عام الكريز
مساء الفل
امتنعت عن تدخين المارلبورو الأحمر منذ عام تقريباً. وذلك بعد عشر سنوات من الصداقة الحميمة مع تلك السيجارة.
وبدأت أدخن الشيشة ، خصوصاً حجر الكريز.
وأصبحت لدي عادة جديدة، وهي أن أخرج كل يوم في وقت الراحة إلى مكتبة قريبة فأشتري جريدة "الدستور"
ثم أذهب إلى مقهى قريب، حيث يعرفني الكل طبعاً بمن فيهم صاحب المقهى.
وأصبح لي مكان معروف أنه "لي" وأنا أجلس فيه.
وأحياناً وصل الأمر أنني كنت إذا مررت فقط ورأوني عن بعد، يذهبون لإحضار الشيشة والمشروب المفضل (النعناع المغلي)
حتى إذا ما دخلت وجدتهما جاهزين على "مكاني" وبانتظاري.
فأجلس لأقرأ وأدخن، ونادراً ما ألتفت حولي لأنظر إلى أحد. الدخان الكثيف المتصاعد من منخري لم يكن ليسمح لي أن أفعل على أية حال.
استمر الحال هكذا عاماً كاملاً.
عام كامل من الكريز و من افتتاحية إبراهيم عيسى بكل قصصه ومغامراته - وحماقاته أحياناً - التي لا تنتهي.
عام كامل من عمود بلال فضل اليومي الساخر.
في خلال هذا العام ، "عام الكريز" ... بدأ اتفاق جديد بين الدستور وبين أحمد فؤاد نجم على أن يكتب كل يوم مقالاً فيها، ولأول مرة وجدته سطحياً جدا ولا يستحق المتابعة، كما بدأ أيمن نور يكتب فيها عموداً يومياً من السجن، ولم أجد فيه هو الآخر ما يستحق المتابعة. وبينما استحق حجر الكريز مني المتابعة، وجدت أشياء كثيرة تتغير. فأنا لم أعد حبيس الجدران كما كنت.
وأصبح إدماني الجديد يدفعني إلى ارتداء ملابس...أي ملابس، ثم الخروج ماشياً حتى بائع الجرائد ، لشراء الدستور، ثم المشي حتى المقهى.
كانوا يشترون لي معسل الكريز مخصوص ، وفي كل أسبوع كنت أدخن منه شحنة بأكملها لوحدي.
وهكذا استمر عام الكريز ، مع إبراهيم عيسى وبلال فضل. ولم تعد رائحتي كريهة كأيام المارلبورو الأحمر الذي كنت أعتبره صديقي الوحيد.
وكما يطير الطير ويرتفع ، فلا بد في يوم أن يقع. وقد وقع طبعاً في أحد الأيام التي كنت مندمجاً فيها في تدخين الشيشة حيث
لم يعد صدري أو قلبي يحتملان كل هذا الكم من السموم، ولم يعد عقلي يرى كبير تشويق في الدستور. وإنما نغمة متكررة ورتيبة.
وكلاهما ، الدستور والكريز، لم يؤديا إلى نتيجة ملموسة في الحياة.
كما أن بلال فضل نفسه توقف عن الكتابة بسبب انشغاله بكتابة السيناريوهات. وقام بتجميع مقالاته كلها، ووضعها في كتاب اسمه "قلمين" بعنوان عموده اليومي. وقد طرحته
هنا للتحميل .
وأخيراً بعد أن كفر صدري بي وضاق وأصبح كأنما يصّعد في السماء، توقفت مرغماً عن التدخين بشتى أنواعه.
وبعد أن كفرت الدولة بالدستور وضاق صدرها بكل من يكتب ما يخالف ، فأصبحت الاعتقالات والمحاكمات التيك أواي بالجملة، ولم يعد إبراهيم عيسى يكتب بنفس رونق الماضي، توقفت عن شراء الدستور.
وعدت مرة أخرى إلى الجدران دون النزول ودون الدستور ودون كريز.
وأصبحت الحياة أكثر إنتاجية ، وأكثر نظافة. وأكثر هواءً أيضاً .
ولكنني لست نادماً على "عام الكريز" . ولا على الأعوام العشرة من المارلبورو التي سبقته.
ولست نادماً على إدمان الدستور وبلال فضل.
لقد كانت تجربة إنسانية صحيحة في وقتها ومكانها. وخرجت منها شخصاً مختلفاً.
أراكم بعد حين