدانون لهم بالشكر والإمتنان وعرفان الجميل تماماً كشخص يكون قد مات، فجاءه من أقامه من موته معيداً إياه للحياة والنور".
وبعدها، مد يده اليمنى ناحية الشرق، أما اليسرى فمدها جهة الغرب وتابع كلامه:" في الصباح تشرق الشمس من الشرق، وفي المساء تغيب من الغرب. وإن هذا القانون الطبيعي هو دائم التكرار يومياً، إنه بذلك ممثلٌ دورة التجسد. وأعلموا، بأن الشرق هو أكثر كرامة من الغرب، وكذلك الصباح أكثر من المساء. لذلك، فأنتم ترون بأن البداية التي هي نصف الكل لها قيمة أكثر من النهاية تماماً كالحياة التي هي ذات قيمة أكبر من نصفها الثاني الذي هو الموت".
وكان المستمعون له جد معجبين بحكمته وشريعته وآدابه.
وإنتابهم الشعور بالإرتياح من أثقال وتعقيدات الحياة ومن ما عليهم من واجبات حيال أهلهم.
وببطء بدأوا يستوعبون ويفهمون تعاريفه الفلسفية للأشياء ولكل ما كان ينقله لهم من حقائق.
* * *


لاحقاً، إنتقل بيثاغور وتلاميذه إلى المدن المجاورة من ريجيوم Rhegium إلى سيباريس Sybaris مدركاً من كبار تلك المدن بأنها في الماضي كما الحاضر قامت بممارسات غير لائقة ولا عادلة تجاه بعضها البعض، هذا فضلاً عن ما قاموا به من إستعباد فيما بينهم.
- وراح بيثاغور يخاطب أبناء هذه المدن ببلاغة:" أيها المواطنون الأصدقاء، إن الحياة البشرية طبيعياً سوف تتأثر سلباً بسبب الأفكار والتصرفات الغير لائقة لتصبح بذلك مساقة بالرغبات الغرائزية في إستخدام القوة للسيطرة الساكنة في نفوسنا الجبانة والضعيفة والمريضة. وإن هذه الأساليب من شأنها أن تؤدي إلى وقوع أحداث كارثية في المجتمعات البشرية. فالبشر كانوا دوماً يبحثون عن الحماية، ولتأكيدها قاموا بكل ما هو ضروري مستخدمين القوة في الكثير من الأحيان مما أدى إلى ولادة العدائية التي بسببها حل الظلم وإستعباد الضعفاء، وكان كل ذلك نتيجةً لشذوذ العقل البشري. فأسمعوني بدقة وإنتباه، فأنا أطلب منكم أن تتوحدوا مع الآخرين بطريقة جديدة.
تصالحوا مع أعدائكم.
نقوا أنفسكم من من العداء والعدائية وأللاعدل والرغبة بالإستعباد.
وإعلموا بأن كل هذه الأمور تتطلب شجاعة، فكونوا شجعان. وأفعلوا ذلك بتواضع وإعتدال.
وحثوا أنفسكم على عشق الحرية.
وهذبوا مشاعركم لتشعروا بالعدالة والعيش بمساواة، لأن هذه هي أهم الصفات الحقيقية للحكمة".
ودخلت كلماته إلى عقولهم ملهمة إياهم في البحث عن آفاق جديدة وإنتماء جديد لبشرية مسالمة ومُحِبة في خطة الحياة المتطورة.
فبيثاغور بحكمته فاق كل حكماء اليونان، وحتى كل العلماء الكبار من حول المتوسط. ذلك أنه خلاصة الحكمة البشرية على الإطلاق.
وفي إحدى أيام الربيع، كان المعلم ذاهباً برحلة من سيباريس إلى كروتونا وهو مستمتع بالطقس المعتدل والهواء العليل حيث كانت الشمس بادية وكأنها تلعب إيقاعاً، مكوّنةً بذلك نقاطاً متحركة على ردائه الناصع البياض. وكان البحر هادئاً، وهو في طريقه على مقربة من الشاطئ، إلتقى بالبعض من صيادي الأسماك وهم يرفعون شباكهم المملؤة منها. فأدرك المساري بأن الوقت قد حان له بغية أن يظهر ألوهيته ذلك أن الظروف باتت مهيئة أمامه للإتيان بمعجزة.
- وخاطب الصيادين قائلاً:" مرحباً يا أصقائي الصيادين، إني أراكم جد متحمسين وأنتم ترفعون الشباك من أعماق المياه".
- وردوا عليه فرحين:" نعم بالتاكيد".
قال:" إذن لا تكونوا متفجائين إذا قلت لكم أنه بمقدوري معرفة الرقم الدقيق لما أصطدتموه من أسماك".
- وقال أحد الصيادين بسخرية:" وهل انت إلهٌ من الآلهة؟ فنحن كنا قد سمعنا دوماً عن أناس كثيرين فيما مضى كانوا قد إدعوا بمعرفتهم المجهول، ولكن سرعان ما كان يظهر بأنهم ليسوا سوى أناس مجانين".
وضحك الكل ساخرين من المعلم.
وضحك معهم أيضاً بيثاغور من دون أن يعلق بشيء، ومن ثم نظر إلى كل فرد منهم. فإنتابهم الشعور بأن نظراته الخارقة قد نفذت إلى عمق أعماق نفوسهم، وراحوا يرتجفون من الداخل.
وساد السكون لهنيهات على الشاطئ، وكأنه ضباب غيمة مرخية بظلالها عليهم.
- وقال:" يا أيها الصيادون الأعزاء، عندما أدلي بنبؤتي ويظهر لكم صدقها وصحتها يجب عليكم عند ذاك أن تعيدونني بشيء واحد".
- الصيادين:" ما هو هذا الشيء الذي تريد منا ان نعدك به"؟
- بيثاغور:" يجب عليكم أن تعيدوا الأسماك حية إلى المياه في البحر".
- وسأله واحدٌ منهم بقلق:" ولكن، ماذا سنأكل"؟
- وسأله آخرٌ كان كهلاً:" حية"؟
- وقال أحدهم مظهراً الجدية والحراصة:" إن الصيد هو عملنا الذي نقوم به لنحيا".
- عند ذاك تكلم المعلم بحذاقة وإهتمام:" أتركوا مشاكلكم وقلقكم لي، وتحلوا بالإيمان. فلا عليكم، سأحلها".
وبدأ الصيادون بوضع أسماكهم التي كانوا قد إصطادوها على رمال الشاطئ، وراحوا يعدّونها. وكان بيثاغور مراقباً إياهم بدقة. وأستغرق عدّها الكثير من الوقت لكثرتها، وهي كانت ما تزال حية بحضور حبيب الحكمة. . . وعندما أتموا مهمتهم بعدّها كلها، أبلغهم بيثاغور بعددها، وشد ما كانت دهشتهم كبيرة، ذلك أن الرقم الذي أعطاهم إياه كان مطابقاً بالتمام والكمال لعددها. وراحوا يتهامسون فيما بينهم مبدين إعجابهم الكبير به، وتقديرهم لما له من قوة على الإدراك.
- وقال لهم:" الآن، وبعد أن شاهدتم بأم العين ذلك، أطلب منكم حالاً إعادتها كلها إلى البحر".
فأعادوها إنفاذاً منهم للوعد الذي قطعوه على أنفسهم أمامه، ومن ثم قام بدفع ثمنها كاملاً لهم طالباً منهم أن لا يخبروا أحداً عن تلك الواقعة.
بعدها، رجع إلى كروتونا تاركاً خلفه إبتسامته الإلهية.
وتبعه الصيادون الذين آمنوا به. وتمكنوا من معرفة إسمه من بعض الصبية الذين كانوا هناك على الشاطئ جالسين. وما هي إلا بضع ساعات حتى شاعت أخبار تلك المعجزة بين كل النساء والرجال. وبات الكثيرون جد تواقين لرؤية المعلم الخارق ومخاطبته والإستماع إليه، وراحوا يتقاطرون إليه قاصدين كروتونا من كل أرجاء إيطاليا.
* * *


في ذلك الوقت لم تكن شهرة بيثاغور لتشكل ظاهرة ثقافية وإجتماعية مثلما أعتقد أعضاء مجلس شيوخ كروتونا، ولم يكن بيثاغور مشعوذاً ولا دجالاً بل كان يبدو مجسداً للغز حقيقي ذلك أن أتباعه والمخلصين له باتوا بالآلاف وهم قادرين على فعل أي شيء.
واستدعى مجلس الشيوخ المؤلف من 1000 عضو بيثاغور ليمثل أمامه، وعندما أتاهم رحبوا به بإحترام كبير.
- وسأله رئيس المجلس:" نحن سمعنا بالذي كنت تعلمّه لأولادنا، وها نحن الآن ملتقون وإياك موافقينك على كل ما طرحته من قوانين إجتماعية وأخلاقية. لكن، قل لنا صراحةً، لماذا تقوم بكل ذلك حاملاً كل شيء على منكبيك"؟
- أجاب:" بما أنكم كلكم يا أيها النبلاء موافقون على تعاليمي فإن ما طرحتموه عليّ من أسئلة إستضاحية لا قيمة له البتة. على أي حال، لست أنا الشخص الوحيد الحامل كل هذه الأثقال بل كلنا حاملين إياها بطريقة أو بأخرى نحن بني البشر في سيرنا على دروب الحياة الوعرة".
وتوقف المساري عن الكلام للحظات، لكي يتابع بعدها كلامه، غير أن واحداً من كبار أعضاء مجلس الشيوخ قاطعه بقوله:" لكننا سمعنا، والبعض الآخر منا رآى أنه ولدى تكلمك، فإنك تتكلم وكأن ثمة قوة خفية عاملة فيك. فما هو سرك؟ وما هي تلك القوة الخفية التي تمكنك من قيادة الناس"؟
- أجابه بهدؤ:" لا يوجد هناك من سر، إن القوة الخفية التي أنتم عنها متسألين هي ليست سوى ما للحكمة من قوة. تلك الحكمة النائمة في كل فرد منكم منتظرة إستنهاضها في داخلكم، وأعلموا أن المسألة معي هي ليست في كوني قائداً للناس بل هي في إنصهار أساسنا الكامن، وهم بذلك إليّ منجذبين بنفس الطريقة التي فيها أنا منجذبٌ إليهم ".
فنظر وجهاء مجلس الشيوخ ببعضهم البعض مدهوشين بعد أن تبيّن لهم أن بيثاغور لا يشكل عليهم أية مخاطر تذكر، وبدت لهم كلماته حاملةً معانٍ إلهية.
- وسأله أحدهم:" لقد سمعنا عنك بأنك قد قمت بمعجزة، والناس منهم من يرى فيك إلهاً، ومنهم من يرى بأنك مجسّدُ لأبولو في إحدى تجسداته. هل أنت فعلاً كذلك؟
- ورد عليه المعلم ببراعته المعهودة:" تجسد أبولو؟ أو إحدى تجسداته؟! كيف لي أن أكون كذلك؟ وأنا مولود من إمرأة. إسمعوني، لقد قلت للكروتونيين مراراً وتكراراً من أنا، ولكم سأقولها أيضاً يا أيها الإخوة الأعزاء: أنا حبيب الحكمة،وهذا ما أنا عليه. وضعوا في رؤوسكم بأن عملية ولادة الإنسان هي مقدسة وعليكم واجب إحترامها كثيراً لأنها الطريقة الوحيدة التي بها يتم تقمص روح العالم".
لاحقاً، سأل المجلس بيثاغور عما إذا كان لديه أي شيء ذو قيمة يريد قوله للكروتونيين، إذ أن أعضاء المجلس سيكونون جد مسرورين بإلإستماع لك، لأننا كلنا في هذا المجلس القادة الحاليين للناس.
إنها دعوة رسمية للمعلم ليتوسع بما له من تصورات حتى يزداد الناس تعمقاً بما له من علوم، ومن ثم قدم لهم الضمانات بأن تعاليمه لا تشكل أية مخاطر على دستور دوريان Dorian ( 2 ) المعمول به في كروتونا، بل على العكس من ذلك فإن تعاليمه من شأنها أن تدعم الدستور. وبعد أن إستمع المجلس لتأكيداته تلك، إنتابهم الشعور بالإرتياح. إذ أن بيثاغور لم يكن أبداً مشكلاً أية تهديدات لهم وللناس على السواء، فهو المجسد لشخصية الإنسان المصلح الروحاني.
- وتكلم ببيثاغور مظهراً إهتمامه الكبير:" يجب عليكم أن تدركوا يا أيها الوجهاء الكرام بأنكم قد ورثتم بلادكم هذه من آبائكم وأجدادكم، وبأنكم قد حصلتم على مركزكم هنا في هذا المجلس بفضل ما منحكم أياه الناس من ثقة كإرث مشترك بينكم وبينهم. وأنا إنما قلت لكم ذلك كي تمارسوا سلاطاتكم وفقاً لذلك كي تتمكنوا من نقلها بإخلاص للأجيال التي ستأتي بعدكم".
- ومن ثم، سار بيثاغور في تلك القاعة ليقف في وسطها متابعاً كلامه:" إسمعوني جيداً، أنا الآن سوف أعطيكم خمسة وصايا من الحري بكم الإعتماد عليها في إدارتكم الحكم:
1- ساووا بينكم وبين كل الناس فيما تفعلونه لهم. وإذا رغبتم في أن تقوموا بعمل ما إستثنائي فليكن ذلك العدالة بحد ذاتها، هذا لأن كل إنسان يتوق إليها.
2- ليكن كلامكم دوماً محقاً، ولا تقسموا بالآلهة التي من الواجب فصلها عن قوانين المدينة . وخذوا دوماً الخيارات والقرارات الحازمة في إدارتكم للحكومة.
3- كونوا مخلصين في كل شيء وخاصة لزوجاتكم، فلا تكون لكم علاقاتكم الغرامية خارج إطار الزواج من أجل أن تتجنبوا تفكك الأسرة والمجتمع، ولكي لا تصبح أمّتكم قائمة على الأبناء اللاشرعيين.
4- كونوا مهتمين بالآخرين كي لا يقوموا بالأعمال السيئة والمشينة ولا تخيفوهم بإلحاق القصاص بهم عند مخالفتهم القوانين، بل على العكس من ذلك. فضعوا في أذهانهم الإحترام العميق للتصرفات الحسنة وقدموا لهم الفرصةلأنها الطريق الوحيدة " والجيدة " التي تجعل منهم مدركين لطريق الحق والخير في الحياة.
5- كونوا متعاونين مع الذين يخالفونكم الرأي ولا تعتبروا أن إختلاف رأيهم عن رأيكم هو بالأمر المهين لكم، بل على العكس من ذلك إذ يجب عليكم الإستفادة من ما لهم من أفكار وتصورات. وأقول لكم: عيشوا الديمراطية".
لقد إستمع المجلس للمعلم بتعجب ناظرين إليه بإعجاب ذلك أن ما طرحه من أفكار وقوانين إصلاحية كانت حاملة في طياتها العناصر الحقيقية للحكمة الأصيلة.
ومرت الأشهر، وبيثاغور يلاقي النجاح في جذبه للأعداد الكبيرة من المواطنين الأغنياء وغالبية أعضاء مجلس شيوخ تلك المدينة، هذا فضلاً عن الأعداد الكبيرة من الشبيبة الذين كانوا قد إلتحقوا به سابقاً. وهو بما لديهم من قوة ونفوذ تمكن أن يعيد لكروتونا إستقلالها وحريتها، وباتت كل المدن من ريجيوم إلى سيباريس حاصلة على كل ما حصلت عليه كروتونا. ولدى تحقق كل تلك الأمور بات كل الكروتونيين ومواطنوا المدن المجاورة لها شديدي الإعجاب به.
وفي غضون ذلك، كان طموحه وإرادته في الجعل من البشرية على أفضل حال قد قطع به أشواطاً بعيدة صوب التحقيق بطريقة أكثر شمولية. وهو لاحقاً وفي إحدى إجتماعات مجلس شيوخ كروتونا عرض عليهم تشييد معهد يضمه وتلاميذه وهو الذي كان قد قام بعرض فكرته نفسها على الأغنياء من الكروتونيين.
- فسأله بإحترام رئيس المجلس مستوضحاً:" هلا تفضلت بتقديم شرح وافٍ لنا عن الغاية التي منها تريد بناء المعهد"؟
- أجابه:" إن غايتي في بناء المعهد هي في أن أجعل منه مقراً لأخوية مكونة من مساريين علمانيين يعيشون سوية حياة مشتركة مع بعضهم فيه من دون أن يكونوا منعزلين عن المجتمع، ومن بين أؤلئك الأشخاص المساريين المستحقين سيكون هناك أساتذة – مساريين ليعلّموا الرياضيات والفيزياء وعلوم النفس والدين. أما الشبيبة المتابعة لقوانين الشراكة في الحياة فسيكونوا خاضعين لإمتحانات يحددها لهم المسارون ليصار بعدها إلى قبولهم لتلقي المسارة التي بعدها وتحت قيادة المعلم الأكبر في الأخوية سينضمون إلى الدرجات المختلفة من المسارة كلٌ حسب مستواه الفكري في الذكاء وإرادته الخيّرة. وفضلاً عن هذا كله، فسيكون على الراغبين في دخول الأخوية التخلي طوعاً عن ما لهم من ممتلكات حيث يصار إلى وضعها بعهدة أمين صندوق الأخوية الذي وفي حال قام أحد الإخوة بتركه الأخوية، فإن أمين الصندوق ذاك سيعيد له ممتلكاته . وسيكون لدي في الأخوية أيضاً جناح مخصص للنساء حتى يتمكنّ من تلقي المسارة وفق ما هو منسجم مع ما لهنّ من أدوار في الحياة".
وبذلك، أنهى المعلم كلامه شارحاً بدقة أهدافه الرامية لتشييد معهده.
وكان، أن معظم أعضاء مجلس شيوخ كروتونا قد حبّذوا فكرته فراحوا يتداولون فيما بينهم بشأنها.
وبعد مرور القليل من الوقت، تبنوا مشروع المعلم بوضعهم إياه على جدول أعمالهم للسنوات القادمة.
وفي داخل قاعة المجلس تم إبلاغ بيثاغور بقرار المجلس الداعم لمشروعه، فشعر بالسعادة تغمر قلبه. هذا لأن رؤياه قد صارت حتمية التحقيق.
- وقال لهم:" إن أعظم الرجال هم اؤلئك الذين يرون ما هو مفيد لمجتمعهم فاهمين ومتعلمين من الأحداث المفيدة التي أختبرها الآخرون".
وأنتابهم الشعور بالإطراء.
* * *

ومرّت ثلاث سنوات في ذاكرة الكروتونيين قبل أن دمروا بيت الدعارة الذي كان على حدود مدينتهم مشيدين مكانه معبداً جعلوه مكرساً للحوريات ( 3 ) وكان ذلك في حوالي سنة 515 ق.م.
وكان ذاك المعبد محاطاً برواق ذو أعمدة تحيط به الحدائق الخضراء التي كانت تفوح منها الروائح العطرة. وبوسط ذاك المكان كان بيثاغور قد قام بتشييد بيته، ذلك أن المعلم كان دوماً يظل في الوسط مشعاً على الدائرة لتفضيله البقاء على مسافة واحدة من الجميع.
- وفي ذات مرة أنتابه الشعور بضرورة أن يقوم بمخاطبة شبيبة كروتونا، فقصدتهم في معبد أبولو من أجل ذلك، وقال:" أيها الإخوة الأعزاء، سأقدم لكم الآن البعض من النصائح التي عليكم أن تفكروا بها وتتأملوها لتعملوا بها في حياتكم، فإسمعوا:
1- لا تحكموا على أحد، ولا تقوموا بأي رد فعل على الذين يحكمون عليكم.
2- إنه لمن السهل على البعض أن يكونوا معتدلين في حياتهم ومكمّلين مناشدتهم للحقيقة، غير أن ذلك هو بالأمر الصعب في المحافظة عليها ما دام الوقت يمر على الناس الذين ما تعلموا من بداياتهم كيفية الحفاظ عليها من الأناس السلبيين.
3- إذا قررتم السلوك في تلك الطريق، فيجب عليكم إتباع الأشخاص الذين تركوا البصمات الأولى، فلا تكونوا لهم من المعارضين كي لا تتسبوا لهم بالمهانة.
4- وأخيراً، أقول لكم: من المفروض عليكم أن تسمعوا بإنتباه شديد كي تتمكنوا من التواصل مع الناس حتى يستمعوا إليكم هم بالمقابل. ولذلك، فعندما تريدون الكلام كونوا مختصرين فيه قدر المستطاع إذ أنكم بذلك تتركون الأثر الكبير بالقليل من الكلام".
- ولاحقاً، إنتقل بيثاغور إلى معبد جونو حيث كانت النسوة منتظرات إياه بحذر، فخاطبهن:" أيتها الأخوات دعوني أقدم لكنّ أربعة نصائح عليكنّ التفكير بها، فإسمعنّ:
1- قبل كل شيء كنّ متواضعات وعادلات وذوات أخلاق عالية كي تسمع الآلهة صلواتكنّ.
2- لا تعبدنّ الآلهة بالدم والأجساد، بل على العكس. فقدمنّ لها الحلوى التي من صنع أياديكنّ ولا تزيدنّ في التقدمات لها كي لا تشعرنّ بأنكنّ مقصرات في واجباتكنّ في التضحية لأن أهم ما يعمله الإنسان في حياته هو التضحية. . .
3- من الواجب عليكنّ محبة ازواجكنّ كما أحببتمنّ أهلكنّ، وعليه فلا تعارضوهم وفي نفس الوقت لا تكنّ خاضعات لهم. لكن، لا تهملنّ القيام بالطقوس المقدسة في اليوم الذي فيه تجتمعنّ بهم في علاقتكنّ الزوجية وهذا من حقنّ فعله.
4- كنّ مستمعات الآن لما سأقوله لكنّ. إن نوعكنّ يا أيتها النساء هو مناسب كثيراً للإخلاص الديني. ولتكن تلك الكاهنة العرافة في معبد دلفي مثالاً لكنّ في كشفها الغامض. وليكن معلوماً لديكنّ أنه ليس من الضروري أن تلبسنّ الثياب الباهظة الأثمان مثلما أنتنّ الآن لابسات، بل على العكس من ذلك. فأنتنّ وعندما تدخلنّ المعبد عليكنّ أن تكنّ خاشعات وبلا حلي وجواهر لما لها من تأثير مادي عليكنّ، أما ثيابكن فيجب أن تكون بسيطة للغاية".
- ومن ثم، انهى المعلم لقاءه معهنّ بالكلمات التالية:" أنا سأقوم الآن بتسمية العذارى من بينكنّ:
عشتروت – بروزر باين.
أما العروس فهي نينفا.
والأم ماثير.
والجدة مايا".
وبعد مخاطبته الكل في ذاك النهار، شعر بيثاغور بالسرور لأنه فتح الطريق أمامهم للدخول إلى مجتمعه الذي كان حينها في طور التأسيس، أما الكاريزما التي كانت فيه فكانت تلهم سامعيه مؤكدة لهم شخصيته الفريدة الأمر الذي جعلهم يطلقون عليه لقب المؤَلَه بدلاً من إسمه بيثاغور ولكنه ومن دون أي إستغراب لما لقبه به هؤلاء، كان يفضل أن ينادوه بحبيب الحكمة أو الفيلسوف.
إن الألوهة ما كانت أبداً صفة مغلوطة تطلق عليه، وهو الذي سمع في إحدى المرات بوجود أنثى دب كانت تهاجم السكان مسببة لهم الجراح والآلام، فدنى منها ناهراً إياها فجمدت في مكانها ولم تعد تأتي بأية حركة. ولدى إقترابه منها أكثر، راح يدللها بيديه الناعمتين والقويتين مشيراً لها إلى مرجة خضراء كي تذهب إليها. وبعد ذلك أطعمها البعض من حبوب الذرى والبعض من من ثمار شجرة السنديان التي كانت على مقربة من هناك، ومن ثم امرها بأن لا تعود للإقتراب مجدداً من أي كائن حي. وللحال، إبتعدت إلى الغابة وإختبأت في الجبال ولم يعد يراها أحد من الناس في الجوار.
وراحت أعداد المجبين به تتزايد يوماً بعد يوم بشكل هائل بسبب ما كان يقوم به من معجزات وما يدلي به من تعاليم للحكمة التي أدركها.
وفي يوم من الأيام، وهو في منزله منكبٌ على ما سيتخذه من اجراءات لأجل مجتمعه هذا فضلاً عن إعداده لعقيدته التي كان أمله جد كبير بما سيكون لها من أثارٍ كبيرة في تطوّر البشرية، تناهى لمسمعيه صوت الجماهير الكثيرة الحماس خارجاً. فترك البيت ليرى ما هو الحاصل خارجاً، وإذا به يجد الناس المنتظرة إياه بشغف كبير يريدون سماع عظة منه، فقال:
" إن الحياة هي كالألعاب الأولمبية حيث تقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام مختلفة، منهم من يأتون إليها للقتال وهم المصارعون، ومنهم من يقصدها للتجارة، أما الذين هم اكثر حكمة فيأتون إليها فقط للمشاهدة وهم سعيدين بذلك. ودعوني أعلمكم بأن دخول الناس إلى هذه الحياة هو كتعاقب الجماهير لتلك الألعاب ولكن في واقع إجتماعي معيّن ووجهات نظر متباينة حيث البعض منهم تراه متأثراً بالحاجة للمال وللأشياء بغية الحصول على الرفاهية، وهذا هو الشر الأول الذي يدخل البيوت والمدن. أما البعض الاخر منهم فهم المحبين للقوة والسيطرة. وأخيراً هناك الذين بقومون بتركيز طاقاتهم على المجد الذي به هم راغبون. فإعلموا، أن أطهر الناس هم الذين يتأملون بالأمور الرائعة والأشياء التي من شأنها أن تستنهض في نفوسهم الحياة، إنهم الفلاسفة. وليكن معلوماً لديكم أن ما شيء يحدث صدفة، ولا بالمال يمكنكم تحقيق ما تصبون إليه. ولكن، بالإرادة الإلهية تحدث الأمور خاصة للأناس الخيّرين والأتقياء".
ولامست كلمات عظته تلك قلوب الجموع المحتشدة، إذ كانت بالنسبة للغالبية منهم بمثابة دعوى مفتوحة لمتابعتهم علومهم الفلسفية. وهذا ما كان بالضبط ما يريده بيثاغور.
ولكن ماذا عن كلامه الذي ذكر فيه " هذه الحياة "؟
هل كان يشير إلى عقيدة التقمص؟
هل أدركوا ذلك؟
وراح يتسآل.
- بعدها تكلم المعلم ثانية:" إن الحياة البشرية مقسّمة إلى أربعة مراحل:
ففي البداية نكون أطفالاً ومن ثم نصبح شباباً في غضون عشرين سنة.
إنه ربيعنا.
وبعده، نعيش راشدين لعشرين سنة أخرى.
إنه صيف حياتنا.
ويليه، عشرون سنة أخرى نعيشها ونحن كباراً.
فهذا هو خريفنا.
وأخيراً، نشيخ لعشرين سنة.
ويكون ذلك شتاءُنا.
وإن كل هذه المراحل في الحياة تشكل وحدة مع الفصول الأربعة لأمنا الطبيعة".
في الحقيقة إنه ليس فقط نحن والطبيعة، بل كل المخلوقات هي متشابهة بطريقة فريدة من نوعها وغريبة بذاتها.
ولا بد من الإشارة، إلى أن بيثاغور وكلما شعر بالحاجة إلى إظهار قواه كان يفعل ذلك بشغف كبير.
وفي يوم من الأيام في تورنتوم Torentum التي جاءها المعلم، قام بمنع ثور من أكله الفول في إحدى الحقول وذلك بعد أن همس بأذنيه. ولم يعد بعدها ذاك الثور يأكل تلك النبتة التي باتت نبتة مقدسة بالنسبة للمعلم!
ومن خلال أعماله تلك وغيرها من الأعمال المشابهة، كان بيثاغور يثبت بأن الأعمال التي كان يقوم بها بما لديه من قوى ليست مطلقاً أعمال شعوذة أو أي نوع آخر من الخدع السحرية التي تطبق على الحيوانات البرية المفترسة. فأعماله تلك، كانت بمثابة التجسيد للحكمة الإلهية التي كانت تخرج مباشرة من فمه إذ كانت لديه قوة الكلمة.
وفي أحد الأيام عندما كان عابراً لنهر كوساس ( أو ) ناسوس سمع صوتاً إلهياً يحييه، لقد كان ذلك الصوت آتياً من الدوائر العليا في مملكته الداخلية قائلاٍ له:
" لا تخف، أنا أباك المحب أضع بين يديك أسس المملكة الكونية".
كان المعلم وحيداً في صمت يقوم بتجزيء تنظيم أخويته إلى دائرتين أولها الدائرة الداخلية التي فيها معرفة الناحية الخفية للأشياء التي يتم إكتشافها، هذا فضلاً عن ألغاز المعلوم وأللامعلوم حيث تصبح ظاهرة للأشخاص المؤهلين للمسارة.
أما ثانيها، فكانت الدائرة الخارجية التي تضم كل الأعضاء الاخرين في المجتمع البيثاغوري الذين كانوا يحيون أيضاً في المدينة قائمين بالطقوس الظاهرية في عبادة أبولو الإله المطلق الواحد الموناد الصوفي وأيضاً عبادة الحوريات باحثين عن حياة متطورة إجتماعياً.
وهو متبعٌ لرؤياه، وضع حبيب الحكمة تصوراته الأساسية للعقيدة التي هي مرتكزة أولاً على الإيمان بأن الإنسان هو طبق الأصل عن الكون في داخله. وثانياً الإيمان بخلود النفس، وأخيراً الإيمان بتقمص الأرواح في أجساد جديدة.
في الحقيقة تصوّر بيثاغور بحكمة نظاماً لأخويته خالقاً بذلك مجتمعاً علمانياً ودينياً في آن واحد. أما فيما هو متعلق بالعقيدة فقد قام بيثاغور بجمعه كل المبادئ التي كان قد تعرّف عليها سابقاً من الحضارة الكنعانية – الفينيقية، إلى حضارة المصريين، والكلدانيين، والزردشتيين، والحكماء الصوفيين الهنود.
وهكذا، ولد المجتمع البيثاغوري الذي كان يضم معهداً تتم فيه الدراسات الكاملة عن العلوم في الحياة بحيث أن التلميذ وهو يدرس بإنتباه كامل النظريات كان يدخل في تطبيقها بحذر، ليجد نفسه سائراً على الطريق التي توصله إلى تناغم الأسرار الباطنية في روحه وعقله مع الكون.
لقد كان هذا سر الفلسفة الحقيقية الذي كان بيثاغور يظهره علانية لتلاميذه وخاصة اؤلئك الذين كانوا من الدائرة الداخلية. وهو بمثابة الإرتقاء للفكر البشري نحو المستويات السامية من الوعي حيث يتم هناك الإنصهار.
إنه تحقيق داخلي للحقيقة التي تجذبنا كلنا إذا أردنا الدخول إلى داخل مملكتها حيث تسكن المحركات الأكثر عمقاً للإيمان.
وهكذا، قصد المعلم أن يجعل من الفلسفة الديانة الحقيقية للحكمة. وتحت قيادته نمت المدينة وباتت مجسدة لطريقة حياة أكثر مثالية.

ـــــــــ

[CENTER][صورة: sweetangel2.gif]

يتبع (f)[/CENTER]
07-30-2005, 05:41 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
أميرة المحبة غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 86
الانضمام: Jul 2005
مشاركة: #17
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
[CENTER]متابعه

[صورة: bible6.gif]

[صورة: eyes2a.gif]

[صورة: mybar24.gif]

***
07-31-2005, 12:49 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #18
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
الفصل السابع

المدينة البيضاء


كانت المدينة البيضاء تقف منتصبة على قمة التلة مطلة على كروتونا وسكانها. وكانت أشجار الأرز والزيتون تحيط بها، وهي تشع كالماس تحت أشعة الشمس الذهبية مظهرة هدؤاً ساكناً.
أما بالنسبة للذين يحيون خارج تلك المدينة كانت تبدو لهم وكأنها مدينة سماوية. ولم يكن أحد منهم مدركاً لما هو حاصلٌ خلف جدرانها، هذا لأن لغزاً عميقاً كان يخفي أساسها مما أثار فضول الكثيرين من الشبية التواقين لمعرفة اللامعروف.
وكان التلميذ الجديد الذي يقدمه أهله، أو أحد المعلمين للدخول إلى تلك المدينة يسير صوب مدخلها ليجد على بابها حجر مكعب يعلوه تمثال هرمس – أخنوخ أب القوانين الروحية وتحته كتابة على الحجر يقراءها التلميذ قبل دخوله وهي:" لا دخول للجاهل والمدنس".
وبعد دخول التلميذ إليها، يشم رائحة جميلة فواحة في الهواء آتية من الحدائق الصغيرة المنتشرة بأشكال هندسية في كل الأرجاء فيها كما ويشاهد حديقة محيطة بالرواق ذو الأعمدة، وأخرى على مقربة من معبد الحوريات، وغيرها على مقربة من الملعب الرياضي، وهكذا دواليك.
وبينما هو ماضٍ في طريقه بين الأعشاب الخضراء والأزهار المتنوعة الألوان العاكسة إيقاعاً تناغمياً رائعاً بين العناصر الحية في الطبيعة، يشعر بالإنتماء إلى هذا المكان البديع.
في المدينة، كان التلاميذ الأوائل لبيثاغور يحيون فيها حيث كانت غالبيتهم من الشبيبة والنساء والرجال الذين بهرتهم
تعاليمه فتبعوه من البداية.
وكان هناك صف طويل من النسوة عليهنّ أردية مختلفة كنّ نازلات صوب البحر للقيام بالطقوس في معبد الإلاهة الكبيرة سيريس – عشتروت الممثلة للأسرار العميقة للمرأة وأمنا الطبيعة.
ومن جهة أخرى، برز هناك صف من الرجال طويل وهم بحللهم البيضاء داخلين إلى معبد أبولو إله الشمس للقيام بالطقوس التي ستربطهم بالسماوات.
أما التلميذ الجديد الذي سحرته المدينة، سمح له في البداية بالدخول إلى الملعب الرياضي المختلف بشكل كبير جداً عن سائر الملاعب الأخرى في المدن المختلفة. ففي الملعب الرياضي البيثاغوري لم يكن مسموحاً القيام بالمحادثات التافهة العديمة الجدوى، ولا بالألعاب العنيفة إنفاذاً لقوانين المعلم. وعليه، كان التلميذ يجد مجموعة من الشبيبة يقومون بألعاب هادئة، كالجري، ورمي القرص والسهام، في حين أن البعض الآخر منهم يعبر الرواق ذو الأعمدة. و البعض من الشباب يتظاهرون بقيامهم بمصارعة بعضهم، غير أن الأمر في الحقيقة لم يكن إلا نوعاً من الرقصات الشبيهة بتلك التي كانت لحضارة دوريان Dorian. هذا لأن بيثاغور حذرهم من القيام بالمصارعات القاسية والعنيفة المثيرة للكراهية والمدمرة الصداقة.
وبعد هذا كله، طلب إلى التلميذ أن يأتي للمشاركة بما يدور من أحاديث وحوارات إذ أن الإمكانية أمامه متاحة ليعبر عن ما له من أفكار بكل حرية وهو مغمورٌ بالفرح المالئ كيانه لإحترامهم العميق له ولما له من آراء، حيث كان وبكل ثقة يظهر لهم حقيقته الداخلية.
وبعد ذلك كله، يصار إلى إخضاع التلميذ لسلسلة من التجارب والإمتحانات تحت إشراف المعلمين. وفي أحيان كثيرة كان بيثاغور يحضر لمراقبة ودراسة تصرفات وملامح التلميذ الجديد، إذ أنه سبق له أن درس منذ زمن بعيد علم الفراسة الذي بات به خبيراً ومتضلعاً بخفاياه.
في الحقيقة إن حبيب الحكمة هو مراقبٌ حذرٌ، فكان يقوم قبل قبوله بإنضمام أي تلميذ جديد إليه بالتمحيص الدقيق قبل إتخاذه القرار المناسب بشأنه.
- وكان دوماً يقول:" ليت كل أنواع الأخشاب تكون صالحة ومناسبة، لينحت عليها هرمس".
ومرّ من الوقت على ذاك التلميذ ما يقارب السنة. وكان التلاميذ يتحدثون مع معلميهم عن ما للحياة من مسائل في الوقت عينه الذي فيه كانوا يخضعون التلميذ الجديد الراغب بالإنضمام إليهم للإمتحانات الضرورية التي على ضوء نتائجها سيتحدد ما إذا كان سيقبل به أم لا في المسارة.
* * *

إن إختباراتهم هي شبيهة بالإختبارات المصرية، لكنها كانت تتم بطريقة أكثر سهولة. فبدل الدخول في السراديب المشابهة للتي في ممفيس، كان يطلب من التلميذ الدخول إلى كهف على مقربة من المدينة ليمضي الليل فيه بمفرده. وقبل دخوله، سبق للمعلمين أن رددوأ على مسمعه بأن الوحوش تعيش على مقربة من الكهف، وبأن أطياف الأشباح والأرواح موجودة بداخله. وأمام هذا، لم يكن على التلميذ إلا أن يواجه الظلمة ووحدته فيها التي كانت تجعل من عقله خادعاً له ليصبح بذلك غير قادرٍ على التمييز بين حقائق العالم الظاهري، وأوهام صوّره المشوشة.
وبالطبع، هنالك البعض من التلاميذ رفضوا المرور بتلك التجربة ذلك أن البعض منهم هربوا منها عند إنتصاف الليل، ولذلك كان يحكم عليهم بأنهم غير مؤهلين وضعفاء كثيراً لمتابعتهم المسارة. أما الذين نجحوا بتخطيها قلائل، بعدها تختبر أحوالهم النفسية وروحهم المعنوية. وبدون أي علم من التلميذ الجديد المبتدئ، كان أحد المعلمين يدخله إلى غرفة سرية هي أشبه بالصومعة من أجل أن يفك إحدى الرموز البيثاغورية.
- " ما هو معنى هذا المربع الرمز"؟
التلميذ لوحده في الغرفة المظلمة منذ ما لا يقل عن الساعات العشر وهو يحاول إيجاد المعنى الرمزي للمربع. ولم يكن معه في الغرفة من طعام سوى كسرة من الخبز وشيئاً قليلاً من الماء الموضوع في جرة صغيرة من الفخار. وبعد مضي الساعات راح التلميذ يستنتج بأن المربع ربما هو رمز للعالم المادي. وعندها، يأتي المعلم الذي سبق أن أحضره لتلك الغرفة ليفتح بابها آخذاً إياه إلى القاعة حيث التلاميذ مجتمعون، ليجد نفسه محاطاً بهم وبالمعلمين.
- وسأله أحد التلاميذ بسخرية:" ها هو الفيلسوف الجديد، هات أخبرنا عن ما كشفته لك تأملاتك. يبدوا وكأنك قد وجدت الجواب، فهل فعلاً توصلت"؟
فضحك التلاميذ الآخرون، ومن ثم تبسموا منتظرين في الوقت الذي كان فيه المعلمون يراقبون فقط.
وأراد التلميذ الكلام لكنه لم يستطع.
ماذا لو كان مخطئاً؟ عندها، فسيخر منه الآخرون في وقت كان فيه الشعور بالإذلال طاغياً على مشاعره وهو شبه غاضب، باذلاً ما في وسعه للسيطرة على ما قد حل به من إحباط وخيبة.
- وقال تلميذ آخر بصوت مرتفع:" تكلم، هيا. هل نهشت القطة لسانك"؟
وظل المعلمين صامتين وهم يراقبونه مدونين حالته الجسدية والنفسية.
وفي العديد من المرات، كان التلاميذ المبتدئين في مثل هكذا حالات ومواقف حرجة يصرخون بغضب، والبعض منهم يردون بسخرية، في حين أن آخرين يشتمون المدرسة ومعلمها والتلاميذ. فالشتائم والإهانات حسب قوانين المجتمع البيثاغوري هي الشر الثاني الذي يقوم به الإنسان ضد ذاته والآخرين على السواء.
وفي تلك اللحظات الحرجة التي فيها الجميع منتظرين جواب التلميذ، إنتابهم الشعور بأن بيثاغور مالئ بحضوره القاعة. فالمعلمين شاهدوه، أما التلاميذ فأحسوا بحضوره، ذلك أن طيفه بالإمكان مشاهدته من وراء الستارة.
- وتكلم بيثاغور بصوت هادئ:" أقول لكم، إن هؤلاء الذين ليس بمقدورهم التجاوب مع ما لدينا من إختبارات متعددة للشخصية، أؤلئك الذي تحكمهم الأنا الذاتية ليس مرحباً بهم هنا أبداً وذلك لفقدانهم الأسس اللازمة للصداقة وإحترام المعلمين".
أما التلامذة الذين وقعوا في تلك المخالفات للقوانين طردوا إلى خارج المدينة.
أما التلميذ الذي سبق له أن تأمل في المعنى الرمزي للمربع، فقد نجح في تحمله لسخرية رفاقه منه متمكناً من كظم إنفاعلاته والسيطرة عليها.
- وأخيراً تكلم بثقة:" أعتقد بأن المربع يرمز للعالم المادي".
وساد السكون المكان.
وراح قلبه يخفق بسرعة منتظراً رأيهم بالذي قاله.
- وتكلم بيثاغور:" أسمع يا أيها الأخ، أنت الآن في منتصف الطريق الصحيح".
- فأجابه التلميذ متحمساً ومرتاحاً:" سأتابع بحثي لإيجاد الحل الكامل للرمز، ولسائر الرموز الأخرى أيضاً مهما كانت الصعوبات أمامي كبيرة، وسأبذل كل ما بوسعي للوصول إلى ومضات الحقيقة".
- فرد عليه بيثاغور:" أنت لديك قلب أسد، وإرادة نسر. لقد تم قبولك في الدائرة".
وبعد ذلك، تقدم منه كل التلاميذ والمعلمين بالتهاني مرحبين به كعضوٍ جديد في مجتمعهم النخبوي. ومن ثم أعطوه النجمة الخماسية ليعلقها على صدره.
* * *

تحت أشعة شمس البحر المتوسط وعبر سهول إيطاليا الرائعة. كان بيثاغور يسير خارج المدينة البيضاء ليستمتع بالطبيعة الخلابة باحثاً عن السلام في ذهنه. وفي البعض من الأحيان قام بزيارة المدن المجاورة لمخاطبة أهلها.
وفي ذلك اليوم عينه، وتحت السماء الصافية الزرقاء الصافية ظهر المعلم في كروتونا وميتابونتيوم Metapontium في وقت واحد، معلماً ومخاطباً الناس في كيلا المكانين مما تسبب بصدمة كبيرة لأهل تلك المدينتين. وكان للبعض من الناس أن شاهدوه بأم العين وهو يسير على المياه الفاصلة بين المدنتين، مع العلم بأن تلك المعجزة كانت واحدة من الظواهر المثبتة ألوهية " الرجل الأبيض ". فمنهم من آمن أنه بمقدوره التواجد في مكانين في الوقت عينه، أي وبكل بساطة فإن قدرته مكنته من فعل ذلك بشكل شبه مطلق. هذا فضلاً عن أنه بالحقيقة نبياً، وهو الذي أنبأ عن حدوث هزات أرضية وزلازل وموت البعض من أصدقائه الذين دفنوا تحت الأرض كبذار بذرت في قلب أمنا الأرض.

تحت في السرداب داخل معبد الحوريات التي هي آلهة التناغم. كان بيثاغور والسيباستيكوي Sebastikoi الذين هم الأعضاء الأساسيين في دائرته الداخلية يقومون بتفحص خصائص الأرقام.
وكان اؤلئك السيباستيكوي الذين أخذوا المسارة في المعرفة الخفية للحكمة من معلمهم بيثاغور يخصصون وقتهم لل " الثيوريا Theoria " منغمسين بالتاملات الصافية للحقيقة الإلهية. هذا لأن أساس فلسفة المعلم هو فيما للرضيات من نظريات وتطبيقات في سلوك الحياة، هذا فضلاً عن كونهم بأنهم كانوا المسؤولين الدينين عن الأخوية.
- وقال بيثاغور:" إسمعوا، إن جسد الميت لا يجوز إحراقه، بل على العكس، يجب تكفينه بالأبيض ليعود لطبيعته الأولى. فيا أيها الإخوة، إعلموا بأن النار يجب إشعالها من حول جثة الميت لتطرد الأرواح الشريرة، وهذا طقس سري لأن النار لها قوة الواحد".
- وتابع بيثاغور شارحاً المعاني الرمزية للرقمين التاليين:" إن الرقم هو المقياس لكل شيء، وإن كل رقم من الأرقام لديه خصوصيته، أذكراً كان أم أنثى، وكاملاً أو غير كامل. فالرقم [ 1 ] هو الموناد Monad، أي العقل الكوني المنتشر في كل شيء.
أما الرقم [ 10 ] فهو الرقم الأفضل لأنه جامعٌ أل [ 1 + 2 + 3 + 4 = 10 ]، إنه الكل في الحقيقة المطلقة. فالخلق بإرادة " الواحد " هو منفرد في جمعه للكل حيث كل الأشياء على ترابط ببعضها البعض.
أما " العشرة " أي الكل، فهي تجسيد لتلك الحقيقة المترابطة. ذلك أن التناغم هو المحرك الرابط حيث كل ذرة في الوجود هي متصلة بالأخرى.
وإن الكوزموس Kosmos أي الكون هو أشبه بآلة موسيقية لا تحد متناغمة مع ذاتها.
إن أرقام الكون المترددة تنتج نغمات موسيقية حساسة متماوجة في كل الأمكنة محدثة الصدى. وإن كل من الآلهة والبشر، والسماء والأرض، والكون الكبير والصغير، هم على تواصل مع بعضهم البعض عاكسين بذلك التناسب التناغمي المشابه الذي بالإمكان التحقق منه عن طريق الرياضيات من خلال الأرقام الإلهية التي هي الحقيقة الأولى.
الآن، ولأجل إستحضار قوة الكون ليس ثمة طقوس أو صلوات لتحقيق تلك الغاية، بل عليكم أن تضعوا أنفسكم بتناغم معها. فإذا أستخدمتم تناسب الأرقام المشابه للسماوات عندها فقط ستتردد طاقاتكم على نفس المستوى الذي للأرقام السماوية. وعند ذاك يصبح بإمكان أرواحكم أن تنادي الروح الإلهية التي تحل عليكم كحمامة بيضاء آتية من السماء.
وأقول لكم حقاً، أنه وبهذه الطريقة أتمكن من الإستماع لموسيقى الدوائر، وأحيا حياتي متناغماً مع الكون. إذ أن الموسيقى الكونية للحوريات يجب علينا أن نقلدها أولاً في مدينتنا، ومن ثم في المدن الأخرى بغية أن نخلق بذلك وحدة القلوب والعقول، أي هومونويا Homonoia.
وأخيراً، أقول لكم، كونوا كمعلمكم.
تقربوا من الآلهة.
ودعونا نبني سوية المملكة الكونية هنا على الأرض".
وهكذا، انهى الفيلسوف كلامه مع دائرته الداخلية.
وبذلك، فقد أعطاعهم بيثاغور مفاتيح المملكة السماوية مطلعاً إياهم على نظامها العملي وعلى كيفية تحقيقها وعيشها على الأرض.
وإرتبطت السماوات بالأرض لإعلان الوحدة الكونية.
وبهذا كله، فقد حقق بيثاغور الصلة فاتحاً بذلك الباب وراسماً الطريق الجامعة " لما في السماوات مع الذي على الأرض " محققاً بذلك فلسفته.
إن إتحاد القلوب والعقول كان في الغالب صعب المنال، فبناء المملكة البيثاغورية على الأرض بواسطة الرياضيات والأرقام لم يتعدى كونه سوى عملية توالد للملكة الكونية التي يحكمها أبدياً إيل – أبولو.
إن إرادة وإيمان بيثاغور لم يضعفا أبداً، ذلك أنه بما له من وحي وإنقياد للحكمة الإلهية تمكن من إنشاء مدينته كمدينة بيضاء إلهية.
* * *

إن ذاك التلميذ الذي قُبِلَ به في المجتمع البيثاغوري بعد أن جرت مراقبته من سنتين إلى ثلاث بات الآن جاهزاً للدخول في فترة التحضير للمسارة التي تستغرق مدة تتراوح من ثلاث إلى خمس سنوات.
أما المدة التي يستغرقها الإعداد للدرجة الأولى وهي درجة التحضير تختلف بين تلميذ وآخر حسب مستوى الذكاء وتطوّر العقل. فالتلاميذ المبتدئين لم يكن مسموحاً لهم مشاهدة المعلم وهو يلقي بخطبه، إذ كان يجلس خلف ستار في كهفه أثناءها، أما هم فكانوا يستمعون إليه وهم المعروفين بإسم الأكوزماتيكوي Akousmatikoi " أي السامعين " التابعين للدائرة الخارجية . وبما أن المعلم هو إبن الحكمة بأساسه الكامن في داخله الذي لم يكن بإستطاعة أحد أن يستوعبه بوضوح كما هو عن طريق التعاليم الإيكزوتيريكية لإحتجابه عن أتباعه السامعين. فمعظم تعاليمه الظاهرية كانت رمزية وحاملة بشكل دائم المعاني المزدوجة الباطنية منها والظاهرية، وحدهم المسارون كانوا مدركين لما لها من معان باطنية بخلاف السامعين. وعليه، فعندما كان بيثاغور يذكر بكلامه " غناء الحوريات " إنما كان يقصد بذلك " تناغم الدوائر "، وعند ذكره " لجزر المباركين " كان قصده منها " الشمس والقمر "، أما ذكره " لكلاب بارسيفون
Parsephone " يعني قصده " الكواكب "، ولدى ذكره " لقيثارة الحوريات " يعني إحدى مجموعات الكواكب!
وظل التلاميذ صامتين أثناء خطبته إذ لم يكن لهم الحق في أن يتناقشوا أو يتجادلوا فيما بينهم عن ما يتفوّه المعلم به من تعاليم، فهم تلقنوا المعرفة من دون أية شروح لها أو براهين، ومن دون إستخدام المنطق الذي هو الأقوى بالنسبة للإنسان.
وراحوا وبكل إحترام يتأملون في تلك التعاليم كلٌ على حدة في مجموعات ضمت في كل واحدة منها تلميذان.
وفي البعض من الأحيان، ولدى حصول جدال فيما بين التلاميذ البيثاغوريين من الدائرة الخارجية حول إحدى النظريات كما الداخلية، كان جدالهم ينتهي فوراً بقول أي واحد منهم:" أوتوس – إيفا – إيبسي – ديكسيت، أي ما معناه:" هذا ما قاله المعلم"، وكانت هذه العبارات تجسد محاولاتهم في المحافظة على أقواله منهية جدالاتهم.
إن خطب بيثاغور حملت في طياتها التعاليم الإبتدائية عن الحياة اليومية العادية، إذ إرتأى أنه لا يجب تعليم التلاميذ المبتدئين في ذلك الوقت أسرار الحياة وما هو خفي خلف ظواهرها المادية مكتفياً بتحديده لهم علاقتهم بالقوانين الكونية مستنهضاً فيهم الإلهام والبصيرة التي هي فيهم القوة الأساسية. وعند ذاك تجد ومضات النور طريقها لعقولهم لتنكشف لهم في المستقبل.
وفي الصباح الباكر، ومع أشعة الشمس الأولى الطالعة من الشرق، والتي تسرب نورها من خلال الفتحة الصغيرة ما بين صخور الكهف مشعة على بيثاغور المنتظر والمتأمل. كان البعض من تلاميذه يتمشون على طرقات المدينة في الوقت الذي كان فيه الآخرين منهم يقومون برقصة الدوريان المقدسة وهم ينشدون التراتيل لأبولو – الواحد.
إن كل فجر على المدينة البيثاغورية بالنسبة للتلاميذ فيها مثّل لهم فجراً جديداً تواقون فيه للإستماع إلى معلمهم إبن إيل – أبوبلو.
ومع كل شروق شمس تتجدد الحياة في الكون المرئي بطريقة تعادل شروق أبولو الذي كوّن الأرقام في الكون المخفي.
وبعد طقس الإغتسال تابع التلاميذ طريقهم إلى المعبد ليتأملوا بصمت قبل سماعهم لخطابات معلمهم، وعلى طول الطريق راح كل فرد منهم يمرّن ذاكرته محاولاً إستجماع الأحداث التي حصلت معه في النهار السابق مسترجعاً في ذهنه تسلسلها الدقيق، وذلك لأن الحفاظ على الذاكرة الجيدة هو بالأمر الحيوي لهم، ذلك أن المعرفة التي حازوا عليها على مر السنين والإختبارات التي قاموا بها إلى جانب الحكمة التي أكتسبوها والعلوم، هي كلها ككنز ثمين من الواجب عليهم المحافظة عليه وحمايته مدركين ذلك يقيناً بأنه ومن دون الذاكرة اليقظة فإن كل ما إكتسبوه سيذهب سدىٍ.
وبعد أن غادروا المعبد توجهوا إلى الحديقة المقدسة حيث تجمعوا حول كهف المعلم المساري الظاهرة ملامحه من خلف الستارة وهي تتبدل مغمورة بأشعة نور الشمس الحاملة الوحي الإلهي بالتعاليم المقدسة. وتوّجه منهم بالتحية، وعندما شرع بالكلام إنطلقت كلماته بسرعة النور، وكأنه إبن الشمس إيل – أبولو. وكان صدى صوته في الكهف مترافقاً مع ما يعزفه من موسيقى ساحرة على قيثارته في الوقت عينه منسابة إلى آذان " السامعين "، ذلك أن بيثاغور يعتقد بتأثير الموسيقى القوي والمريح على سامعيه أثناء تلاوته لتعاليمه على المستويات الجسدية والنفسية.
- و شرع بالكلام:" إن النساء والرجال هم متساوون في المجتمع، وعلى كل منهم أن يؤدي ما له من دور إجتماعي بطريقة فعالة وبديهية. وعلينا جميعاً أن نتصرف كعائلة واحدة، الواحد للكل والكل للواحد. وأقول لكم، ثمة هناك إختلافات بين الرجل والمرأة، إلا أن ذلك لا يجب أن يشكل مانعاً أمام المرأة لتكون فيلسوفة في عداد الذين هم في دائرتنا الداخلية التي سأسميها " دائرة الماتيماتيكوي Matthematikoi " مظهراً فيها نفسي لهم ومتواصلاً معهم بالحكمة، اؤلئك المسارون سيدخلون خلف الستارة ليصعدون بشكل لولبي بإتجاه الألوهة.
إسمعوا: إن الحكمة هي ليست فقط حكراً على الرجال، فالنسوة إلى جانب ما يقمنّ به من أعمال منزلية، وفي عملية الخلق في الحياة كأمهات بإستطاعتهنّ أيضاً طلب الحكمة والبحث عنها.
وأخيراً، دعوني أختم كلامي هذا بنصيحة أسديها لكل منكم، أحبوا أهلكم وكرموهم لأنهم هم أيضاً يحبونكم، فأحفظوا نصيحتي هذه ولا تهملوا أبداً تطبيقها في حياتكم. أنظروا إلى آباءكم وكأنكم إلى الله خالق الكون والخليقة ناظرين، إذ لا مثيل لما للأباء من كرم وقيمة. وتتطلعوا إلى أمهاتكم كما تتطلعون إلى الطبيعة الكريمة أم كل الكائنات على الأرض من الأزهار إلى الأشجار فالحيوانات فالبشر.
إن الأم وهي تقوم بتغذية طفلها بحنو وسعادة وعطف وإهتمام تشكل ظاهرة فريدة من نوعها.
وأعلموا، أن محبتكم لوطنكم هي أمر واجب عليكم إذ يجب أن تكون كالمحبة التي خصصتم بها أمهاتكم عندما كنتم صغاراً تحت كنف حمايتهن لكم.
أن أهلنا لم يكونوا أهلنا صدفة. فالجهلة هم الذين يؤمنون بالصدف، فلا شيء من حولنا مما هو كائن كان نتيجة لصدفة معينة. إن كل ما يحدث من حولنا إنما يحدث بمنطق المخطط الإلهي الذي هو نظام سامٍ للأرقام في إرادة ضرورية وحتمية".
لاحقاً، عند إنتصاف النهار كان التلامذة يصلون للآلهة وللأرواح الخيّرة. ثم يجلسون بصمت لتناول طعام الغداء من الخبز والعسل والزيتون. ومن بين اؤلئك التلاميذ، كان هناك البعض منهم ليسوا بنباتيين، فكانوا يأكلون اللحوم والأسماك بخلاف النباتيين الذين كان غذائهم مكوّناً من الخضار والحلوى مع الحليب وبعضاً من الفواكه.
أما فيما بعد ظهيرة كل يوم، كان التلامذة يمضون وقتهم بتمرين أجسادهم بالركض، ورمي الأقراص والسهام، والقيام بالمصارعات على شكل رقصات الدوريان، والقفز مع حمل البعض من الأوزان بالأيادي. أما قيامهم بتلك التمارين جاء عملاً بالقول المأثور:" العقل السليم في الجسم السليم". لذلك، فمن الأهمية بمكان عندهم القيام بالتمارين الجسدية كما العقلية على السواء.
وبعد ذلك، كان السامعون " يكرسون الوقت لدراسة الأشعار والتاريخ كلٌ على حدة، أو في مجموعات مكوّنة من تلميذين. ذلك أن الأشعار كانت مهمة جداً في تلك الأيام لما فيها من معان ٍ ميثولوجية محمّلة بالأشكال المجازية للاهوت والفلسفة.
وعند إتمامهم لدراساتهم في وقت بلوغ الشمس الأفاق، يشرعون بالتأملات الضرورية. فالبعض منهم لوحده يستذكر ما لقنه إياه المعلم من دراسات في ساعات الصباح الأولى لدى نشر الشمس أولى حبال أشعتها، أما الآخرون فيتجمعون في مجموعات صغيرة قاصدين الحديقة وهم يتحاورون فيما بينهم بالدراسات التي أخذوها.
وبعد ذلك، وعند إحتجاب الشمس إلى ما وراء الأفق خلف البحر، كان التلامذة يغتسلون ومن ثم يجتمعون للقيام بصلاة جماعية يحرقون خلالها البخور على المذبح وهم ينشدون التراتيل لإيل – أبولو الآب الواحد في الهواء الطلق، وأيضاً لساريس – عشتروت أم الطبيعة وكل المخلوقات، ولديانا حامية الأموات، وهم حاملين بآياديهم أغصان أشجار الأرز والغار والسنديان كرمز لتكريم تلك الآلهة.
وفي " المدينة البيضاء " كرّم البيثاغوريون الآلهة بوضعهم صورها على النحاس ذو الشكل الدائري إيماناً منهم بأنه جاذبٌ لما هو إلهي.
ولدى حلول الليل على تلك المدينة السماوية على الأرض، في الوقت الذي فيه النجوم تتلألأ في المملكة السماوية الشاسعة، كان التلاميذ يجلسون لتناول طعام العشاء، وإلى جانب طعامهم المألوف يشربون النبيذ ذلك أنهم لم يكونوا ليشربونه مطلقاً في النهارات. ومن ثم يشرع صغيرهم سناً بتلاوة البعض من الأشعار ليتولى بعده أكبرهم عمراً شرح معانيها والتعليق عليها. وقبل مغادرتهم مكان العشاء، يشربون نخب بيثاغور مرتلين ومكرمين الآلهة وأهلهم والأخوية، لينصرف بعد ذلك السامعون إلى بيوتهم ليبيتوا فيها بجنب عائلاتهم بعكس السيباستيكوي الذين يباتون لياليهم في المكان نفسه بحللهم البيضاء في أسِرّتهم، حيث كان كل فرد منهم يقوم بالتذكر تدريجياً لما قام به من تصرفات، وما قاله من كلامات طيلة نهاره متفحصاً ضميره بصمت.
وعندما شع أبولو من جديد في الصباح، كان إبنه حاضراً في الكهف منتظراً أن يتم مسحه وغسله بنوره قبل بدايته بإلقاء خطبة أخرى من خطبه.
- وقال:" إسمعوا هذا، سأقدم لكم الآن البعض من النصائح التي من الواجب عليكم أخذها بعين الإعتبار في حياتكم:
1- إختاروا أصدقائكم وتعاملوا معهم بحسب ما لديكم من أمور مشتركة منوعة فيما بينكم.
إن الصديق هو نفس أخرى يجب عليكم أن تكرموها كما تكرمون الآلهة، فالصداقة هي المساواة، ذلك أن كل شيء بين الأصدقاء هو مشترك، فلا تكرهوا بعضكم البعض لأشياء تافهة وأغلاط عابرة.
2- إنه لمن الأفضل لكم أن لا تأكلوا اللحوم والأسماك والفول، لأن هذه الأنواع من المأكولات تعيدكم إلى طبيعتكم الجسدية. وأشربوا القليل من النبيذ والبعض من الماء لأنهما مفيدان للجسم.
3- حاولوا أن تلبسوا اللباس البسيط والنظيف والنقي.
وكونوا كراماً وصريحين وصادقين ولا تزينون أجسادكم بالجواهر والحلي وخاصة لدى قيامكم بالطقوس الدينية.
فالطهارة هي علامة المساواة والعدالة في المنطق.
4- في الأيام المقدسة لا تحلقوا شعر رؤوسكم، ولا تتركوا خلفكم خدمة الآلهة من أجل زيادة أرباحكم.
5- ألقوا الكبرياء بعيداً عنكم لأنه من الأفضل أن يعيش المرء حياته متواضعاً.
ولا تكثروا من الضحك.
ولا تغضبوا.
6- لا تقوموا بإلحاق أي ضرر أو أذى بأي إنسان، هذا لأنه من الأفضل للإنسان أن يجرح ويتحمل جراحه من أن يقتل إنساناً آخر، ذلك أن دينونتنا هي مرتبطة بطريقة خفية بما نقوم به من أعمال في حياتنا.
7- إنه لمن الأهمية بمكان أن تكون لدينا العاطفة على كل ما للحياة من أشكال، فلا تقتلوا الحيوانات أللامئذية.
لا تقتلوا أبداً.
ولدى شعوركم بأنكم مهددون، دافعوا عن أنفسكم لأن الدفاع عن النفس هو أمرٌ مبرر.
ولا تقطعوا الأشجار لأنها رمز المساري.
8- في نهاية كل يوم إفحصوا ضميركم، وإسألوا أنفسكم عن ما فعلتموه من سؤ خلال نهاركم. وتأملوا فيما قد أهملتموه من واجبات كان عليكم إتمامها، وبما قد قمتم به من خير".
وبهذا خاطب المعلم السامعين الذين كانوا يستمعون إليه بحذر وإنتباه وكأنه إلهٌ خفيٌ يراقبهم وسيحاكمهم على أفعالهم.
أما بيثاغور، فلم يكن يعتبر نفسه محاكماً لهم على الإطلاق، بل معلماً إياهم وعليهم إحترامه والإقتداء به معتبراً نفسه صديقاً محباً لكل فرد منهم، وهو الذي أطلعهم على الميزات الأساسية التي بواسطتها سيتمكنون من أن يحيوا حياة جيدة ملؤها الخير كونه أخاً كبيراً لهم بمقدوره تحريرهم بما لصداقته من قوة ساحرة ومؤثرة. وإن هذه الطريقة في التعامل وضعت في عقولهم الفضائل الأخلاقية والشخصية التي مكنتّهم من السلوك في درب ذاك المعلم الفيلسوف المثالي مصوّبين بذلك تصرفاتهم في الحياة.
أما بيثاغور العائش لكل تلك الفضائل، إستطاع بخطاباته أن يجعل من إتباعه في غاية الإعجاب به والإحترام المطلق له، وهم العائشين بموجب ما قدمه لهم من قوانين، ظاهراً دوماً أمامهم في المدينة بثيابه البيضاء وكأنه واحد من الآلهة.
ولا بد من الإشارة، إلى أن بيثاغور في حياته كان نباتياً، وهو لم يتناول من طعام سوى الخبز والعسل والخضار، هذا فضلاً عن عدم شربه للنبيذ مطلقاً في النهارات.
أحب تلاميذه وتلميذاته حباً أخوياً وصافياً وسامياً.
ولم يكن لينساق خلف أهوائه الجسدية، ولا ليضحك بطريقة ليست بلائقة. وهو لم يتصرف مطلقاً مع الآخرين بسخرية. كما وأنه ما قاصص يوماً آياً من تلاميذه أو حاكمه.
* * *

في ذاك النهار كانت تقف خارجاً بعد أن أنهى بيثاغور خطبته وغادر " السامعون " المقر منصرفين كلٌ إلى متابعة ما عليه من واجبات. وفي العادة كان البعض من السامعين الذين لديهم مشكلات معينة يدخلون الكهف للإعتراف أمام إبن النور، إذ كان دوماً سامحاً لمن يرغب القيام بالإعتراف أن بأتي إليه لأجل ذلك بعد إنتهاءه من ألقاء خطبه.

- دخلت الكهف وجلست في الناحية الأخرى للستارة معترفة له:" أريد يا أيها المعلم إطلاعك على سر".
- فرد عليها وكأنه مدركٌ من صوتها من هي:" قولي ما لديك يا إبنتي".
- قالت:" هناك رجل أشعر حياله بإنجذاب إذ أني أعتقد بأنني واقعة في غرامه، وهو ليس بمدرك لذلك. فأنا، وعندما انظر إليه في كل مرة، سرعان ما ينتابني الشعور بأني محاطة بحب عظيم. وعند سماعي لكلماته تدخل تلك الكلمات إلى عمق أعماق كياني كأشعة الشمس الأولى التي تغمر الأرض بالدفء. وللحال، أروح أرتجف من الداخل بالرغم من أنني وفي الكثير من الأحيان لا أفهم ما يقوله، غير أنني ورغماً من ذلك فأنا شديدة الإعجاب به وبأقواله، إذ لديه القوة والرؤيا التي يبقى محتفظاً بها لنفسه.
فماذا علي فعله يا أيها المعلم"؟
وخيم الصمت لهنيهات.
- بيثاغور:" لماذا لا تخبرينه عن ما تشعرين به حياله، تحلي بالشجاعة".
- " ليست لدي الشجاعة الكافية لذلك، فأنا قلقة من أن يقابل ما لي من مشاعر تجاهه بالرفض".
- بيثاغور:" ولماذا سيرفض؟ قولي يا ثيانو Theano من هو".
وساد السكون من جديد لبرهة من الوقت.
- وأجابته قاطعة السكون:" إنه أنت يا أيها المعلم".
وسقط القناع.
وخيّم الصمت على الكهف.
إن بيثاغور، هذا المساري الكبير الذي عاش حياة روحية جاهداً في جمعه القوة الباطنية للطبيعة، " رافضاً فكرة الحب الغرامي للمرأة مؤثراً عليها الحب العذري لها "، وهو المكرّس طاقاته كلها لمدينته وأتباعه الذين يحبهم جميعاً بالتساوي. لم تكن تلك الواقعة بالنسبة إليه تجربةً، بل كانت إعترافاً صادقاً بحب نقي وطاهر.
وعبرت رائحة عطرها الستارة واصلة إلى أنفه، فأحس بالدهشة.
- وسأل نفسه:" ماذا يحدث"؟
وهو المدرك كيفية السيطرة على مشاعره، وعلى ما للإغراء من أوهام بنظره.
إن الذي حدث معه مع تلك الفتاة هو شيءٌ آخر مختلف. إنه حقيقي، ذلك أن نورها الروحي الوهاج وعقلها المستنير أدخلاها إلى كيانه.
ومن دون أي تردد منه، رفع بيثاغور الستارة ونظر إليها. فهو محق، إنها ثيانو إحدى أهم تلميذاته المفضلات لديه، وهي إبنة برونتينوس من كروتونا الأورفي السابق، والذي بات فيما بعد بيثاغورياً. ولم يكن المعلم فيما مضى من الوقت مدركاً لحقيقة ما تكنه له من مشاعر ذلك أنها نجحت في إخفاءها طوال تلك المدة الطويلة من الزمن.
وللحال نهض بيثاغور، وبكل محبة أخذ بيديّ ثيانو منهضاً إياها، فتلاقت عيناهما في تلك اللحظات وبان لهما مستقبلهما مدركين بأنهما سيكونان متحدان، إنه قدرهما.
فهل هذا معقول؟
فبعد كل هذه السنوات الطويلة من المسارة المحكومة بقانونها الصارم، بدأ بيثاغور ينتابه الإرتباك. والأمور عنده باتت مختلطة ومتداخلة ببعضها البعض. . .
- هل هي العاطفة؟
- هل هو الحب؟
- ما هذا يا ترى؟
- وما هي تلك الرغبات الجسدية التي جعلتني ضعيفاً إلى هذا الحد، وغير قادرٍ على التحكم بها؟
- هل هناك من فرق؟
راح بيثاغور طوال تلك الليلة يسأل نفسه.

ــــــــــــ

يتبع مع شكري لكم لحسن متابعتكم وقرأتكم لهذه الرواية ....

أحبك يا بيتاغور أنت والقديس توما الأكويني والعالم الفيلسوف الألماني ماستر جوهانز ايكهارت ...

[CENTER][صورة: sweetangel2.gif][/CENTER]
07-31-2005, 03:51 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
أميرة المحبة غير متصل
عضو فعّال
***

المشاركات: 86
الانضمام: Jul 2005
مشاركة: #19
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
[CENTER]انا اقرا هذه الرواية منذ فتره

وانا منسجمة معها اخر انسجام

اشكرك جورجيوس على نقلها لنا


[صورة: boyangel.gif]


***
07-31-2005, 09:50 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #20
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
أميرتي والزملاء ... أعتذر منكم سأتأخر عن نقل الفصل السابع لأسباب طارئة ..!!

ربما يومين على الأقل ...

(f)
08-01-2005, 08:53 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  برنامج حمية السبيل-لوريل ميلين. السلوك السوي - كتاب يلبي رغبة الساعين إلى حياة أفضل ali alik 0 969 01-25-2012, 06:27 AM
آخر رد: ali alik
  رواية عالم صوفي/ عرض للدكتور محمد الرميحي بسام الخوري 1 2,580 06-15-2011, 08:50 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رواية اسمها سورية - 40 كاتب ومؤلف في 1585 صفحة ، ملف واحد بحجم 25 ميجا مع الفهرسة ali alik 10 4,839 04-09-2011, 11:21 PM
آخر رد: kafafes
  رواية فنسنت فان جوخ - رائعة ايرفنج ستون في 772 صفحة .. لأول مرة ali alik 2 4,209 12-25-2010, 02:04 PM
آخر رد: kafafes
  مغامرة الكائن الحي _ جويل دو روزناي - و رواية يوم في حياة ايفان - الكسندر سولجينيتسين ali alik 1 1,876 10-26-2010, 04:48 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS