أوف يا فضل وإذا الجروح فُتحت.
أعرف، نعم أننا بحاجة لنتحدث، لكن القلم ينكسر بيدي حين أحاول .. أشعر بأني أخون ذكراها بما هو أقل من قدرها ومعاناتها التي دامت عشرين سنة وهي التي ماتت بعمر الورود.
بعمرها في أوروبا يبدؤون مشاريع الحياة، لا ينهونها.
أوف يا أحبتي، أعرف يجب أن نتكلم ولكن القلب لا يطيع كثيراً.
كيف يمكن أن يتوقف من مثلي لحظة عن الإحساس بالذنب بأن غربتي كانت مسرعاً لمرضها.
أمي عانت بكل حياتها قضت العشرين سنة الأخيرة من حياتها تحت رحمة الأوكسجين الذي ينقصها وتحت رحمة مرض عضال نادر يسموه "ساركوئيد".
كيف يمكن أن أسامح نفسي وأسامح بلدي وأسامح فرنسا بعدي عنها 12 سنة دون أن أراها فيها ولو مرة واحدة.
كيف يمكن أن أسمع صوتها الذي سجلته دون أن تهتز الأكوان وترجف. وأكفر بالله وبالأكوان والأوطان وبالإنسان.
كيف يمكن لطفل لم يكبر أمام ذكرى أمه أن يقبل بموتها وهي لم تتجاوز السابعة والخمسين من العمر حين توفت.
أخبروني كيف يمكن تحمل كل هذا وإبقاء ظل بسمة على شفاهٍ كئيبة.
أخبروني كيف يمكن بعد كل هذا الإيمان بأي شيء .. إلا الموت وجبروته.
أمي كانت الأنقى والأجمل، كانت عنواناً ورمزاً للتضحية، حين كانت تحدثني فلأنها متألمة .. كانت تقول لي "قلت لأخوك خليه يتصل فيك لأني مش قادرة أتحمل".
حين جائني الخبر الذي لم أنتظره كالصاعقة، بينما كنت أحضر إجراءات سفرها لفرنسا، حين جاءني خبر وفاتها بجملة حزينة بيوم أحد لا أعرف لماذا راودتني فيه الأحلام السوداء ورأيت ضروة الاتصال .. ثم حين اتصلت وأجابني أخي كان أول سؤال له : كيفها ماما.
تردد بالإجابة وصوته متلعثم : ماما؟
وأعدت السؤال بصوت إنسان يعرف بلاوعيه ما سيأتيه كجواب : كيفها ، كيفها؟
فأجاب أخي : ماما عطتك عمرها اليوم.
أحسست عندها بانهيار شامل، بكل نواحي جسمي وجسدي وروحي .. جرت الدموع لوحدها، والصرخة دوت بكل أنحاء البيت والشارع والشوارع المجاورة لدقائق وكأني فجعت بالكون كله.
لم أعد قادراً حتى على التنفس. وقررت حتى العودة لسوريا.
أعانتني بتلك الفترة اتصالات الأصدقاء والأقرباء.
بقيت وقتها أكثر من يومين بلا نوم وبلا طعام. وبتوتر شديد، رغم المهدئات.
العزيز إلياس اتصل بي باليوم الثالث ليساندني وليحضني على الكتابة للتفريغ عن ألمي .. مسكت القلم ووضعت كلمات ثلاث على رأس ورقة لم أستطع بعد ثلاث ثواني رؤيتها بسبب الدموع : يأس، ألم، موت.
قلت لنفسي : ما أصعب أن تكتب وأنت مذبوح.
سجلت صوت أمي بمكالمة لم تتم. تقول بآخرها : مع السلامة طارق، وكان ذلك قبل شهر من وفاتها رحمها الله.
رأيت أمي بعدها بنوع من الهلوسة، رأيتها معي تكلمني في لحظات حزني وألمي.. كنت خجلاً حتى من ألمي وحزني لأني كنت أرى أن كل حزني هباء أمام ألمها هي وأمام تضحياتها من أجلنا نحن أبنائها طوال حياتها.
كانت أمي فتاة ذكية من أسرة متواضعة، أتمت دراستها بتفوق وبدأت الدراسة الجامعية بالأدب العربي، وعملت بعد النكسة كمدرسة وساندت أبي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الساحة السورية - التي كان أبي مسؤولها السياسي) وجمعت تبرعات من أجل القضية بالأردن وصاحبته بالأردن ثم بلبنان.
أصيبت بالمرض بالرئة بحيث لم يبقَ من رئتيها إلا ربع رئة بآخر حياتها رغم أنها لم تدخن سيجارة بحياتها، ولكنه بسبب حساسية خاصة لجسدها ولمرض يصيب القليل من الناس.
ماتت والدتي بعد 20 سنة من المعاناة والحياة بأنبوب خاص يغذي رئتيها بالأوكسجين وبدون أن ترى ابنها الأول والأكبر ولو مرة واحدة خلال 12 سنة. منيت نفسي ومنت نفسها بها، وقامت فرنسا برفض زيارة طلبتها هنا، وكان أحد أسباب الرفض عدم حصولي على جواز سفري السوري منذ 10 سنوات.
توفت والدتي وهي في بداية السنة السابعة والخمسين من عمرها.
وبوفاتها جزء مني كاملاً قضى نحبه، نصف عمري ودع الحياة .. لا شيء بعد ذلك اليوم يمكن أن يكون كما مضى.
لا يمكن أن أسامح أماه من أبعدني عنك. ومن جعل لقانا مستحيلاً.
لكن :
"اللي خلف ما مات"
وأمي تحدثني وتقول لي أحياناً : "كن قوياً يا طارق ساند أبوك وأخوك وأختك".
فأمي إذاً شجرة، أنا وأخوتي فروعها.
وهنا أتذكر كلمات "محمد الماغوط" بمسرحية غربة على لسان دريد اللحام:
الراية السودة الحزينة
خيمت فوق المدينة
نار حزنك ما طفاها
بحر طوفان السفينة
ويا علمنا قوم لبي
رجعنا يا أم المحبة
ويا دموع العين صبي
ويا حبايب شاركيني
آخ آخ
يا دمع بلغها سلامي
آخ آخ
غاب ينبوع الشهامة
غرقنا بببحر الندامة
موجتو الدمعة الدفينة
آخ يا فضل، أحتاج لسنين ليلتئم الجرح، ولأتحدث عن كل شيء.
بعض الجراح عصية عن الالتئام يا صديقي.
عصية لحد الكآبة والثورة والغضب ولحد تضع به العالم كله بكفة وجرحك بكفة.
محبتي.
(f)
وأختمها بمحاولة كتبتها منذ سنوات ضمن "
هواجسٌ من بيوت الغرباء "
أمّاهُ ...
تقتلني الذكرى
شوقاً
أمّاه ..
أيا جبلاً يَهزِمُ
كل أعاصير الوجعِ
المعتصرِ بقلبي
أرتجفُ ..
أحنُّ ..
أئِنُّ
و بهذا الليل سهرتُ
و معي يسهر حبي
و يواسيني الدمعُ
و الربُّ يجِنُّ
ما عادت تجدي معي
كلُّ أغاني الشوقْ
ما عاد يخفف عني
وطأة سيف البعدِ
سوى دمعي
فأينَ ستحملني
أينَ ...
أيا غضبَ الريحِ الأصفرْ ؟