تفسير القران و تطور معاني اللغة
احدث القران الكريم و تفسير نصوصه اثرا كبيرا على معاني اللغة العربية, تمثل هذا الاثر في جانبين:
الاول: المحافظة على نقاء اللغة و سلامتها.
الثاني: التطور في بعض معاني اللغة , و ادخال معان جديدة عبر الفاظ جديدة و قد كان ذلك التطور نتيجة طبيعية لاثر العوامل الجديدة التي طرات على المجتمع العربي حين نزل القران.
على ان هنالك تطورا اخر حدث في اللغة العربية و يحدث على مر العصور نتيجة ظروف طبيعية ايضا , اذ ان عوامل التطور تظل تعمل عملها , لا يستطيع ان يوقفها احد. لذا ينشأ سؤال هنا يتصل بهذا التطور الجديد الذي حدث في اللغة او يمكن ان يحدث فيها, و بعلاقته بتفسير القران الكريم و تاويل معانيه, و هو ما موقف المفسرين من هذا التطور, ايفسرون نصوص القران طبقا للتطور الجديد الذي يحدث في اللغة , ام يفسرونها على اساس معانيها التي فسرت بها قديما؟
و بعبارة اخرى اتفسر نصوص القران على اساس معاني اللغة التي كانت سائدة و معروفة حين نزول القران ام تفسر على اساس المعاني الجديدة التي تطورت اليها اللغة؟
يرى علماء اللغة و الادب انه لكي يفهم اي نص لغوي فهما صحيحا سليما لا بد ان يوضع في اطار الظروف التي قيل فيها, و الزمن الذي كان فيه المجتمع اللغوي المعين.

محاذير
من سمات تفسير القران الكريم في عصور الاسلام الاولى الاعتماد الكامل لكل ما قيل و روي في الموضوع , و خاصة التفسير بالمأثور و تحقيق ما قاله السلف. و لا يلتفتون غالبا الى ما في النص من جوانب لغوية او فقهية او تاريخية. ثم جاء عصر التأليف المستوعب حيث انقلبت كتب التفسير الى موسوعات علمية شاملة . محشوة بالجوانب اللغوية ( نحوية و صرفية و بلاغية ) و جوانب الفقه و السيرة و التاريخ و اسباب النزول.
و هذا المنهج و ان كان حسنا من حيث حفظه للتراث الا انه سبب اشكالا كبيرا للاجيال اللاحقة , خصوصا في عصرنا الحاضر , حيث درج الناس على التخصص لازدحام الاوقات و كثرة المشغوليات, فكانت اولى المحاذير التي تجنبها المفسرون المعاصرون هذه الطريقة في التطويل التي تجعل غير المتبحر في هذه العلوم يحار في اختيار الصواب من الاقوال, و يقف شارد الذهن بين فائدة فقهية او نكتة بلاغية او رواية تاريحية حتى يضيع عليه ما اراده من فهم الاية القرانية و ما ترمي اليه من مغزى ارشادا او توجيها يتضمن امرا او نهيا .
كذلك من المحاذير الوقوع في الشطط: حيث يعتمد بعض المفسرين على فهمهم القاصر الوصول الى عمق النص , فيأخذ ظاهره و ينزله على ما عنده من نظريات علمية لم تدقق او روايات تاريخية لم تحقق.

و من المحاذير ايضا الوقوع في الشطح : و هذا مسلك سلكه بعض المغرضين من المنافقين او المهووسين بمنهج ان لكل ظاهر باطنا, و قد اوقع هذا المسلك اناسا كثيرين في ذلك القول و الفعل حيث زعموا ان لكل نص معنيين قريب و بعيد و ان المعنى البعيد لا يدركه الا خاصة الخاصة , فجعلوا من انفسهم مثابة و مرجعية, و من فهم القران و تفسيره كهنوتا.

اولى التفاسير في النصف الثاني من القرن الثاني كانت تعتمد على جمع الاقوال بحسب ما انتهت به من طرق اسناد. و كان كتاب التفسير كثيرا ما يحمل اكثر من خبر في الاية الواحدة.
و كانت القراءة و الاعراب عنصران يرجع اليهما في التفسير للترجيح , اضافة الى عنصر الروايات الواردة. و هما عنصران يتصلان مباشرة بالنص القراني.
و من هنا ندرك سبب تضخم كتب التفسير بالماثور التي وصلت الينا على نحو ما نجد في تفسير ابن جرير الطبري مثلا و مما يلاحظ على تلك التفاسير انها لم تحاول التخلص من مختلف الروايات التي تحتاج الى نقد و تمحيص , و لذلك كان من اهم ما يلاحظ على تفاسير هذه المرحلة كثرة الضعف و الوضع في الروايات و تفشي الاسرائيليات فيها.
و لفظ الاسرائيليات- و ان كان يدل بظاهره على القصص الذي يروى اصلا عن مصادر يهودية- يستعمله علماء التفسير و الحديث و يطلقونه على ما هو اوسع و اشمل من القصص اليهودي , فهو في اصطلاحهم يدل على ما تطرق الى التفسير و الحديث من اساطير منسوبة في اصل روايتها الى مصدر يهودي او نصراني او غيرهما , بل توسع بعض المفسرين و المحدثين فعدوا من الاسرائيليات ما دسه اعداء الاسلام من اليهود و غيرهم على التفسير و الحديث من اخبار لا اصل لها في مصدر قديم , و انما هي من صنع اعداء الاسلام , صنغوها بخبث نية , و سوء طوية , ثم دسوها على التفسير و الحديث, ليفسدوا بها عقائد المسلمين.

كيف تسربت الاسرائيليات الى التفسير؟
يرى الدكتور الذهبي بان تسرب الاسرائليات الى التفسير قد سبقه تسرب الثقافة الاسرائيلية الى الثقافة العربية في الجاهلية. فالعرب في جاهليتهم كان يقيم بينهم جماعة من اهل الكتاب جلهم من اليهود الذي نزحوا الى جزيرة العرب من قديم , و الذين هاجروا اليها هجرتهم الكبرى سنة سبعة و سبعين من ميلاد المسيح عليه السلام فرارا من العذاب و النكال الذي لحقهم على يد تيطس الرومان,
و قد مر التفسير بمرحلتين متميزتين . اولاهما مرحلة الرواية , و ثانيتهما مرحلة التدوين.
اما مرحلة الرواية فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس الى اصحابه يحدثهم بما يهمه و يهمهم من شئون دينهم و دنياهم . و كان حديثه يتناول بعض تفسيرات لما خفي على صحابته من كتاب الله عز وجل.
و كان الصحابة رضوان لله عليهم يعون ذلك عنه و يحفظونه ثم يبلغونه لبعض اخوانهم الذين غابوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم , و لمن تتلمذ عليهم بعد من التابعين.
و كان التابعون يروي بعضهم لبعض ما تحملوه من الصحابة , كما يروونه على من تتلمذ عليهم من تابعيهم.
و لم يكن ما يرويه التابعون و تابعوهم مقصورا على ما هو مرفوع الى رسول الله صلى الله عليه و سلم , بل كان في ضمن ما يروونه موقوفات على الصحابة او التابعين , بعضها يرجع الى التفسير و بعضها يرجع الى غيره من الامور الدينية.

كان ابن كثير على دراية بمدى تضخم كتب التفسير باحاديث اهل الكتاب المختلفة , و رواياتهم الباطلة مما كان يجعله لا يكف عن تمحيصها , و بيان زيفها و افكها.
و يرى بان بعض اهل الكتاب كان غايتهم من ادخال الاسرائيليات في ديننا الباس الحق بالباطل ليلتبس على الناس امر دينهم .
لذلك اتخذ ثلاثة مسالك في نقده للاسرائيليات:
1- الاعراض عن ذكرها.
2-ذكرها منسوبة لبعض المفسرين مفندا لها.
3-نسبها الى قائلها مع مناقشة لها و بيان لبطلانها.
و من الماخذ التي سجلها الحافظ ابن كثير على من سبقوه انهم اكثروا من النقل عن كتب اهل الكتاب , و وضعوا هذه النقول بجوار آيات الله الواضحات تفسيرا لها, و توضيحا لكلماتها مع ان ديننا قد كمل , فليس في حاجة الى شئ من هذه الاسرائيليات.
قال: و قد اكثر كثير من السلف و كذا طائفة من الخلف من الحكاية عن كتب اهل الكتاب في تفسير القران المجيد , و ليس بهم احتياج الى اخبارهم و لله الحمد و المنة.

اسرائيليات مسلمة اهل الكتاب
قام الذين اسلموا من اهل الكتاب بدور كبير في نقل كثير من الاسرائيليات في التفسير و الحديث و القصص و التاريخ و غير ذلك , لدرجة انك لا تكاد تفتح كتابا ماثورا الا وجدت روايات كثيرة مخرفة و اسرائيليات هابطة لا يقبلها العقل و لا الشرع.
لقد احدثت الاسرائيليات اثرا سيئا في العقيدة و اضطرابا فكريا حجب الرؤية الواضحة عن بعض العقول و نشا عن ذلك خلاف في بعض المسائل, مما نمثل له لاحقا.

القصص في التفسير
امتلات كتب التفسير بقصص روي عن اهل الكتاب, و اكثره مما لا اصل له بل اكثره مما يستحيل حدوثه , و مع ذلك تداول تكراره لدى المفسرين شارحا بعد شارح, و من اعجب الاشياء ان من تداولوا هذا القصص قد نصوا في مقدمات شروحهم على بطلان هذا القصص , و اوسعوه تجريحا و ذما, ثم تناسوا ما قالوا , فعمدوا الى ذكره مسهبين .
و قد بحث ابن خلدون في مقدمته الاسباب الداعية الى الاسهاب في الاسرائيليات لدى المؤمنين بعامة , لان البلاء لم يقتصر على كتب التفسير و لكنه انتقل الى كتب الحديث و التاريخ بافاضة مذهلة و هو في كتب التفسير اشد خطرا لان قارئ التفسير من العامة يظن ان ما سجله امام كبير كالطبري صحيح لا زيف فيه.

ومن ما روي في الصحاح من مثل ما نقله البخاري في كتاب الشهادات قال :عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : يا معشر المسلمين كيف تسالون اهل الكتاب , و كتابكم الذي انزله الله على نبيه صلى الله عليه و سلم احدث الاخبار بالله , تقرءونه لم يشب و قد حدثكم الله ان اهل الكتاب قد بدلوا ما كتب الله و غيروا بايديهم الكتاب فقالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا افلا يناهكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم, و لا و الله ما راينا رجلا منهم قط يسالكم عن الذي انزل عليكم.

اسرائيليات في اقوال الصحابة و التابعين:
روي عن بعض الصحابة- رضي الله عنهم- اثار غريبة و اخبار اسرائيلية في التفسير و الحديث و غيرهما.
و كان تلقي هذه الروايات عن مسلمة اهل الكتاب ككعب و وهب , او عن طريق الاطلاع على كتب اليهود و النصارى ونقل بعض ما فيها الى ديننا.
فالروايات المستهجنة و الموغلة في الخيال التي اثرت عن عبد الله بن عمرو كان يعزوها ابن كثيرالى الزاملتين اللتين حملهما معه من اليرموك.
و قد ينسب الى الصحابي افكا و زورا , روايات لم يقلها , فيتناقض ما اثر عنه من اراء في الاية الواحدة او التفسير الواحد.

ابرز اتجاهين رئيسيين للتفسير يغلب على احدهما الطابع التجزيئي و هو المنهج الذي يتناول المفسر ضمن اطاره القران الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف, فيسير مع المصحف و يفسر قطعاته تدريجيا بما يؤمن به من ادوات و وسائل للتفسير من الظهور او المأثور من الاحاديث او بلحاظ الايات الاخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح او مفهوم, بالقدر الذي يلقي ضوء على مدلول القطعة القرانية التي يراد تفسيرها مع اخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار من كل تلك الاحتمالات. هذا المنهج في التفسير تدرج تأريخيا الى ان وصل الى مستوى الاستيعاب الشامل للقران الكريم بالطريقة التجزيئية . و كان قد بدأ في عصر الصحابة التابعين على مستوى شرح بعض الايات و تفسير مفرداتها . و كلما امتد الزمن ازدادت الحاجة الى تفسير المزيد من الايات الى ان انتهى الى الصورة التي قدم فيها الطبري و غيره ممن كتب في التفسير في اواخر القرن الثالث و اوائل القرن الرابع. و كانت تمثل اوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير.