{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 2 صوت - 2 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
نسمه عطرة غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 11,293
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #31
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
الزميل العلماني
اشيد بما تكتب بهذا الموضوع ...
أجدك رائع بالوصف وعنصر التشوق ...
ربما لا أجرؤ على هذه التجربة ....وأريد أن أرى تجربة الآخرين ...

أنتظر تحليلك ووصفك بلقاء الزملاء ...
استمر لا تجعلنا ننتظر كثيرا ...
لك تحية عطرة :97:
08-28-2005, 04:07 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #32
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
"المقهى" هو ذلك البناء الزجاجي الذي يلتف حول بناية الفندق من جهة البحيرة، والذي تنتصب أمامه بعض "المظلات".

الصورة بعيدة بعض الشيء، ولكن قد يكون في وضعها بعض الإعانة لخيال القاريء.

http://www.beau-rivage-hotel.ch/

واسلموا لي
العلماني
08-31-2005, 06:18 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Free Man غير متصل
stabile in the instability
*****

المشاركات: 4,483
الانضمام: Mar 2004
مشاركة: #33
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
مكان ساحر جداً

إلى متى التشويق يا علماني :kiss:
08-31-2005, 07:22 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #34
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
اقتباس:إلى متى التشويق يا علماني

بعد غد يا "فري مان"، يوم السبت، تنتهي الحكاية ...

شكراًَ لمتابعتك
(f)

واسلم لي
العلماني
09-01-2005, 09:04 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
جادمون غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 815
الانضمام: Dec 2001
مشاركة: #35
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
السلام للجميع :

كان عندى كلمتين فى زوري محشورين ...
بس راح خليهم لحتى يخلص العلماني .. وبعدين لنا حساب ..

للعلمانى (f)

وللعربية الف (f) لانو لولاها لما اشرقت كلمات العلماني هنا ...


تحياتي

والى لقاء قريب...
09-02-2005, 09:33 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
النورس الحزين غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 538
الانضمام: Dec 2001
مشاركة: #36
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى

للزميل العلماني مليون :97:

تحياتي
:9:
09-03-2005, 12:50 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Arabia Felix غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,085
الانضمام: May 2002
مشاركة: #37
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
اقتباس:  العلماني   كتب/كتبت  
 بعد غد يا "فري مان"، يوم السبت، تنتهي الحكاية ...  

:flam: مالك يالعلماني.. مالك طافح* .. هههههههههه.. أي طفح بك الكيل.. أشعر ان حمولتي ثقيلة عليك.. :P .. خلاص، ارميها اليوم.. منتظرة انا كمان.. (f)



-------------------
*تعبير يمني
09-03-2005, 11:57 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #38
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
في "فقرا"، في لبنان، كان "موسى زغيب"، شاعري الشعبي المفضل، ينظر إلى آثار الفينيقيين القديمة ويقول:
"تعي يا مملكة فقرا المُهابي
افتحي بابك، أنا ردّيت بابي
وظلّي نَكِوْشي بْهاك الحجاره
تا يحكي الصمت بالطين الترابي
شو راكع زلْم عادروب الإماره
وشو صاهل خيل، عاهاك الروابي
وبهاك الأقبيه بليل السكارى
شو مال خصور، شو تدلدق خوابي "

كنت أردد هذه الأبيات و"ستراسبورغ" تكشف نفسها لي، فالعراقة تذكرك بالعراقة، والجمال يأخذك نحو الجمال، والتاريخ يستلهم التاريخ.

ليس "لستراسبورغ"، وأنى لها هذا، مجد الفينيقيين وفتوحاتهم. فهي مدينة صغيرة قابعة على الحدود بين فرنسا وألمانيا. وما كانت يوماً لتطاول "باريس" إشعاعاً و"لندن" عظمة و"برلين" قوة و"روما" أمجادا، كي نقارنها بشواطيء جبيل وصيدا وصور. ومع هذا فلستراسبورغ نسب مع التاريخ، ولها عراقة وأصالة وصلة قرابة "وهمية" بالفنينيقيين. فهؤلاء البحارة الذين سكنوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط هم الذين صدّروا الحرف عن شواطيء "صور وصيدا" إلى "أوروبا". فالرواية تزعم بأن "قدموس" الفينيقي هو الذي حمل الأبجدية إلى بلاد الشمال، وأن أخته "أوروب" هي التي منحت "أوروبا" اسمها. ولكن ما علاقة هذا بستراسبورغ بالذات؟

علاقة وهمية كما قلنا، فستراسبورغ هي أيضاً البلد الذي أقام به "يوحنا غوتنبرغ" عشر سنوات، طور فيها "آلة الطباعة" التي مهرت الحرف ثورته العظمى، وأتاحت للمعارف الشيوع والذيوع والانتشار بشكل لم يعرف له التاريخ مثيلا.

كنت أقول لنفسي هذا وأشعر بوحدة الحضارة وتكامل المعارف الإنسانية وبعضاً من زهو وتيه وخيلاء يهب بين جنباتي. "فالجليل" الذي أنا منه كان جزءاً من "فينيقيا" القديمة، والعرب الذين انتمي إليهم هم صلة الوصل بين آلة "هانس غينسفلايش"(يوحنا غوتنبرغ) والأبجدية التي رحلت عن شواطيء شرق المتوسط. فالعرب هم من أتى "بالورق" من الصين في القرن السابع للميلاد، وهم من عممه مطية للأقلام والمحابر.

***************

عبرت من ألمانيا إلى فرنسا خلال عشر دقائق أو بالكاد. لم يكن هناك شيئاً يقول لي بأنني انتقلت من بلد إلى آخر. اللهم سوى بناية "مهجورة" للجمارك الفرنسية على الحدود.

لو عاد ملوك فرنسا إلى هنا لما فهموا شيئاً. ولو قفز "أوتو فون بسمارك" وقيصره "ولهلم الأول" من قبريهما لتعجبا أشد العجب. فرسم حدود "ألمانيا" كلف "بسمارك" حرباً ضروساً مع "النمسا" (1867) والقضاء على امبراطورية "نابليون الثالث" الفرنسية (1871). أما توسيع هذه الحدود، فلقد دفعت ثمنه عائلة "الهوهينزوليرن" الحاكمة عرشها (1918) ، قبل أن يتم تدمير "الرايخ الثالث" تحت مدافع الحلفاء وطائراتهم في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع هذا، فهأنذا أعبر من ألمانيا إلى فرنسا، في منطقة الألزاس التي تنازعت عليها الدولتان 300 سنة دون أن يستوقفني أحد. فالأرض التي مات الملايين من أجلها، على مدار قرون ثلاثة، لم تعد تعني إلا سكانها.

اللائحة الخضراء تقول بأنني في ستراسبورغ. صعدت فوق جسر واسع على نهر كبير وأنا لا أعرف من أين أدخل إلى المدينة، ولكن حظي أسعفني وأنا أرى اسم الفندق، الذي حجزت غرفة فيه، يتلألأ أمامي. تهللت وقلت: "رب صدفة خير من ألف ميعاد" ثم أوقفت السيارة، وأخذت غرفتي وارتحت قليلاً قبل أن أحاول الاتصال "بوميض".

***************

عرفت "العربية السعيدة" من خلال "نادي الفكر العربي"، ولكني عرفت "وميظ":P من خلال "الماسينجر العظيم". هذه الواجهة الأثيرية الصغيرة التي لعبت دوراً رئيسياً في حياتي في السنين الأخيرة.

قبل ساحات الحوار والماسينجر كان هذا العالم الافتراضي، بالنسبة لي، موسوعة سيئة تنام على رفوف مكتبة كبيرة، أفتحها كلما احتجت لمعلومة سريعة غير موثوقة أو لهروب معرفي غير محدد الاتجاه. قبلهما، كنت أتعامل مع الانترنت كتعاملي مع التليفيزيون والراديو والتليفون ووسائل الاتصال الأخرى؛ أحاول استغلال هذه الأدوات العصرية في النهوض لشؤون معيشتي، ولتمضية بعض أويقات الفراغ في قراءة الصحف العربية والعبرية، أنا البعيد منذ دهر عن الضاد وأهلها وعن بلادي وأحداثها.

مع ساحات الحوار أصبح هذا الجهاز "المخزن | المتجر" بائع يقايضك، فيأخذ منك ما يريد ويعرض عليك ما في دكانه. أما مع "الماسينجر" فلقد تحول القبوع خلف الشاشة إلى جلسة سمر و"قعدة" دافئة حول نار تغازل "تشرين" وتحنو على "كانون".
ساحات الحوار أرتني الكتّاب، وهدتني إلى من يحسن تنضيد الحرف ويتقن صناعة الكلمة ويقيم أود الفكر، أما الماسينجر فعرّفني على أصدقاء وأحباب وخلان وجدت عندهم الكلمة اللطيفة والنادرة الذكية والجو الألِق.

ساحات الحوار خاطبت عقلي وحركت خلاياه، أما الماسينجر فحادث روحي وصادق نفسي وأصبح لي كعبة أقتبلها في كثير من الأمسيات. وبين هذا وتلك، تكشّف العالم الافتراضي عن عالم حقيقي، واقترب غير المحسوس من المحسوس، فأصبح لجلوسي أمام الكمبيوتر مشاريعاً وقصصاً وتاريخاً وذكريات.

مع "ساحات الحوار" تستطيع أن تتجمل وأن تتقنع – رغم الصعوبات- بل وتستطيع أن تكون "غيرك" - لفترة ما-. أما مع الماسينجر فلسوف تجلس بعد سويعات أمام محاورك دون رتوش، ولسوف تستصعب أن تبيع "الخل" بسعر "النبيذ" أو أن تخفي وجه "توفيق الدقن" خلف قناع "لليوناردو دي كابريو".

************

كان موعدي مع "وميض" في السادسة مساء. ولكني كنت أقبع منذ الساعة الرابعة بعد الظهر في مقهى شعبي يحاذي سكنها الجامعي. فلقد خرجت مبكراً خشية على نفسي من "تيه بني إسرائيل" في مدينة لا أعرفها. ولكني وصلت – بقدرة قادر وعون من "خريطة" مفصلة – بسهولة وسرعة ويسر.
جلست في المقهى برفقة كتاب لأمين معلوف وكأس من "الجعة"(البيرة) وسيجارة "أحرقها وتحرقني" بتؤدة واتزان. وما هي إلا لحظات حتى كان "موبايلي" يطالعني بصوت "وميض" وهي تسألني إن كنت أستطيع أن أراها قبل موعدنا. أجبت: عشر دقائق وأكون عندك.

عندما وصلت إلى السكن الجامعي كانت "وميض" عندي عبارة عن صورة وصوت وأحاديث ماسينجرية كشفت لي عن تشابه كبير بين "آرابيا فيلكس"؛ الكاتبة في "نادي الفكر"، وبين "وميض"؛ الفتاة اليمنية الناهضة لشؤون مجتمعها. ومع هذا "فوميض" كانت أكثر صفاء من "العربية السعيدة"، وفي صوتها جرعة هدوء واطمئنان تزيد قليلاً عن حديثها المكتوب على واجهة الماسينجر.

بلغت باب غرفتها وأنا أرسم لنفسي "سيناريو" يجعلني أنقر على الباب كي تفتح لي فتاة سمراء شعرها "حالك كالغداف جثل دجوجي" فأبتسم وأنا أرى نظرتها المتهيبة وأقول ماداً صوتي: وميـــــــــــــــــــظ ...
ولكن هذا لم يحدث، فعندما بلغت الطابق الرابع (على ما أذكر) وجدت إلى يمين المصعد باباً مفتوحاً، وسمعت صوت رجل قبل أن أصل الغرفة وأرى فتاة محجبة جالسة باتزان ووقار.
كانت "وميض" خلف الباب المفتوح، وكان لديها صديق وصديقة من اليمن يحادثانها. وسمعتها تهتف باسمي وهي تنتبه لوقع خطواتي على الباب ..... وكان لقاء جميلاً.

********************

أمضيت "راس السنة" في "ستراسبورغ" في مطلع الألفية الثالثة (قبل خمس سنوات)، وكنت ما زلت أذكر "كاتدرائية" المدينة الضخمة والحي الشاعري الذي يحيط بها. تذكرت وقتها أنني شعرت بمثل هذه النسمات العلوية التي ترف على هذا الحي الرومانسي، عندما زرت للمرة الأولى – في الثمانينات - كنيسة القلب المقدس وما يجاورها، على تلة "مونمارتر"، في باريس. يومها أحسست بدفيء خاص وأنا أجول بين الرسامين في تلك الباحة، وشعرت – داخل مبنى الكنيسة - براحة وهدوء وسعادة واطمئنان عندما عبثت بأنفاسي رائحة البخور المتشبثة بأركان هذا الصرح المعماري الضخم الذي بناه الفرنسيون كفارّة عن ذنوبهم بعد انسحاق بلادهم أمام "قيصر بروسيا" سنة 1871.
نفس الشعور سوف يتملكني – بعدها - في كنيسة القديس يوسف (سانت جوزيف – على ما أذكر الإسم) في مونتريال. أما ستراسبورغ فقد كان وقع "حيّها الرومانسي الشاعري" أكبر أثراً في نفسي من رائحة بخور كاتدرائيتها الضخمة الكالحة المائلة للحمرة.

حدثت "وميض" التي اتخذت مقعدأً بجانبي، في السيارة، عن الكاتدرائية والحي الذي يجاورها، ثم ذهبنا نفتش – على الخريطة - عن كيفية الوصول إليه.

المدينة القديمة في ستراسبورغ عبارة عن جزيرة صغيرة يحيط بها نهر "الإيل". سرنا باتجاهها حتى برز لنا النهر بكنائس قديمة أقيمت على ضفافه. أوقفنا السيارة ونحن نتفحص اسم الشارع كي لا نتوه عنه عند عودتنا، ثم بدأنا المشي بجانب النهر.

في الأفق شاهدنا كنيسة حمراء ضخمة، فقلت لوميض، باطمئنان العارف وابتسامة الدليل المجرب: تلك هي الكاتدرائية، هيا بنا نحوها.

وصلنا الكنيسة ولا شيء يذكرني بهذا "الجو الشاعري الخاص" الذي أسرني قبل سنوات خمس. لم يكن هناك مطاعم ولا حانات ولا حتى سابلة. قلت لوميض: هل من المعقول أن نكون قد أخطأنا الكاتدرائية؟

أجابت بقناعة وثبات وبرود شبه عاتب: هذه كنيسة ضخمة بالنسبة لستراسبورغ، ومن الأكيد أن ليس في مدينة صغيرة مثل هذه، كنيسة أكبر منها.... هيا بنا.

سلمت أمام جهلي بمكان الكاتدرائية وحجة "وميض" المنطقية جداً، وسرنا مع النهر عائدين. في الشارع، بدأت أنتبه أكثر إلى حال هذه "العربية السعيدة" التي أحسست منذ أن قابلتها بأنني أعرفها منذ دهر. "فوميض" لا تترك لك مجالاً لغربة الأحاسيس، تقابلك ببسمات دائمة وتتصرف بعفوية وبساطة وتلقائية. لا مكان عندها "لبروتوكولات الوقار" العربية الكلاسيكية، فهي مملوءة بدهشة طفولية وحياة متدفقة. تعرب عن فرحتها وسعادتها لكل منظر جميل تلتقطه وتتعامل معه بانفتاح أخاذ. هكذا رأيتها تصرخ ابتهاجاً عندما أبصرت النهر على حدود المدينة القديمة. وهكذا اندهشت وأنا أراها تلوح بيديها، لركاب القارب السياحي الكبير الذي كان يتهادى فوق ماء النهر، بجذل وفرحة غامرة.

عبرنا النهر إلى الضفة الأخرى وتوغلنا شيئاً فشيئاً في المدينة القديمة، وبدأ ذلك "الجو الخاص" الذي أحسسته مرة في ستراسبورغ يتشكل ويتمايز ويعرب عن نفسه؛ كانت هناك البيوت "الألزاسية" التقليدية الجميلة بسقوفها الرمادية والسوداء وورودها التي تزين النوافذ وتمنحها طابعاً خاصاً. وكانت هناك الشوارع النظيفة الضيقة المبلطة التي تحف بها المطاعم المختلفة التي تزداد حضوراً وكثافة وأناقة مع سيرنا بالاتجاه الشمالي الغربي.

بضعة خطوات أخرى جعلتنا نحس بازدياد عدد الناس، وجو من البهجة يغمر المكان. وما أن استطعنا رؤية جزء من بناية ضخمة تشربت الحمرة، حتى رأيت "وميض" قد انقلبت بكل جوارحها إلى كتلة من الدهشة والانبهار. لقد كنا أمام "كاتدرائية" ستراسبورغ.

لم يكن أي منا يحمل "كاميرا". ولكن "موبايل" وميض كان حاضراً كي يخلد هذه اللحظات الجميلة.

اتخذنا مقعداً تحت إحدى مظلات مطعم إيطالي مقابل الكاتدرائية. كانت الساعة قد قاربت السابعة مساء فتناولنا طعام العشاء ونحن نتجاذب أطراف الحديث، ونمزج بعض السياسة ببعض الاقتصاد وبعض الأدب والكثير من "النسويات". فوميض لا تبارح اهتمامها بشؤون المرأة في أي مكان. بل تراها، مثلاً، تفتش على اللون البنفسجي (لون الشعار الفيمينيستي) في كل شيء، وتتمناه أن يكون لو لم يكن موجوداً. أذكر في طريق عودتنا بأنها قطفت زهرة صغيرة بنفسجية اللون وقالت لي وهي تقربها من أنفي: شم هذه قليلاً.
لم أشعر بأي شذا أو رائحة أو عطر، ولكني لم أعرف كيف أرد. فقالت: لا رائحة لها، أليس كذلك؟
قلت متلعثماً: لا ..
قالت: غريب ... مع أنها بنفسجية ...

بعد العشاء أخذنا نفتش عن مكان نستطيع به أن ندخن "الشيشة"(الأرجيلة) ونقضي سهرة جميلة. ولكن كيف سنهتدي إلى مثل هذا المكان؟ من نسأل؟
رأت "وميض" بعض النسوة العربيات المحجبات فاتجهت نحوهن وسألت بابتسامة عن "قهوة للأرجيلة" في البلد. وصفن لنا النسوة مكانا قريباً عندما وصلناه قال لنا صاحبه بأن علينا أن نقصد الحانات في مواجهة المحطة المركزية.

أخذنا السيارة وسرنا. أمسكت وميض بالخارطة وحاولت أنا أن أراقب يافطات الشوارع، علنا نهتدي. ولكن وصول المحطة كان سهلاً على الخارطة فقط، و"الإيدو بالمي مش متل اللي إيدو بالنار".

كنا بحاجة إلى صبر أيوب ونحن نلف ونلف ثم نعود إلى حيث كنا. ومع هذا، فبعد "صبر ساعة"، وصلنا المحطة. وجبنا الحانات التي حولها فلم نظفر ببغيتنا، وعدنا، نلم خيبتنا، بخفي حنين.

لم يبق سوى العودة، إلى السكن، كي نسهر ونسمر ونتسلى ونقضي وقتاً رائعاً نتعرف به على بعض أكثر وأكثر.

***********

صباح اليوم التالي كان علي أن أرحل باكراً. هاتفت "وميض" من الفندق، وودعتها على التليفون ... ومضيت.

في الطريق، كنت على يقين من ملاحظتين عن "وميض" ودرسين تعلمتهما منها، فضلاً عن الوقت الرائع الذي قضيته بصحبتها. كانت الملاحظة الأولى تقول بأن "العربية السعيدة" تزداد جمالاً وروعة وألقاً وإشراقاً كلما اقتربت منها أكثر؛ فهي قصيدة عميقة عليك أن تقرأها مرة ومرة ومرة، وفي كل واحدة منها تستكشف بعداً آخر ومعان قد فاتك كنهها.

الملاحظة الثانية تقول بأن تلقائية وميض وعفويتها تترافقان مع نظرة حادة وبصيرة نافذة وقلب ذكي. ومسكين هو من يظن بأنه يستطيع أن يقضي بعض الوقت في صحبة هذه اليمنية السمراء دون أن يصبح أكثر شفافية من ماء المطر فوق صخور الجبال.

علمتني "وميض" في هذا اللقاء بأن أحاول كسر حواجز التهيب مع الآخرين والانفتاح على الآخر، الذي لا أعرفه، من خلال ابتسامة وبساطة وقلب مطمئن. وهي علمتني فوق ذلك، من خلال الحديث المتأني الطويل، وبعض التصرفات العادية، بأن أكون هادئاً في التعامل مع نفسي ومع الآخرين ...


واسلموا لي
العلماني
09-03-2005, 11:52 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن الشام غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 893
الانضمام: Sep 2004
مشاركة: #39
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
(f)
09-04-2005, 12:54 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
العلماني غير متصل
خدني على الأرض اللي ربّتني ...
*****

المشاركات: 4,079
الانضمام: Nov 2001
مشاركة: #40
في لقاء Arabia Felix ... وذكريات أخرى
أريد أن أمتثل لطلب أحد الأصدقاء الأعزاء الذي سألني أن أضع جميع "أقسام الموضوع الثلاثة" في مداخلة واحدة، حفاظاً على وحدته.
عذراً على تطفلي عليكم ثانية بهذا الموضوع .. واسلموا لي: العلماني


----------------------------------


(1)
عندما ذهبت كي أرى "العربية السعيدة" في "ستراسبورغ" قبل شهر ونصف الشهر كنت متهيباً. فها هو حاجز آخر بين عالمي الافتراضي وعالمي الحقيقي على وشك أن ينهدم ويصبح طللاً دارسا.

كنت أعلم بأن "وميض الافتراضية" سوف تتراجع وتغيب إلى الأبد أمام "وميض الحقيقية"، وكان في هذا شيئاً من المجازفة تخوفته قليلاً، وتشجعت عليه كثيراً، لما في جعبتي من تجارب سابقة. فلقد التقيت قبلاً "مالك الحزين" و"الدكتور جمال الصباغ" و"إليسار" و"هنايا" و"طارق القداح" و"أبو ابراهيم" و"الدكتور محمد السوري"، فلم آسف لحظة على هذه التجارب الغنية الناجحة دائماً.

كنت صباح ذلك السبت من شهر تموز الماضي، قد ركبت "ناقتي الألمانية الهرمة " وسرت مع نهر "الراين" نحو مدينة "ستراسبورغ" الفرنسية. في الطريق، كانت صور اللقاءات القديمة مع "أصدقاء الانترنت" تتقاذفني، ووجدتني أبتسم ثم أقهقه، وأنا أتذكر كيف قابلت للمرة الأولى "مالك الحزين" و"جمال الصباغ".

***

كان "مالك" (نبيل شرف الدين) في زيارة إلى "سويسرا" في صيف العام 2000. حينها، كنا نكتب سوية في "هجر" ونتحادث بين الفينة والفينة على الماسينجر. كنت أحب – وما أزال – ما يكتبه "نبيل شرف الدين" دون أن أوافقه الرأي تماماً في كثير من المواضيع المطروحة. "فمالك" قلم سيال يعرف من أي تؤكل الكتف، له قدرة على اختلاق صور وتعابير تأخذ القاريء وتطوح به ثلاثاً ثم تقول له : اقرأ، وإن كان ليس بقاريء.

"مالك الحزين" من كتاب "النت" القلائل الذين ما برحوا يثيرون إعجابي عندما يكتبون. فقلمه يستطيع أن يجرح ويداوي، أن يصحو ويمطر، أن يكون "جلمود صخر حطه السيل" وأن ينقلب بعدها إلى ماء نمير عذب يترقرق بتؤدة على حصباء الوادي.

كان موعدنا بعد الظهر من يوم صيف قائظ، وكنت لم أر "الحزين" من قبل، ولم يكن يعرفني هو بدوره. قال لي على التليفون: سوف نلتقي، في الثانية بعد الظهر، في محطة القطارات في "نيوشاتيل"، أمام بائع ورد داخل بناية المحطة.

وصلت إلى محطة القطار في الثانية إلا الربع، ووجدت أمام "بائع الورد" قهوة (مقهى) جميلة جلست فيها وسيكارتي وبضع صفحات من صحيفة وضعتُ عيناً على صفحاتها والعين الأخرى على واجهة "بائع الورد" علّ "الحزين" يصل.

في الثانية تماماً، وقف رجل أسمر متوسط الطول، معتدل القوام، أمام واجهة بائع الورد. فقمت من مكاني مبتسماً متهللاً وتقدمت نحوه مصافحاً مرحّباً، قبل أن أضرب بالتقاليد الغربية عرض الحائط وآخذ الرجل بالأحضان، وأقول بابتسامة عريضة: مرحباً بك في سويسرا يا "حزين".

رأيت في عيني الرجل بعض الذهول والكثير من المفاجأة والدهشة. تمتم بكلمات فرنسية التقطت منها كلمة "باردون" وعبارة: ماذا تريد يا سيد؟ ... انتبهت .. هذا ليس "مالك الحزين" إذاً ... ثم حاولت أن أشرح للرجل بعبارات عيية حصرة ما حدث، قبل أن ينصرف وهو يطالعني بنظرة تشي باتهامه لي بخلل عقلي ما.

*****

الطريق إلى "ستراسبورغ" تطول، و"الراين" المنساب على الحدود بين فرنسا وألمانيا يطبع المنطقة بطابعه الخاص، ويتأقلم جيداً بين هذه الهضاب المترامية التي تمتد مئات الكيلومترات حتى بحر الشمال.

منذ العصور الوسطى وانقسام امبراطورية شارلمان بين أبنائه، أصبح "الراين" الحد الفاصل بين "مملكة الفرنجيين"(فرنسا) و"امبراطورية الجرمانيين"(ألمانيا والنمسا). صحيح أنه، والمناطق التي تحاذيه (الألزاس واللورين)، كان غالباً "جرماني" الهوى واللسان، ولكن ملوك فرنسا حاولوا دائماً أن يصلوا إليه، مقتربين منه أشد الاقتراب في عهد "الملك الشمس، لويس الرابع عشر"(1661 – 1715).

على الطريق السريع في ألمانيا، السرعة غير محددة. ألقيت "لراحلتي" حبلها على غاربها، وقلت لها: "إن كنت مزمعة فسيري". ثم عدت استرجع ذكريات لقائي "بالدكتور جمال الصباغ" كي أقهقه من جديد، فلقد تكرر، مع جمال الصباغ، "السيناريو" الذي حصل مع "مالك الحزين" ولكن "بديكور" مختلف.

****
كان موعدي مع جمال الصباغ في نفس المدينة التي قابلت بها "مالك الحزين" في صيف سنة 2001 (على ما أذكر). يومها، قال لي الدكتور بأنه سوف ينتظرني في "قهوة كبيرة" لفندق ضخم ، أعطاني اسمه، على شاطيء "بحيرة نيوشاتيل".

وصلت المكان، وركنت سيارتي في "الباركينغ" القابع أسفل الفندق، ودخلت المقهى الضخم الذي كان (لحظي البائس) ممتلئاً أو شبه ممتليء بالزبائن.

لم أكن قد رأيت الدكتور سابقاً، ورحت أفتش بعيون عجلة على "سحنة شرقية" دون جدوى. مر نظري على وجوه القوم الجالسين وأنا أمشي دون أن أستطيع رؤية وجه واحد له ما للدكتور "في مخيلتي" من صفات.

كان المقهى عبارة عن صالتين ضخمتين ذرعتهما جيئة وذهابا وحيرتي تزداد. فالدكتور حتماً هنا ولكن أي هذه الوجوه هو وجه الدكتور؟

في الصالة البعيدة، وفي ركن ركين، شاهدت رجلاً يحدق أمامه ويمسك "سيجاراً" بيده. تذكرت – وللذاكرة خيانات - بأن "طارق القداح" كان قد قال لي بأن الدكتور يدخن "السيجار". صحت في داخلي "وجدته"، واتجهت صوب الرجل صاحب "السيجار" وأنا شبه مقتنع بأنه هو الدكتور جمال. ولكني بين هذا وذاك كنت قد تعلمت من "الدرس" مع "مالك الحزين" بعض الاحتراز، وبحثت عن وسيلة أعد بها "للحدثان سابقة وعداء علندى" واحفظ بها "خط الرجعة". وضعت سيجارة بين شفتي وذهبت إلى حيث الرجل صاحب "السيجار" واقتربت منه بحيث لفت جسمي الضخم انتباهه. نظرت إليه وأنا ألمح صحيفة فرنسية بين يديه وأقول متداركاً: هل لي أن أطلب منك ناراً لسيجارتي يا سيدي؟

لقد وشت لي الصحيفة "الفرنسية" بأن الرجل ليس "جمال الصباغ"، فالدكتور جمال لا يعرف من الفرنسية ما يخوله لقراءة صحيفة. ولكني لم أكن سعيداً باكتشافي "الغبي" هذا، فما زلت واقعاً في نفس المشكلة، وما زال السؤال القائل: أين هو الدكتور؟ يبحث في عيني عن إجابة.

قادني ذكائي إلى التكنولوجيا، فأخذت طاولة وطلبت فنجان قهوة وقلت في نفسي: سوف أتصل الآن بالدكتور جمال، وسوف "يرن جرس تليفونه" فأحدد وجهتي في هذا المقهى المترامي الأطراف.

طلبت رقم الدكتور وبدأ جرس الهاتف بالرنين، ولكني سمعت أكثر من رنين آتياً من أماكن بعيدة عني في المقهى. قلت: "شو هالفيلم الهندي هذا؟" ثم طلبت الرقم ثانية فلم أسمع شيئاً. نظرت متأففاً إلى الطاولة التي بجانبي وأنا أتنهد فرأيت رجلاً يقرأ في صحيفة "القدس العربي" وفي فمه "غليوناً" يقبض عليه برؤوس أصابع يده اليمنى. وما أن التقت عيناه بعيني حتى عرفنا بعض. فلقد كان الدكتور هناك حقاً، ومررت أمامه مرتين أو ثلاثاً، ولكني لم أنتبه للصحيفة العربية التي يقرأها، ولم يكن شيئاً في قسمات الدكتور بمستطيع أن يبوح بأصله الشرقي "البدوي". فالقامة الفارعة ولون العينين الأخضر والشعر الكستنائي لم يكونوا في قائمة الصفات التي "رسمتها مخيلتي" قبل أن تجد عيناي الطلب في إثرها.

**************

(2)

الشمس تطل، بين الفينة والفينة، على استحياء، وهذا الطقس الشبيه بالقصيدة العمودية المختلة الوزن يزعجني. أبحث عن متعة وقتية عبر سيجارة المارلبورو وشريط "زجل لبناني".

لائحة خضراء على الطريق تعلن عن وصولي إلى "فرايبورغ" (إيم بريسغاو). ترتسم في مخيلتي صورة الكاتدرائية القوطية والشوارع العتيقة الضيقة المبلطة النظيفة. أبتسم وأنا أتذكر حادثة قديمة وقعت لأحد "بلدياتي" مع هذه المدينة. فلقد حصل صاحبنا – قبل بضعة وعشرين عاماً - على "منحة دراسية" من الكنيسة كي يتابع تعليمه في جامعة فرايبورغ. أعطاه "الخوري" المسؤول عن المنحة يومها عنوان "السكن" الذي يوفر له النوم والطعام والشراب، وحجز له تذكرة سفر إلى "زوريخ"(سويسرا) موصياً إياه بقوله: من "مطار زوريخ" تستطيع أن تأخذ قطاراً يقلك إلى "فرايبورغ" خلال ساعتين، ثم تقصد هناك "منزل سانت جوستان" الكائن في "شارع جورا رقم 3" حيث يكون الكاهن " فونفيك" بانتظارك.

حفظ صاحبنا اسم "الكاهن" الألماني جيداً، واعتبر "الطريق" من التفاصيل. نزل في مطار "زوريخ" واشترى تذكرة إلى "فرايبورغ" وقضى الطريق مسحوراً بخضرة أوروبا ومياهها الوفيرة.
في "فرايبورغ"(إيم بيرسغاو) نزل في محطة القطار وركب "التاكسي" وأعطى السائق "العنوان الذي يحمله". لم يعرف السائق أين هو "منزل سانت جوستان" ولا أين يقع شارع "جورا" في المدينة. أصر صاحبنا على "صحة المعطيات" التي بحوزته، فسأل السائق زملاءه الذين أنكروا أن يكون هناك مثل هذا الشارع في المدينة، أو حتى مثل "منزل الطلبة" الذي يقصده.

وقع صاحبنا في حيص بيص، وضرب كفاً بكف، ولم يدر ماذا عليه أن يفعل بالضبط. حاول الاتصال بالكاهن الذي أعطاه العنوان فلم يلق جواباً. شتم الكنيسة ورجال الدين وشرع ينقم على العذراء و السيد المسيح فلم يحل مشكلته. أحس بالجوع، فتوجه إلى "كشك" صغير في الشارع كي يبتاع منه شيئاً يقيم أوده، وهناك عرف من البائعة سر مشكلته. فالبائعة أصرت على أن ينقدها "ماركات ألمانية"، وهو لم يكن يحمل إلا "فرنكات سويسرية". رضيت البائعة بمبلغ إضافي قليل، وتفاجأ صاحبنا بأنه في "المانيا"، هو الذي كان يظن نفسه بأنه ما زال في سويسرا. "ففرايبورغ" إسم تحمله مدينتان، واحدة تقع في سويسرا (بجانب العاصمة برن) والأخرى في "المانيا"، والاثنتان تبعدان عن "زوريخ" – تقريباً – نفس المسافة. وكان صاحبنا، على غير دراية منه، قد قصد المدينة الألمانية بدلاً من السويسرية. وكان عليه أن ينفق نصف ما يملكه من نقود كي يعود إلى "فرايبورغ" السويسرية.

******

"زين شعيب" يغني "عتابا". و"زين شعيب" عندي – مع أسعد سعيد وإدوار حرب – سيد من أبدعوا في هذا الفن الشعبي الذي يعتمد على الجناس. أتذكر "جبران خليل جبران" في مقالته:"قفوا قليلاً كي أريكم أبناء لبناني" حيث يعرج على ذكر هؤلاء الزجالين الذين يمسكون الحرف والصورة، بتلقائية ونزق، فيخرجون لوحات وأفكار هي آية في السحر والجمال والعذوبة والحلاوة والطلاوة.

أتذكر بأن "جبران" نفسه كان يحاول هذا الفن الشعبي الآسر ويطاوله ويترك لنا بعض قطع "أبو الزلف" الخالدة. وأتذكر بأن جميع أعضاء "الرابطة القلمية" كانوا يحاولون نظم الزجل في رحلاتهم و"مشاويرهم". هذا ما يحدثنا به "ميخائيل نعيمه" في "سبعون".

أغص قليلاً وأنا أسمع "زين شعيب".. فالرجل قد مات قبل شهور ثلاثة فلم يسمع بموته أحد، اللهم إلا بضعة كلمات قليلة نثرها بعض الصحفيين، في صفحات داخلية لجريدة محلية تخبر عن رحيل هذا العملاق الفذ الذي سحر، عبر عقود، قلوب وعقول مئات الآلاف من هواة الزجل اللبناني.

رأيت "زين شعيب" في "مونتريال" سنة 1990، ولم أجد أحداً حتى اليوم يستطيع أن يقول مع المتنبي:" أنام ملء جفوني عن شواردها" مثل هذا الرجل. فالقصيدة "تنهمر" في خاطر هذا الشاعر قبل أن تتدفق على لسانه بعفوية وسلاسة عجيبتين. الشعر عند "زين شعيب" مثل الضوء في الشمس والحرارة في النار والبرد في الجليد؛ جزء لا يتجزأ من كيان هذا الشاعر الفذ، لا يقيّد له الأوابد ولا يركب له السوانح ولا يجد في طلبه ولا يكد في أثره، بل تراه يأتيه منقاداً فينثال على شفتيه موسماً إثر موسم، كل منها حافل بالخير والعز والعطاء.

******

"ستراسبورغ" على مبعدة 56 كم، هكذا تقول اللائحة الزرقاء المنتصبة على جانب الطريق... تذكرت "العربية السعيدة" ...

رأيت اسم "آرابيا فيلكس" لأول مرة في "نادي الفكر العربي". ولكني ابتدأت بالتشوق لمعرفة "وميض" من خلال اللقاء معها في ساحة "لقاءات". بدت لي هذه الفتاة مختلفة جداً عن هذا الوجه "الفيمينستي" الذي تصر عليه. ربما كان انطباعي عن "الفيمينيستيات" خاطيء، ولكن الوجه المكفهر العابس والحديث الجاد اليابس و"الاسترجال" – كما يفهمه الذكر العربي – والنكد والجدل البيزنطي هو ما كان يحضر إلى ذهني كلما جيء باسم "الحركات النسوية" أمامي.

حقاً، كنت متعاطفاً مع النساء وحرياتهن ومساواتهن، ولكني لم أهضم يوماً الشطحات البعيدة في الموضوع، ولم أستسغ تلك "الحرب الجنسية" التي تشنها بعض "بنات حواء" بتطرف وحقد غريب. ولقد أثلج صدري وأنا أرى بأن "سيمون دي بوفوار" نفسها تأخذ في كتابها "الجنس الآخر (الثاني)" نفس المآخذ على بعض "متطرفات" الحركة النسوية، وترفض في مقدمة مؤلفها الذائع الصيت أطروحاتهن الغوغائية الهوجاء.

تابعت اللقاء مع "وميض" على صفحات النادي، وأنا ألمس خلف هذا الخطاب "الجندري" الجاد المناضل من أجل حقوق المرأة ومساواتها، نفساً طيبة رقيقة حساسة، ودماثة حلوة لطيفة. وبين هذا وذاك قدرة هائلة على نسج علاقات وتكوين صداقات وبناء شبكة اجتماعية عريضة.

استقر في وعيي وأنا أتابع اللقاء مع "وميض" بأنها تستطيع أن تكون سفيرة ممتازة للمرأة العربية. لوعيها بمشاكل النساء العربيات، وإيمانها بضرورة تعديل وضعهن، وقدرتها الخصبة على العمل الاجتماعي والتنظيمي، وعدم ركوبها الشطط في نظرتها إلى الرجل.....

ولكن "وميض"، عندما عرفتها أكثر، لم تكن هذا فقط ، أو قل بأن هذه الخصال ليست هي أكثر ما يعنيني في "وميض".

******

رغم صوت الشريط الزجلي الذي أتابعه، فلقد قفز إلى أذني شبه ضجيج آت من عجلات السيارة. رأيت موقفاً معداً لراحة المسافرين فركنت سيارتي وشرعت أتفحصها. "لا شيء هناك ذو بال"، قلت لنفسي. غسلت وجهي وشربت بعض الماء البارد وألقيت نظرة متفحصة على الخارطة.

كنت ما أزال في ألمانيا، وعليّ بعد كيلومترات قليلة أن أترك الطريق السريع واتجه نحو الغرب إلى "ستراسبورغ" الفرنسية. أشعلت سيجارة وأدرت المحرك وعركت "أذن راديو السيارة" فتوقف عند "محطة جديدة" اسمها "راديو جوداييكا". تعوذت وحوقلت وقلت لنفسي: حتى هنا؟

تذكرت بأن "الجالية اليهودية" في هذه المنطقة لها أهميتها. أولم يقم الصهاينة مؤتمرهم الأول لتأسيس دولتهم في "بازل" سنة 1897؟
الراديو صهيوني مئة بالمئة، ويعرف كيف يضع السم في الدسم. كان هناك برنامج شبه تاريخي يحكي عن المصاعب التي واجهها "الحالوتسيم" (الاسرائيليون الأوائل) في استيطانهم لفلسطين. كان البرنامج يتحدث عن "الأرض الوعرة الخالية والفلاح اليهودي" الذي انتصر على صعوبة المكان، وأصبحت الأرض على يديه تنتج "حليباً وعسلاً". لم يكن هناك "دعاية رخيصة" أو لهجة "خطابية" - ألفناها نحن العرب في إعلامنا -. ولكن البرنامج كان يطوي الجمل والفقرات بلؤم وخبث واضحين. كان يحاول أن يكون موضوعياً في عرضه للتراث "الاسرائيلي الصهيوني"، ولكنه لم يفعل سوى التركيز على النقاط التي يريد، وترك الكثير من مفارق التاريخ الرئيسية خلفه، ولعلي خلال الدقائق المعدودة التي استمعت بها لهذا البرنامج، لم أسمع أي ذكر لعربي واحد يعيش على تلك الأرض في ذلك الزمن..

لم أستطع أن أتحمل أكثر. أخرست المذياع بقرف ورحت أقود سيارتي بتؤدة وأنا أنظر حولي جيداً. فلقد وصلت "ستراسبورغ" وعلي أن أهتدي إلى الفندق الذي كنت قد حجزته مسبقاً.

**********

(3)

في "فقرا"، في لبنان، كان "موسى زغيب"، شاعري الشعبي المفضل، ينظر إلى آثار الفينيقيين القديمة ويقول:
"تعي يا مملكة فقرا المُهابي
افتحي بابك، أنا ردّيت بابي
وظلّي نَكِوْشي بْهاك الحجاره
تا يحكي الصمت بالطين الترابي
شو راكع زلْم عادروب الإماره
وشو صاهل خيل، عاهاك الروابي
وبهاك الأقبيه بليل السكارى
شو مال خصور، شو تدلدق خوابي "

كنت أردد هذه الأبيات و"ستراسبورغ" تكشف نفسها لي، فالعراقة تذكرك بالعراقة، والجمال يأخذك نحو الجمال، والتاريخ يستلهم التاريخ.

ليس "لستراسبورغ"، وأنى لها هذا، مجد الفينيقيين وفتوحاتهم. فهي مدينة صغيرة قابعة على الحدود بين فرنسا وألمانيا. وما كانت يوماً لتطاول "باريس" إشعاعاً و"لندن" عظمة و"برلين" قوة و"روما" أمجادا، كي نقارنها بشواطيء جبيل وصيدا وصور. ومع هذا فلستراسبورغ نسب مع التاريخ، ولها عراقة وأصالة وصلة قرابة "وهمية" بالفنينيقيين. فهؤلاء البحارة الذين سكنوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط هم الذين صدّروا الحرف عن شواطيء "صور وصيدا" إلى "أوروبا". فالرواية تزعم بأن "قدموس" الفينيقي هو الذي حمل الأبجدية إلى بلاد الشمال، وأن أخته "أوروب" هي التي منحت "أوروبا" اسمها. ولكن ما علاقة هذا بستراسبورغ بالذات؟

علاقة وهمية كما قلنا، فستراسبورغ هي أيضاً البلد الذي أقام به "يوحنا غوتنبرغ" عشر سنوات، طور فيها "آلة الطباعة" التي مهرت الحرف ثورته العظمى، وأتاحت للمعارف الشيوع والذيوع والانتشار بشكل لم يعرف له التاريخ مثيلا.

كنت أقول لنفسي هذا وأشعر بوحدة الحضارة وتكامل المعارف الإنسانية وبعضاً من زهو وتيه وخيلاء يهب بين جنباتي. "فالجليل" الذي أنا منه كان جزءاً من "فينيقيا" القديمة، والعرب الذين انتمي إليهم هم صلة الوصل بين آلة "هانس غينسفلايش"(يوحنا غوتنبرغ) والأبجدية التي رحلت عن شواطيء شرق المتوسط. فالعرب هم من أتى "بالورق" من الصين في القرن السابع للميلاد، وهم من عممه مطية للأقلام والمحابر.

***************

عبرت من ألمانيا إلى فرنسا خلال عشر دقائق أو بالكاد. لم يكن هناك شيئاً يقول لي بأنني انتقلت من بلد إلى آخر. اللهم سوى بناية "مهجورة" للجمارك الفرنسية على الحدود.

لو عاد ملوك فرنسا إلى هنا لما فهموا شيئاً. ولو قفز "أوتو فون بسمارك" وقيصره "ولهلم الأول" من قبريهما لتعجبا أشد العجب. فرسم حدود "ألمانيا" كلف "بسمارك" حرباً ضروساً مع "النمسا" (1867) والقضاء على امبراطورية "نابليون الثالث" الفرنسية (1871). أما توسيع هذه الحدود، فلقد دفعت ثمنه عائلة "الهوهينزوليرن" الحاكمة عرشها (1918) ، قبل أن يتم تدمير "الرايخ الثالث" تحت مدافع الحلفاء وطائراتهم في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع هذا، فهأنذا أعبر من ألمانيا إلى فرنسا، في منطقة الألزاس التي تنازعت عليها الدولتان 300 سنة دون أن يستوقفني أحد. فالأرض التي مات الملايين من أجلها، على مدار قرون ثلاثة، لم تعد تعني إلا سكانها.

اللائحة الخضراء تقول بأنني في ستراسبورغ. صعدت فوق جسر واسع على نهر كبير وأنا لا أعرف من أين أدخل إلى المدينة، ولكن حظي أسعفني وأنا أرى اسم الفندق، الذي حجزت غرفة فيه، يتلألأ أمامي. تهللت وقلت: "رب صدفة خير من ألف ميعاد" ثم أوقفت السيارة، وأخذت غرفتي وارتحت قليلاً قبل أن أحاول الاتصال "بوميض".

***************

عرفت "العربية السعيدة" من خلال "نادي الفكر العربي"، ولكني عرفت "وميظ" من خلال "الماسينجر العظيم". هذه الواجهة الأثيرية الصغيرة التي لعبت دوراً رئيسياً في حياتي في السنين الأخيرة.

قبل ساحات الحوار والماسينجر كان هذا العالم الافتراضي، بالنسبة لي، موسوعة سيئة تنام على رفوف مكتبة كبيرة، أفتحها كلما احتجت لمعلومة سريعة غير موثوقة أو لهروب معرفي غير محدد الاتجاه. قبلهما، كنت أتعامل مع الانترنت كتعاملي مع التليفيزيون والراديو والتليفون ووسائل الاتصال الأخرى؛ أحاول استغلال هذه الأدوات العصرية في النهوض لشؤون معيشتي، ولتمضية بعض أويقات الفراغ في قراءة الصحف العربية والعبرية، أنا البعيد منذ دهر عن الضاد وأهلها وعن بلادي وأحداثها.

مع ساحات الحوار أصبح هذا الجهاز "المخزن | المتجر" بائع يقايضك، فيأخذ منك ما يريد ويعرض عليك ما في دكانه. أما مع "الماسينجر" فلقد تحول القبوع خلف الشاشة إلى جلسة سمر و"قعدة" دافئة حول نار تغازل "تشرين" وتحنو على "كانون".
ساحات الحوار أرتني الكتّاب، وهدتني إلى من يحسن تنضيد الحرف ويتقن صناعة الكلمة ويقيم أود الفكر، أما الماسينجر فعرّفني على أصدقاء وأحباب وخلان وجدت عندهم الكلمة اللطيفة والنادرة الذكية والجو الألِق.

ساحات الحوار خاطبت عقلي وحركت خلاياه، أما الماسينجر فحادث روحي وصادق نفسي وأصبح لي كعبة أقتبلها في كثير من الأمسيات. وبين هذا وتلك، تكشّف العالم الافتراضي عن عالم حقيقي، واقترب غير المحسوس من المحسوس، فأصبح لجلوسي أمام الكمبيوتر مشاريعاً وقصصاً وتاريخاً وذكريات.

مع "ساحات الحوار" تستطيع أن تتجمل وأن تتقنع – رغم الصعوبات- بل وتستطيع أن تكون "غيرك" - لفترة ما-. أما مع الماسينجر فلسوف تجلس بعد سويعات أمام محاورك دون رتوش، ولسوف تستصعب أن تبيع "الخل" بسعر "النبيذ" أو أن تخفي وجه "توفيق الدقن" خلف قناع "لليوناردو دي كابريو".

************

كان موعدي مع "وميض" في السادسة مساء. ولكني كنت أقبع منذ الساعة الرابعة بعد الظهر في مقهى شعبي يحاذي سكنها الجامعي. فلقد خرجت مبكراً خشية على نفسي من "تيه بني إسرائيل" في مدينة لا أعرفها. ولكني وصلت – بقدرة قادر وعون من "خريطة" مفصلة – بسهولة وسرعة ويسر.
جلست في المقهى برفقة كتاب لأمين معلوف وكأس من "الجعة"(البيرة) وسيجارة "أحرقها وتحرقني" بتؤدة واتزان. وما هي إلا لحظات حتى كان "موبايلي" يطالعني بصوت "وميض" وهي تسألني إن كنت أستطيع أن أراها قبل موعدنا. أجبت: عشر دقائق وأكون عندك.

عندما وصلت إلى السكن الجامعي كانت "وميض" عندي عبارة عن صورة وصوت وأحاديث ماسينجرية كشفت لي عن تشابه كبير بين "آرابيا فيلكس"؛ الكاتبة في "نادي الفكر"، وبين "وميض"؛ الفتاة اليمنية الناهضة لشؤون مجتمعها. ومع هذا "فوميض" كانت أكثر صفاء من "العربية السعيدة"، وفي صوتها جرعة هدوء واطمئنان تزيد قليلاً عن حديثها المكتوب على واجهة الماسينجر.

بلغت باب غرفتها وأنا أرسم لنفسي "سيناريو" يجعلني أنقر على الباب كي تفتح لي فتاة سمراء شعرها "حالك كالغداف جثل دجوجي" فأبتسم وأنا أرى نظرتها المتهيبة وأقول ماداً صوتي: وميـــــــــــــــــــظ ...
ولكن هذا لم يحدث، فعندما بلغت الطابق الرابع (على ما أذكر) وجدت إلى يمين المصعد باباً مفتوحاً، وسمعت صوت رجل قبل أن أصل الغرفة وأرى فتاة محجبة جالسة باتزان ووقار.
كانت "وميض" خلف الباب المفتوح، وكان لديها صديق وصديقة من اليمن يحادثانها. وسمعتها تهتف باسمي وهي تنتبه لوقع خطواتي على الباب ..... وكان لقاء جميلاً.

********************

أمضيت "راس السنة" في "ستراسبورغ" في مطلع الألفية الثالثة (قبل خمس سنوات)، وكنت ما زلت أذكر "كاتدرائية" المدينة الضخمة والحي الشاعري الذي يحيط بها. تذكرت وقتها أنني شعرت بمثل هذه النسمات العلوية التي ترف على هذا الحي الرومانسي، عندما زرت للمرة الأولى – في الثمانينات - كنيسة القلب المقدس وما يجاورها، على تلة "مونمارتر"، في باريس. يومها أحسست بدفيء خاص وأنا أجول بين الرسامين في تلك الباحة، وشعرت – داخل مبنى الكنيسة - براحة وهدوء وسعادة واطمئنان عندما عبثت بأنفاسي رائحة البخور المتشبثة بأركان هذا الصرح المعماري الضخم الذي بناه الفرنسيون كفارّة عن ذنوبهم بعد انسحاق بلادهم أمام "قيصر بروسيا" سنة 1871.
نفس الشعور سوف يتملكني – بعدها - في كنيسة القديس يوسف (سانت جوزيف – على ما أذكر الإسم) في مونتريال. أما ستراسبورغ فقد كان وقع "حيّها الرومانسي الشاعري" أكبر أثراً في نفسي من رائحة بخور كاتدرائيتها الضخمة الكالحة المائلة للحمرة.

حدثت "وميض" التي اتخذت مقعدأً بجانبي، في السيارة، عن الكاتدرائية والحي الذي يجاورها، ثم ذهبنا نفتش – على الخريطة - عن كيفية الوصول إليه.

المدينة القديمة في ستراسبورغ عبارة عن جزيرة صغيرة يحيط بها نهر "الإيل". سرنا باتجاهها حتى برز لنا النهر بكنائس قديمة أقيمت على ضفافه. أوقفنا السيارة ونحن نتفحص اسم الشارع كي لا نتوه عنه عند عودتنا، ثم بدأنا المشي بجانب النهر.

في الأفق شاهدنا كنيسة حمراء ضخمة، فقلت لوميض، باطمئنان العارف وابتسامة الدليل المجرب: تلك هي الكاتدرائية، هيا بنا نحوها.

وصلنا الكنيسة ولا شيء يذكرني بهذا "الجو الشاعري الخاص" الذي أسرني قبل سنوات خمس. لم يكن هناك مطاعم ولا حانات ولا حتى سابلة. قلت لوميض: هل من المعقول أن نكون قد أخطأنا الكاتدرائية؟

أجابت بقناعة وثبات وبرود شبه عاتب: هذه كنيسة ضخمة بالنسبة لستراسبورغ، ومن الأكيد أن ليس في مدينة صغيرة مثل هذه، كنيسة أكبر منها.... هيا بنا.

سلمت أمام جهلي بمكان الكاتدرائية وحجة "وميض" المنطقية جداً، وسرنا مع النهر عائدين. في الشارع، بدأت أنتبه أكثر إلى حال هذه "العربية السعيدة" التي أحسست منذ أن قابلتها بأنني أعرفها منذ دهر. "فوميض" لا تترك لك مجالاً لغربة الأحاسيس، تقابلك ببسمات دائمة وتتصرف بعفوية وبساطة وتلقائية. لا مكان عندها "لبروتوكولات الوقار" العربية الكلاسيكية، فهي مملوءة بدهشة طفولية وحياة متدفقة. تعرب عن فرحتها وسعادتها لكل منظر جميل تلتقطه وتتعامل معه بانفتاح أخاذ. هكذا رأيتها تصرخ ابتهاجاً عندما أبصرت النهر على حدود المدينة القديمة. وهكذا اندهشت وأنا أراها تلوح بيديها، لركاب القارب السياحي الكبير الذي كان يتهادى فوق ماء النهر، بجذل وفرحة غامرة.

عبرنا النهر إلى الضفة الأخرى وتوغلنا شيئاً فشيئاً في المدينة القديمة، وبدأ ذلك "الجو الخاص" الذي أحسسته مرة في ستراسبورغ يتشكل ويتمايز ويعرب عن نفسه؛ كانت هناك البيوت "الألزاسية" التقليدية الجميلة بسقوفها الرمادية والسوداء وورودها التي تزين النوافذ وتمنحها طابعاً خاصاً. وكانت هناك الشوارع النظيفة الضيقة المبلطة التي تحف بها المطاعم المختلفة التي تزداد حضوراً وكثافة وأناقة مع سيرنا بالاتجاه الشمالي الغربي.

بضعة خطوات أخرى جعلتنا نحس بازدياد عدد الناس، وجو من البهجة يغمر المكان. وما أن استطعنا رؤية جزء من بناية ضخمة تشربت الحمرة، حتى رأيت "وميض" قد انقلبت بكل جوارحها إلى كتلة من الدهشة والانبهار. لقد كنا أمام "كاتدرائية" ستراسبورغ.

لم يكن أي منا يحمل "كاميرا". ولكن "موبايل" وميض كان حاضراً كي يخلد هذه اللحظات الجميلة.

اتخذنا مقعداً تحت إحدى مظلات مطعم إيطالي مقابل الكاتدرائية. كانت الساعة قد قاربت السابعة مساء فتناولنا طعام العشاء ونحن نتجاذب أطراف الحديث، ونمزج بعض السياسة ببعض الاقتصاد وبعض الأدب والكثير من "النسويات". فوميض لا تبارح اهتمامها بشؤون المرأة في أي مكان. بل تراها، مثلاً، تفتش على اللون البنفسجي (لون الشعار الفيمينيستي) في كل شيء، وتتمناه أن يكون لو لم يكن موجوداً. أذكر في طريق عودتنا بأنها قطفت زهرة صغيرة بنفسجية اللون وقالت لي وهي تقربها من أنفي: شم هذه قليلاً.
لم أشعر بأي شذا أو رائحة أو عطر، ولكني لم أعرف كيف أرد. فقالت: لا رائحة لها، أليس كذلك؟
قلت متلعثماً: لا ..
قالت: غريب ... مع أنها بنفسجية ...

بعد العشاء أخذنا نفتش عن مكان نستطيع به أن ندخن "الشيشة"(الأرجيلة) ونقضي سهرة جميلة. ولكن كيف سنهتدي إلى مثل هذا المكان؟ من نسأل؟
رأت "وميض" بعض النسوة العربيات المحجبات فاتجهت نحوهن وسألت بابتسامة عن "قهوة للأرجيلة" في البلد. وصفن لنا النسوة مكانا قريباً عندما وصلناه قال لنا صاحبه بأن علينا أن نقصد الحانات في مواجهة المحطة المركزية.

أخذنا السيارة وسرنا. أمسكت وميض بالخارطة وحاولت أنا أن أراقب يافطات الشوارع، علنا نهتدي. ولكن وصول المحطة كان سهلاً على الخارطة فقط، و"الإيدو بالمي مش متل اللي إيدو بالنار".

كنا بحاجة إلى صبر أيوب ونحن نلف ونلف ثم نعود إلى حيث كنا. ومع هذا، فبعد "صبر ساعة"، وصلنا المحطة. وجبنا الحانات التي حولها فلم نظفر ببغيتنا، وعدنا، نلم خيبتنا، بخفي حنين.

لم يبق سوى العودة، إلى السكن، كي نسهر ونسمر ونتسلى ونقضي وقتاً رائعاً نتعرف به على بعض أكثر وأكثر.

***********

صباح اليوم التالي كان علي أن أرحل باكراً. هاتفت "وميض" من الفندق، وودعتها على التليفون ... ومضيت.

في الطريق، كنت على يقين من ملاحظتين عن "وميض" ودرسين تعلمتهما منها، فضلاً عن الوقت الرائع الذي قضيته بصحبتها. كانت الملاحظة الأولى تقول بأن "العربية السعيدة" تزداد جمالاً وروعة وألقاً وإشراقاً كلما اقتربت منها أكثر؛ فهي قصيدة عميقة عليك أن تقرأها مرة ومرة ومرة، وفي كل واحدة منها تستكشف بعداً آخر ومعان قد فاتك كنهها.

الملاحظة الثانية تقول بأن تلقائية وميض وعفويتها تترافقان مع نظرة حادة وبصيرة نافذة وقلب ذكي. ومسكين هو من يظن بأنه يستطيع أن يقضي بعض الوقت في صحبة هذه اليمنية السمراء دون أن يصبح أكثر شفافية من ماء المطر فوق صخور الجبال.

علمتني "وميض" في هذا اللقاء بأن أحاول كسر حواجز التهيب مع الآخرين والانفتاح على الآخر، الذي لا أعرفه، من خلال ابتسامة وبساطة وقلب مطمئن. وهي علمتني فوق ذلك، من خلال الحديث المتأني الطويل، وبعض التصرفات العادية، بأن أكون هادئاً في التعامل مع نفسي ومع الآخرين ...


واسلموا لي
العلماني

09-07-2005, 01:04 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  لقاء في المدينة تروتسكي 29 4,517 01-02-2014, 03:53 PM
آخر رد: Jerry
  يافا، حيفا، عكا والعلماني.. وأشياء أخرى Jerry 32 7,870 09-26-2012, 07:31 PM
آخر رد: العلماني
  مقاه زمان (في بيروت ... ولربما في أمكنة أخرى بعدها ) .... العلماني 2 1,158 06-07-2012, 02:29 PM
آخر رد: العلماني
  الجوكر و أنا و أمور أخرى NigHtMaRE 11 2,659 06-30-2011, 03:14 AM
آخر رد: الجوكر
  دعاء إفتتاح لقاء القمة العربية vodka 3 1,252 03-17-2011, 12:55 AM
آخر رد: بهاء

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS