(2)
ما زلت أذكر ذلك اليوم من ربيع 1979، وما زلت أذكر تلك اليد الناعمة المرتجفة التي ناولتني الكتاب بحذر وتوجس.

لم تكن ريبة "آمال" ولا حذرها آتيين من كتاب "هؤلاء علموني" "لسلامة موسى"، بل كل خشيتها كانت من صورتها الصغيرة التي أهدتنيها بين صفحاته. صورة "باسبور" صغيرة تحمل وجنتين بيضاويتين وعينين عسليتين تحتهما أنف صغير على شفتين شهيتين. وتحمل بين هذا كله قلبي ووجداني وعصير حشاشتي وذوب شعري وعشفي الأول وحبي الكبير.

كانت "آمال" كعبة روحي وقبلة أحاسيسي وفتاة أحلامي – المراهقة وقتها -. أما صورتها الصغيرة ، التي أهدتنيها، فقد كانت عندي بقيمة "عمورية" عند "المعتصم" و"القدس" عند "صلاح الدين". ولكن، مع هذا، فكتاب "هؤلاء علموني" لم يستمد قيمته من صورة "آمال" فقط ، فلقد كان "في نفسه وحدها من عسكر مجر" - بعبارة "المتنبي" -.

لم أعد أذكر كثيراً من تفاصيل هذا الكتاب الجميل الآسر، ولكني ما زلت أحتفظ بذكرى "عالم آخر" فرشه "سلامة موسى" تحت قدمي، و"ثمار محرمة" جديدة شجعني على اقتطافها.

"هؤلاء علموني" ليس كتاباً في الفلسفة بقدر ما هو عرض شيق لكثير من "حكمة" الفلاسفة اللذين تفيأ المؤلف "أشجارهم المعرفية" كي يعود بنكهتها وحلاوتها وأشهى قطوفها الدانية. و"سلامة موسى" – شأنه شأن الكثير من عظماء جيله من "طه حسين" إلى "العقاد"- لا يثبت مصادره في ثنايا الكتاب، ولا يتابع موضوعه بدقة أكاديمةية جافة باردة يابسة، ولكنه يجبل مواد الكتاب بروحه وقلبه وعقله، ثم ييسره ويبسطه بكلمات رشيقة سهلة عذبة.

يستهل "سلامة موسى" مواضيعه ببعض الذكريات، التي يروي لنا فيها كيف ولج باب الثقافة بجد وحرص وإصرار وترصد من أوسع أبوابه، عندما دفعته الحياة إلى لندن في أوائل القرن المنصرم (1905 كما أذكر). ثم يشرع بتقسيم كتابه حسب العلامات الفارقة لكل فيلسوف ممن اختارهم.

لم أعد أذكر الكثير من كتاب "سلامة موسى" الذي سرقني من وقتي يومها، ولكن "هؤلاء علموني" يبقى عندي الباب والمفتاح الذي أتاح لي دخول معابد الفلسفة بحماس وشوق. أوليس هو الذي أسلمني بعد قراءته إلى "قصة الفلسفة" للإنكليزي العملاق الرائع "ويل ديورانت" صاحب "قصة الحضارة" ؟!!!

وللحديث بقية ....

لقد شجعني "هؤلاء علموني" على اقتحام "قصة الفلسفة" الذي كان الغبار يأكله على أحد رفوف "المكتبة العامة" في بلدتي آنذاك. ولعلي أعترف الآن بأن حظي كان كبيراً وقتها بعثوري على هذا الكتاب بالذات !!! إذ لو كنت قد ركبت هذا "البحر" على متن "قارب" آخر – "كتاريخ الفلسفة" "ليوسف كرم" أو "إميل برهييه" مثلاً -، فإنني ولا شك كنت سأتفف وأضجر بعد الصفحات الأولى، وقد ألقي "بسلة الصيد الوفير" إلى عمق البحر غير نادم ولا آسف ...

كتاب "ويل ديورانت" كان على مقاسي – وقتها -. فهو يتوجه للقاريء العادي غير المختص الذي لم يتمرس بعد في هذه المادة الكأداء. يعضده في ذلك خلوه من المصطلحات الفنية والبرودة العلمية والدقة الأكاديمية التي لا يقوى عليها المبتديء. "فويل ديورانت" هو في النهاية "موسوعي ومؤرخ" أكثر منه فيلسوفاً، لذلك فلقد حاول كتابة "قصة الفلسفة" كما كان يكتب "قصة حضارته"، بتبسيط وتيسير وإعراض عن التركيب والتعقيد. ولربما فاته بأن الفكرة المركبة المعقدة يلزمها لغة على مقاسها، أو حسب لبرهة بأنه يستطيع تطويع الأفكار المركبة بلغة بسيطة يسيرة، فأصاب أحياناً وأخطأ أخرى ... ولكن، محاولته، رغم خللها الفاضح أحياناً، تبقى جديرة بالتقدير والاحترام لنجاحها في "فتح شهية" القاريء العادي على طعم "أم العلوم" من ناحية، ولاستطاعته – رغم كل القصور الذي يشكو منه كتابه – أن يقدم نظرة عامة عن الفلسفة و الفلاسفة، فيها الكثير من الحقيقة ومباديء النظريات العقلية الرفيعة.

عرض "وديل ديورانت" للفلسفة الأوروبية من أصولها اليونانية حتى عصرها الحاضر. ولما كان عليه أن يكون انتقائياً في عروضه، فإنه أهمل الفلسفات القديمة الأخرى (سوريا القديمة، مصر، فارس، الهند والصين). ولكنه أهمل أيضاً فلاسفة أوروبيين قدموا إضافات نوعية إلى تاريخ "أم العلوم" بل وكان بعضهم من المحطات التاريخية التي لا يجوز القفز عنها دون الصلاة في محرابها ولو ركعة وبعض الركعة. هكذا نراه مثلاً يختصر تاريخ الفلسفة اليونانية "بأفلاطون" و"أرسطو" ومدرستهم "السقراطية"، غير عابيء بمدرستين كبيرتين مثل "السوفسطائية" و"الرواقية" – على سبيل المثال لا الحصر - . هكذا أيضاً تختفي من مصنفه كل "فلسفة العصور الوسطى" بمحطاتها الضخمة من "أوغسطين الكبير" حتى "مارتن لوثر" مروراً "بوليام الأوكامي" و"دان سكوت" وغيرهم من الأقطاب. ولكن ما لا يغفر في هذا التجاوز هو مرور "ويل ديورانت" "بتوما الأكويني" و"رينيه ديكارت" مرور الكرام. حقاً، هو يفرد فصلاً طويلاً "لباروخ شبينوزا" الذي قد يكون "ديكارتياً" أكثر من "ديكارت" نفسه، ولكن غياب "أبو الفلسفة الحديثة" و"عمود فلاسفة القرون الوسطى" عن مصنف "ويل ديورانت" يشكل إغفالاً غير مقبول ولا مستساغ لمن يريد أن يلقي نظرة عامة على الفلسفة وتاريخها. فهذين الفيلسوفين صبغوا – وما زالوا – مدارس فلسفية كاملة بصبغتهما.

بل وعندما يروح "ويل ديورانت" يقدم لفلاسفة صغار مثل "كروتشي ووليام جيمس" ويغفل عمالقة من أمثال "هيجل وماركس" فإن علينا أن نلومه بعض الشيء على هذا القصور. (حقاً، قد يكون هناك من يزعم بأن فلسفة "ماركس" ليست "فلسفة"، ولكن هذا قول سخيف عندنا قد نعرض يوماً لتفنيده).

ولكن، مع هذا القصور في كتاب "ويل ديورانت"، تبقى "قصة الفلسفة" من أجمل ما كتب في تاريخ "أم العلوم" وأكثره تشويقاً وإمتاعاً ومؤانسة. ولقد قيل بأن إقبال الناس على الفلسفة قد زاد بعد كتاب "ويل ديورانت" هذا. أما بالنسبة لي فلقد شكل "قصة الفلسفة" عتبة حقيقية للولوج إلى هذا العالم العقلي الخاص .....

وأخيراً، بعد كل هذا اللف والدوران حول الكتب والمصنفات والمؤلفات والمؤلفين .. تعالوا كي ندخل إلى هذا العالم ونتعرف سوية على بعض من محتوياته و"عفشه" وأثاثه ... ولعل الدخول يبدأ دائماً بالسؤال الأساسي: ما هي الفلسفة ؟؟

ولهذا حديث آخر يأتي في موعده  ....

واسلموا لي
العلماني

up

jamill

ما هي الفلسفة ؟

قد أذهب إلى القول بأنها "النظر إلى الموجودات بما هي موجودات" بعبارة "ابن رشد"، أو أنبه إلى أنها "فيلوسوفيا": الكلمة اليونانية المركبة من "فيلو" بمعنى "حب" و"سوفيا" بمعنى "الحكمة"، وهكذا تصبح الفلسفة "حب الحكمة" .... وقد أذكر في معرض هذا بأن الكلمة استخدمت في مناحي شتى، "فهوميروس" – الشاعر اليوناني صاحب الألياذة والأوديسة – يقصد بها الحذق العلمي في كيفية تشغيل الآلات وإدارة الأشغال، و"هيرودوتس" المؤرخ العظيم يستعملها بمعنى البراعة الناجمة عن الاختبار الطويل والإلمام بشتى مناحي المعارف ....

هذا كله صحيح، وقد أضيف عليه بأن أول من تلقب بها كان "فيثاغورس" الذي أسبغ على نفسه لقب "الفيلسوف"، ذاهباً إلى أن الفلسفة ليست إلا "البحث عن الحقيقة واستجلائها عن طريق تأمل الموجودات" .... أما "أفلاطون" فقد ذهب إلى أن الفلسفة هي "علم " يبحث في أسباب ومباديء الموجودات، ولقد أثار هذا التعريف "الأفلاطوني" الكثير من الغبار خلفه لعدم دقته في خلطه بين "العلم" الذي يتحدد عبر "كيف"، والفلسفة التي تجد نفسها عبر "لماذا" ....

أستطيع أن أقول هذا إذاً، وأزيد عليه بأن الفلاسفة مهما اختلفوا على التعريف الدقيق للفلسفة، ومهما كتبوا في هذا من مؤلفات ومصنفات، إلا أنهم أجمعوا على أنها ضرب من "الوعي" و"فتح عيون الناس"، وهذا الرأي ليس بعيداً عن مقولة الرواقيين والأبيقوريين بأنها "إرشاد للناس"، أو مقولة "شيشرون" عنها بأنها "فن الحياة" ... وأخيراً، لربما أضفت بسرعة ونزق – متمنياً على القراء أن يتنبهوا ويحفظوا هذه الجملة فقط – أن الفلسفة خطاب نقدي وتفكير عقلاني من نوع خاص ...

ولكن، بصراحة، هذا كله ما زال "ضراط على بلاط"، وكلام "قصير هزيل" للمبتديء الذي يريد أن يفهم "ما هي الفلسفة". هذه "تعاريف" لا تسمن ولا تغني من جوع، وتنفع فقط أن تكون مواداً صماء لاستظهار طلاب المدارس الابتدائية دون أي محاولة للفهم .... بل حتى لو أخذنا شروحات "كانت" و"فيخته" عن "معنى الفلسفة ومفهومها" فإننا سوف نبقى نراوح في مطارحنا مغرقين في التجريد والخلط .... فما العمل ؟؟

العمل عندي هو أن ندخل كي نتعرف على "مقولات الفلاسفة" والمسائل التي استوقفتهم عبر مسيرتهم، قبل أن نحاول "تعريف الفلسفة" ... فعندي أن فهم "ماهية الفلسفة" لن يأتي إلى عقولنا قبل أن نغمس بدننا في نهر مسائلها .. بعدها، وبعدها فقط، نستطيع أن نقف ونستوقف ونحاول تحديد مفهوم هذه "الكلمة" دون أن نخلط الحابل بالنابل ... ودون أن نردد بعض "الكلمات الكبيرة" التي - قد تكون - لا تعني لنا الكثير ....

ولكن قد يتوجب علينا أن نحدد النهر قبل النزول فيه ... وهنا، لن أحلل وأشرح كثيراً، فالفلسفة التي أعنيها وأقصدها هي ذلك التراث الذي نشأ وبلغ في اليونان في القرون الأربعة قبل ميلاد السيد المسيح، والذي انتقل بعدها إلى العرب عبر السريان، والذي نقله العرب إلى الغرب من خلال النافذة "الإسبانية" في القرن الثاني عشر والثالث عشر .... والذي تطور في أوروبا منذ "الإسكولائيين وتوما الأكويني" حتى عصرنا الحاضر .... إنها – ببساطة – ما تعود علماء العرب على دعوته "بعلوم الأوائل" في زمن كان للعقل عندنا مكان وزمان ...

هذا هو النهر الذي اخترته، والذي يشكل – عندي – ذروة سنام الفلسفة وأكثرها تطوراً ورقياً وخلوصاً ....

وللحديث بقية ...

العلماني

حلو يا علماني،

لقد اعدت الى ذاكرتي ايام يفاعتي ايضاً مع كتاب سلامه موسى الذي اهداني اياه احد اقربائي المتنورين. وهو ما يزال على صفوف مكتبتي. كما اذكر ايضاً كتاب "نظرية التطور واصل الانسان" الذي اقض مضاجع طفولتي وسحبني الى عالم التامل.
واصل،

في اعادة النضارة لحدائق الفكر التي بدأت تذبل خريفاً اثر خريف.

وانتظر الاستحمام في مياه النهر الذي ترسمه.

وكل مودتي
علماً باني اعاني من هذا الdsl اللعين...

يرفع للحديث بقية :saint:

ليكن هناك فاصل اعلامي يتحدث عن " الفتاة المراهقة"

فيطيب لنا الحديث:)

لا وقت لدي لمتابعة موضوعين بهذا الاتساع، وموضوع "التنويريون العرب" لم أختاره ولكنه اختارني بعد الهجوم "القصير الباع" على "سلامة موسى" ....

http://www.nadyelfikr.com/forumdisplay.php3?fid=2

واسلموا لي
العلماني

للرفع

:):)