{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 1 صوت - 5 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #31
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب

في نقد الفكر الإصلاحي: نموذج عبد المجيد الشرفي ( ج 1 )



بقلم إبراهيم أزروال
تاريخ النشر: 2008-05-06
عن الأوان


والكلام،
بعضه ألفاظ كمثل أشداق وحشية،
وبعضه قيود
لا لأعناق البشر وحدهم،
بل كذلك لأعناق النجوم .

أدونيس
تنبأ أيها الأعمى

تعيش الفضاءات الثقافية الإسلامية، راهنا، حالة من التمزق الفكري والشيزوفرينيا الثقافية المعممة ونقض مهول في العقلانية المعلمنة والمجردة عن السمات اللاهوتية. لقد اختارت النخب الثقافية المعلمنة نسبيا والمنفتحة بدرجة أو بأخرى، على الثقافة الغربية وعلى مواقفها التحليلية والنقدية للظاهرة الدينية وللحدث المسيحي ولشخصية المسيح، عقد مصالحات جزئية مع التراث ومع النص المؤسس وتسريب المكتسبات الإبستيمية والمنهجية والإجرائية للعلوم الاجتماعية والإنسانية إلى التربة الإسلامية بكثير من الحذر ومن استعطاف المؤسسة الأرثوذكسية المهيمنة ثقافيا، والمتحالفة في الغالب مع السلطة السياسية، والمتغلغلة في الوجدان الجماهيري الميال إلى الأسطرة والأمثلة والانقياد للقادة الدينيين الكاريزميين. إلا أن التأويل التصالحي مع الذاكرة الثقافية ومع المخيال الديني ومع الوعي الجمعي، كثيرا ما قاد المفكرين الإصلاحيين إلى مواقع غير مريحة معرفيا ومنهجيا، والى وضعية سوسيو- سياسية مترنحة، مما أدى بالكثير منهم، إلى اعتناق المواضعات التراثية الأكثر سلفية ومنافاة لمقتضيات العصر، بعد انطفاء حماس البدايات، باسم التصالح مع العمق التراثي / التاريخي، وباسم الإخلاص للمثال والطوبى القرآنيين.
سنركز في هذه المناولة على مؤلفات الدكتور عبد المجيد الشرفي وخصوصا على كتاب (الإسلام بين الرسالة والتاريخ )، بالنظر إلى غناها الدلالي واحتوائها على تركيب فكري خصب، وعلى محاولة تأويلية للجمع بين الدين والحداثة في عصر ما بعد الحداثة وانتهاء الزمان الثيولوجي /الايطيقي.
هل أفلح الشرفي فيما فشل فيه الإصلاحيون ؟ سؤال سنجيب عنه، عبر استشكال نصوص للشرفي ونقد لمضامينها وإستراتيجيتها التأويلية ومؤداها الفكراني.

1-اللاهوت والناسوت:
" إلا أن أحد الأقوال التي أوردها السيوطي في الإتقان يذهب إلى " أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلعم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب "، ولم ير في هذا القول كفرا أو مروقا من الدين. وهو في الحقيقة أقرب المواقف من المعقولية الحديثة، ولعله يصلح منطلقا لتفكير متجدد منسجم في الوحي، غير مقيد بالنظريات الموروثة بدعوى ما حصل حولها من إجماع، ويحافظ في القرآن على بعده الإلهي المفارق من دون تجسيم، وعلى بعده البشري الطبيعي بتاريخيته ونسبيته، غير فاصل بين البعدين أو مقص لأحدهما أو مضخم له على حساب الآخر، كما هو الشأن في التصور "السني" السالب النبي إرادته وملكاته. أليست غاية الرسالة إشراك الناس جميعا في تجربة الإلهي expérience du divin التي عاشها النبي بامتياز !" (- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .37-38)
يعتقد الشرفي في إمكانية تجديد النظر في إشكالية مصدرية النص المؤسس، وإعادة مناقشة الرؤية السنية المهيمنة، وهي الرؤية السائدة والمتغلبة على باقي الرؤى منذ انتهاء فورة الفكر" العقلاني" في الإسلام الكلاسيكي وسيادة النظر السني بداء بالمتوكل. كما يعتقد أن التمييز في القرآن بين المعنى الإلهي واللفظ النبوي، يعيد الفاعلية الاعتبارية لمؤسسة النبوية ولشخص النبي من جهة ويتفق مع المعقولية الحديثة من جهة أخرى. ولا ينسى أن يشير إلى انفتاح بعض المفكرين القدامى وسعيهم إلى عقلنة تشكل النص المرجعي عبر استلهام مفاهيم فلسفية وأراء برهانية ( الكندي والفارابي وابن سينا ... الخ ) والى تمسك المفكرين المعاصرين في الغالب بآراء سلفية موغلة في تقديس القرآن واستبعاد أي رؤية عقلانية له نظير ما قدم المفكر الباكستاني فضل الرحمان مثلا.
والحقيقة أن تجديد التفكير في القرآن استنادا إلى الأطر الفكرية الحديثة، يستلزم الإشارة إلى نظرية خلق القرآن الاعتزالية. فالمعتزلة قالوا بخلق القرآن ، وانتمائه إلى مجال صفات الأفعال الإلهية لا إلى مجال صفات الذات. ومما لا شك فيه أن صفات الأفعال تمثل مجالا للتلاقي والتشارك بين الكائن المتعالي والعالم . فلا جدال في أن المعتزلة سعوا إلى عقلنة اللامعقول النصي بتأويل الكثير من المفاهيم اللاهوتية الإسلامية الغارقة في المتعاليات وإلى تدبر مفارقة النص للعالم من حيث المصدر ومن حيث البناء ومن حيث الدلالة تدبرا فكريا نظريا بعيدا عن سطوة التسليم السلفي.
وقد عزا البعض فكرة التمييز بين الكلام المنزه والألفاظ التشبيهية إلى يوحنا الدمشقي :
" وفي واقع الأمر ، فقد اعتمد يوحنا الدمشقي في " المناظرات " منهجا يفرق بين "كلمة " الله بمعنى " الخطاب " و" التفوه " به بمعنى " الألفاظ "، وكانت هذه المقاربة، تحديدا بمثابة البذرة الفلسفية التي زرعها الدمشقي في تربة المساجلات التي دارت رحاها بين أهل السنة والجهمية وصولا إلى المذهب الأشعري الذي وفق بين طرفي هذا الجدل بالقول إن خطاب الله قديم، بينما التلفظ بالقرآن مخلوق ". ( - دانييل ساهاس – الشخصية العربية في الجدال المسيحي مع الإسلام – الاجتهاد – العدد : 28- صيف – 1995- ص. 131) .
والشرفي يسعى إلى الفصل بين المحتوى المعنوي الغيبي وبين الصياغة اللغوية النبوية للخطاب المفارق، أي إنه نسب الكلام إلى الكائن المتعالي والألفاظ إلى الكائن التاريخي المتمثل في النبي. وهذا الرأي التراثي، هو أحد الآراء المطروحة في الأدبيات الكلامية والفقهية القديمة. يقول السيوطي: " وقال غيره: في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اللفظ والمعنى، و أن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها بقدر جبل قاف، و أن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله.
والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، و أنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب. وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: ( نزل به الروح الأمين، على قلبك ) [ الشعراء: 193-194].
والثالث : أن جبريل ألقى إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك " (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 118) .
ومن المؤكد أن السيوطي يتمسك بالرأي السلفي الرافض لأي تدخل أو صياغة نبوية للكلام المفارق لاعتبارات يوردها في قوله:
" والسر في ذلك: أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه. وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل" (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 120) .
يستند رفض السيوطي للصياغة النبوية للكلام المفارق القرآني إلى اختصاص هذا الكلام بالصفات التالية:
1- التعبد بلفظه،
2- الإعجاز بألفاظه،
3- تعدد دلالات حروفه.
فهو لا يرفض فاعلية النبي وصياغته الذاتية للكلام المفارق، بل يربطها حصريا بالسنة، وفق ما هو معتمد لدى أهل السنة خصوصا بعد صياغة الشافعي للأصول في (الرسالة ). ومن هنا، فإن تمييز الشرفي بين الكلام المفارق المنزه وصياغته اللفظية التاريخية النسبية، هو استعادة بطرق أخرى، لتمييز القدماء بين الكلام المفارق في السنة وصياغته اللفظية واللغوية النبوية.

لقد قاد الأزمة التشريعية وقلة نصوص الأحكام، الإسلام الكلاسيكي، إلى ابتداع نص متاخم للنص المؤسس، وإلى إضفاء صفات التقديس عليه، استنادا إلى تأويل تلويني لنصوص قرآنية مختارة بعناية فكرانية دقيقة. فقد ميزالقدماء بين المصدر المتعالي للسنة وصياغتها اللغوية البشرية، لفرض مصدر تشريعي آخر يسد ثغرة محدودية النصوص، ولفرض سلطات جديدة وتيارات جديرة في خضم صراع التأويلات بين التيارات الفكرية والسياسية المتطاعنة طيلة العصر الأموي والعباسي تخصيصا. ولا نعتقد أن نقل ذلك التمييز يمكن أن يستجيب لمعايير المعقولية الحديثة، كما يعتقد الشرفي، بالنظر إلى ما يلي:
1- قيام الرؤية الفكرية الحداثية على أرضية المحايثة والتاريخية، واستعمالها لجهاز مفهومي ولأطر ذهنية وفكرية منفصلة عن الأطر التصورية للفكرية اللاهوتية. فالتمييز بين المعنى الإلهي واللفظ النبوي في النص القرآني يقف على أرضية المفارقة أصلا ولا ينتمي إلى الإشكالية الحداثية القائلة بالتدبر المحايث المحض للنصوص، استنادا إلى منهجيات لسنية وفيلولوجية وسيميائية وتاريخية وأنثروبولوجية لا إلى مقررات المناهج الأصولية.
2- قيام التحليل المحايث العلماني للنصوص المقدسة على منهجية مختلفة عن المنهجية اللاهوتية الكلامية القائلة بالعقلنة والتسويغ العقلاني للعقائد الإيمانية الغيبية في حدود المسموح به لاهوتيا. وقد شكلت كتابات القديس أوغسطينوس والقديس طوماس الاكويني وموسى بن ميمون والجويني والغزالي والطوسي نماذج كلاسيكية في هذا السياق.
3- قيام المقاربة الحديثة للنصوص المقدسة على تغيير في المنظور وزاوية الرؤية والجهاز المفهومي والمنهجي. فالانطلاق من المنظور اللاهوتي لا يؤدي إلا إلى إجابات غيرعلمية وغير تاريخية مهما كانت الرغبة الإصلاحية للمؤول متأججة واستراتيجيته التأويلية معقدة ومركبة. ويمثل (القرآن والكتاب) لمحمد شحرور و(مفهوم النص ) لنصر حامد أبو زيد نموذجين دالين على صعوبة إقرار تمييزات بين الزماني ( الرسالة / الأحكام ) واللازماني / المطلق ( القرآن / النبوة ) وإقرار تاريخية النص في نهاية المطاف التحليلي.
4- يطرح التمييز السابق إشكاليات عويصة من الناحية الكلامية. فتمتيع الشخص المؤسس بالصياغة اللغوية للمعاني المتعالية ينطوي على إشراكه في الكلام المتعالي. والإشراك يعني، هنا، الانتقال بالشخص المؤسس من دور الوسيط الرسالي إلى دور الشريك الرسالي. وهذا الاستنتاج مخالف لقواعد الاعتقاد الإسلامي المعروفة وللأطروحة الإصلاحية القائلة بانتفاء الوسطاء في الاعتقاد الإسلامي كلية. علاوة على ذلك فإننا لا نعتقد أن قناعات الشرفي الواردة في كتابه المنقود تنحو هذا المنحى في النظر إلى الرسالة المحمدية " كما انه لا مجال لتناسي ما لم يفتأ الوحي يكرره المرة تلو المرة من أن محمدا أرسل مثل سائر الرسل وأنزل معه ما أنزل معهم من الكتاب " ليقوم الناس بالقسط " ، ليس سوى مذكر وشهيد وبشير ونذير ...." (- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .78) .
2-النقد التاريخي للنصوص المؤسسة:
" فإذا كان مصير الرسالة المحمدية مختلفا عن مصير رسالتي موسى وعيسى، حيث لم تدون التوراة إلا بعد قرون عديدة من موت موسى وإثر الأسر البابلي، ولم يدون الإنجيل إلا في روايات مختلفة لم تحتفظ منها الكنيسة إلا بأربع وامتزج فيها ما بلغه عيسى بأخبار حياته وكرازته، بينما دونت رسالة محمد بعيد وفاته وفصل فيها بين ما بلغه وما تعلق بسيرته، فتوافرت في المصحف من ضمانات الصحة ما لم يتوافرلما دون من الرسالتين السابقتين، فإن ذلك لا يعني اختلافا جوهريا في نوعية الرسالات الثلاث وفي المشاكل التي يثيرها التعامل معها، لا سيما بعد انتقالها من الشفوي إلى المكتوب، من القرآن إلى المصحف ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .43-44).
يبدي الشرفي جسارة واضحة في التعامل مع الكتاب المقدس مثل حنفي والنيهوم والطالبي، إلا أن تلك الجسارة ليست، تحقيقا، إلا إقرارا بالدغمائيات الأصولية المعهودة في أوساط الأرثوذوكسيات الإسلامية. فالإقرار بتحريفية الكتاب المقدس، في السياق الإصلاحي، هو تأكيد لتسرب اليقينيات الوثوقية للاعتقاد الإسلامية إلى صفوف الإصلاحيين، وعدم قدرتهم على إعمال النظر المنهجي في النصوص المؤسسة والتجارب القدسانية المعيارية بله استشكال الأصول المقررة في أوساط أمة الدعوة. فمن السمات المائزة للإصلاحية الإسلامية، هي تجريمها الشعوري أو اللاشعوري للتوراة والتلمود والأناجيل اليسوعية، وعدم تدبرها على نحو عقلاني لإنجازات النقد التاريخي للكتاب المقدس. والواقع أن مقررات الشاهد هي فكرانية كلامية، ولا تجد سندا معتبرا حتى في المصادر المرجعية الإسلامية بله المصادر العلمية الحديثة.
" ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين، قال : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وهو في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر. وإن قلنا : لم يكن حاصلا في ذلك الزمان، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 203) .
فالموقف العلمي يستلزم فحص النصوص المعيارية بدون استثناء وإخضاعها لقواعد النقد التاريخي بدون مفاضلات عقدية أو ثيولوجية أو طائفية من الطراز المعهود في كتابات الإصلاحيين الإسلاميين بدءا بالطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وانتهاء إلى النيهوم وحنفي والجابري والطالبي. فالحقيقة أن الإصلاحي لا يولي العناية الكافية للنقد التاريخي للكتاب المقدس. فهو يعتقد أن إشكالية ذلك النقد تقع خارج مجاله التداولي وخارج التناظر الفكري في الفضاء الثقافي الإسلامي. كما أن النتائج النقدية ، لتلك الكتابات الاستشكالية بله النقضية لشرعية وصلاحية الكتاب المقدس تدغدغ حساسيته العقدية وتساعده على تجاوز جروحه النرجسية وعلى الرد على الاستشراق الكلاسيكي والحديث المفكك لمفاصل الاعتقاد الإسلامي، ولأركان الثقافة الإسلامية عموما ( نيولدكه ورينان ورودنسون وكيطاني ........الخ ). فالنقد التاريخي للعهد القديم والعهد الجديد ينعكس ضرورة على القرآن، بالنظر إلى اشتراك هذه المصادر الاعتقادية في الثيمات والعوالم التداولية وفي اعتمادها على تأويل نص العالم ونص الإنسان ونص المفارق من منظور المفارقة.
وبناءا على ما تقدم، فإن التشكيك في وثاقة النص التوراتي والنص الإنجيلي، تشكيك متعد وليس لازما كما يعتقد الشرفي وحنفي والعشماوي والجابري. والواقع أن كتابات كمال صليبي " التوراة جاءت من شبه الجزيرة العربية " و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل " و"عودة إلى التوراة جاءت من جزيرة العرب " وشفيق مقار " السحر في التوراة والعهد القديم " وسيد القمني " النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة " ومحمد سعيد العشماوي " الأصول المصرية لليهودية " تمثل عينات ونماذج لأبحاث نقدية غيرت الكثير من المسلمات اللاهوتية عن التوراة والعهد القديم. ولا نعتقد أن نتائج هذه الأبحاث محصورة في التراث اليهودي، بل هي تمس التراث المسيحي والإسلامي، مادامت تمس الأصول المشتركة بين العقائد الثلاث.
فقد تمكن هؤلاء الباحثون من إقامة الأدلة اللغوية أو التاريخية أو النصية أو الأركيولوجية على التعالق النصي القائم بين التوراة والعهد القديم والنصوص المقدسة للثقافات والعقائد الوثنية القديمة بالشرق الأوسط القديم. وذهب كمال صليبي وزياد منى إلى إعادة قراءة جغرافية التوراة والى استشكال الكثير من اليقينيات الرائجة عن الفكر التوحيدي والتاريخ النبوي وعن الفضاء الأصلي للدراما الإبراهيمية:
"المنطقي إذن هو أن إله عرب الجاهلية ود، هو نفسه داود التوراة، والذي لم يكن ووفق قناعتي شخصا حقيقيا، وإنما أحد آلهة المعبد الوثني لبعض تجمعات بني إسرائيل قبيل تحولهم للتوحيد " . (- زياد منى – جغرافية التوراة – مصر وبنو إسرائيل في عسير – رياض الريس للكتب والنشر – الطبعة الأولى – يناير – 1994- ص 36) .
وعليه، فإن إثارة وثاقة النصوص المقدسة تطرح إشكاليات صادمة للوعي والوجدان التوحيديين طالما أنها تمس الفكرية الكتابية في الصميم. فالواجب المعرفي يقتضي، والحال هذه، لا إعفاء النص القرآني من القراءة العلمية المطبقة على الكتاب المقدس والتأكيد على استثنائيته التاريخية والثيولوجية ، كما يعتقد الجابري والشرفي والنيهوم وحنفي، بل استكشافه، تكوينا وتاريخا ودلالة وتداولا، من خلال مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعمول بها في الجامعات ومراكز الأبحاث الراقية.
نقرأ في( الإتقان في علوم قرآن ):
" قلت : قد ورد من طريق آخر أخرجه ابن الضريس في فضائله : حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن عكرمة ، قال : لما كان بعد بيعة أبي بكر ، قعد علي بن أبي طالب في بيته ، فقيل لأبي بكر : قد كره بيعتك ، فأرسل إليه ، فقال : أكرهت بيعتي . قال : لا والله ، قال : ما قعدك عني ؟ قال: رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 155) .
ألا يدل هذا النص على صعوبة الإقرار بالوثاقة النصية للنص ؟
3- الرسالة بين الإتباع والإبداع:
"...هل أرادت الرسالة المحمدية أن تقف بالإنسان عند حد معين لا يتجاوزه ؟ هل سعت فعلا إلى وسم ما أمرت به وأرشدت إليه بالإطلاقية ؟ أو هل سعت بالعكس من ذلك إلى وسم ما أمرت به و أرشدت إليه بالإطلاقية ؟ أو هل سعت بالعكس من ذلك إلى أن تفتح للإنسان آفاقا رحبة وتحمله المسؤولية كاملة في كيفية العبادة وفي تنظيم شؤون حياته كلها ، وهو حر لا رقيب عليه سوى ضميره ؟ وهنا يتعين الرجوع إلى وجه الرسالة الثاني ، ذاك الذي طمسه التاريخ وأنكر طاقاته الإبداعية ، فلم يتعود المسلمون كشفه والتنقيب عن خفاياه وأسراره ودلالاته ، ولم يتفطنوا في الأغلب حتى إلى وجوده ذاته ، لا لتقصير منهم أو عجز أو ما أشبه ذلك ، بل لأن ظروفهم وطبيعة ثقافتهم لم تكن تسمح لهم إلا بما اهتدوا إليه وطبقوه ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 87) .
يعتقد الشرفي أن تقريظ الرسالة المحمدية والإشادة بنقط تميزها قياسا إلى الرسالات السابقة وتأويل ختم النبوة بما يوافق أنسنة الإنسان وتحريره من الآلية الكهنوتية ومن تكرارية الطقوس والاستعادات البعدية المتواترة للأحداث المؤسسة يمكن أن تشكل طريق تحرير الوعي والضمير الإسلاميين من ثقل المؤسسة الكهنوتية ومن صلابة المنظومة الطقوسية الإسلامية.
ومن المحقق أن المقصد الفكراني للإصلاحية الإسلامية يقودها إلى التخليط الفكري، مادامت تصر ، أحيانا ، على القفز على محتويات النصوص وعلى إضفاء معاني معزولة عن مؤدى الألفاظ القرآنية وعن مؤدى المساق والسياق النصيين. فالفضاء الدلالي للقرآن، مؤثث بهيمنة الإلهي وبتغييب الإنساني، وبربط الحضور الإنسان الممكن والمعتبر ، شرعيا ، بالانخراط في التاريخ القيامي عبر الطاعة المطلقة لله ، وأداء الطقوس بأمانة ، وأداء واجب الشهادة والمساهمة في الجهاد القتالي عند الاقتضاء .

تتمثل الخاصيات الجوهرية للرسالة المحمدية في اعتقادنا فيما يلي:
1- تعريب" التاريخ" النبوي الإسرائيلي بإدراج طقس الحج في الجغرافيا الطقوسية للمنظومة الكتابية مثلا .
2- إغلاق المسار المفتوح " للتاريخ" النبوي ودمغه بالخاصية المحمدية " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " (الفتح: 10) " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " ( آل عمران: 31 ).
3- كوننة "التاريخ" الإسرائيلي المعرب عبر الجهاد الدعوي والقتالي.
لقد تم ذلك عبر التركيز على ثلاثة وسائط:
1- وساطة الشخص المؤسس أي محمد بدلالة الشهادة الإيمانية الإسلامية،
2- وساطة الأمة العربية باعتبارها حاملة اللغة والثقافة العربية وراية الجهاد المؤسس.
3- وساطة الأمة الإسلامية بمثابتها حاملة العقيدة ورافعة الجهاد الممتد في الزمان والمكان.
وقد اتخذت صياغة الطقوس العبادية أهمية جوهرية في الحين المحمدي بالنظر إلى قيمتها في تعزيز الوحدة المجتمعية وفي تحقيق التناغم بين الجسد الفردي والجماعي من جهة والمثال الغيبي من جهة أخرى. فالصلاة الإسلامية هي عنوان التسليم بالفكرة المفارقة وإخضاع الزمان الفردي للزمان القدسي / الجماعي، وإخضاع الجسد الفردي المشدود إلى الغرائزي وإلى الثقافي المفتوح ، إلى الانضباط اللاهوتي / السياسي الرافض لأي صياغة ذاتية للجسد وللعلائق بين الأجساد . فالعبادة ليست إلا وسما للجسد، بوشم الغيب، أي نقلا منهجيا له من جدلية الطبيعي والثقافي إلى جدلية اللاهوت والسياسة الاسكاتولوجية.
فالإسلام لم يغلق التاريخ النبوي ليفتح حيز التفريد العقدي والايطيقي والروحي للأفراد ، بل ليعلن انسداد الآفاق الروحية للإنسانية باكتمال المسار الديني الممتد من آدم إلى محمد. فلم يتبق للإنسان إلا التوقف أمام انجازات ما سماه ابن عربي بنبوة التعريف ونبوة التشريع، مليا ، والاقتداء بهديها ، دون أي بحث ذاتي أو فردي ، يعيد تحريك التاريخ الروحي من جديد للإنسانية من جديد. أليست البابية والبهائية ضحية الامتلاء الدلالي للأصول ؟ والأكثر من هذا ، فرغم امتلاء الدين بالخطابات والمقررات اليقينية، إلا أن مساحات من الحيرة الميتافيزيقية تبقى بلا حل .
" ينبغي للعبد أن يعتقد أن أعماله لم توصله إلى نيل المقامات ، وإنما أوصله إلى ذلك رحمته به ، الذي أعطاه التوفيق للعمل والقدرة عليه والثواب ، كما قال " صلى الله عليه وسلم " : ( لا يدخل أحد الجنة بعمل ، - قيل له : - ولا أنت يا رسول الله - ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )، والله أعلم". ( محيي الدين بن عربي – المسائل لإيضاح المسائل – تحقيق : قاسم محمد عباس – المدى – دمشق – سورية – الطبعة الأولى -2004- ص .130).
وتسهم تدافعات الأدلة والأدلة المضادة في النص المؤسس ، إلى تمزق كبير في النفس لا يتحمل المؤمن وقعه إلا بالترجيح بين الدلالات إن كان متكلما ، أو بإغراق النفس بالقياسات لن كان فقيها ، أو بالانقطاع عن الخلق جملة إن كان صوفيا .
" ومنه [ ما ] روى عمرو بن مهاجر قال: بلغ عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – أن غيلان القدري يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياما، ثم أدخله عليه فقال يا غيلان !ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه ألا يقول شيئا. قال فقال : نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل يقول : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، إنا هديناه السبيل إما شاكرا أو كفورا . ) [ الإنسان : 1-3] قال عمر : اقرأ إلى آخر السورة : ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما ، يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) [ الإنسان : -30-31] ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟ قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، و أصم فأسمعتني ، وضالا فهديتني . فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا وإلا فاصلبه !..." (- الشاطبي- الاعتصام – تحقيق : هاني الحاج – المكتبة التوفيقية – الجزء الأول – ص. 68-69).
وهذان النصان دالان على التشوش الفكري والأخلاقي الملازم لكل اعتقاد، رغم ارتفاع النبرة الوثوقية والتأكيد على حسن العمل المؤدي إلى سعادة الدارين. فإذا انتهى الفقه والتصوف إلى التماس العزاء في الرحمة ، مع رسم المسارات النجاتية فيهما بدقة، فكيف يقول الشرفي بانفتاح الطريق الروحي في الإسلامي وبفتح ختم النبوة، مسار التاريخ أمام الإنسان لتقرير مصيره ؟
4- ختم النبوة : انفتاح أم انغلاق ؟
" هكذا يكون محمد بن عبد الله قد ختم النبوة ليقضي على التكرار والاجترار وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق . هكذا يكون قد أرسى الدعائم المتينة لأخلاقية éthique كونية بحق ، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها تطبيقا آليا أجوف ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 93) .
يستدعي هذا النص في اعتبارنا الملاحظات التالية :
1- قراءة التجربة المحمدية من منظور لا تاريخي يسقط فحوى الكثير من الدلالات الأصلية للتجربة كما نقلتها المرويات والمنقولات والنصوص المعيارية . فالحقيقة أن التجربة القدسانية المحمدية ، ترتكز على تأطير الهوى الميتافيزيقي والايطيقي للفرد وعلى نفي التفرد والتفريد والإبداعية الفردية في مضمار التطلع إلى المعنى الكلي والى القيمة المطلقة والى الكمال الإنساني . فنفي السؤال ونفي المسلك الاستكشافي الذاتي وتوجيه الطاقة إلى القتال المعمم باسم الجهاد ، تنهض أدلة على لا ملاءمة قراءة عبد المجيد الشرفي للتجربة المحمدية . والواقع أن تجربة بوذا ولو تسي وكونفشيوس ، يمكن أن تتسع جزئيا للقراءة المقترحة أكثر من التجربة المحمدية.
النص الأول :
"حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال : حفظناه من عمرو عن طاوس سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " احتج آدم وموسى فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى " ثلاثا قال سفيان : حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ". ( - محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري –اعتنى به – أبو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب القدر – باب تحاج آدم وموسى عند الله – ص. 269)
النص الثاني:
"حدثنا أدم حدثنا شعبة حدثنا يزيد الرشك قال : سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير يحدث عن عمران بن حصين قال : قال رجل : يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : " نعم " قال : فلم يعمل العاملون ؟ قال : " كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له " . ( - محمد بن اسماعيل البخاري – صحيح البخاري –اعتنى به – ابو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب القدر – باب جف القلم على علم الله ...– ص. 265).
النص الثالث:
" وأخرج البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله تعالى . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد ، فقالت له : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت !فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله تعالى !فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه كما تقول ؟ قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته ، أما قرأت : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7] . قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 726)
النص الرابع:
" حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا إلى يهود " فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم : " يامعشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم فقال : " ذلك أريد " ثم قالها الثانية فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ثم قال الثالثة فقال : " اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا اعلموا أنما الأرض لله ورسوله ". (- محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري – اعتنى به أبو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب الإكراه – باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره - ص.345) .
من المؤكد أن النصوص الأربعة الواردة أعلاه ، تجمع على نفي استقلالية الإنسان وقدرته على تقرير مصيره الميتافيزيقي وتدبير ووجوده المحايث في العالم الفيزيقي . فالواقع أن الرسالة المحمدية ، تأتي تتويجا ، للفكرية التوحيدية ، المؤسسة ، أصلا ، على نفي التروحن الذاتي ، والتفريد الأخلاقي ، واستقلالية الذات البشرية في تدبير مصائرها القصوى . فالرسالة المحمدية ، لا تستهدف فتح التاريخ الأخلاقي للبشر ، ولا الدعوة إلى البحث عن مسالك غير مطروقة للتروحن والتخلق وإدراك الغايات العالية ، بل التبشير باكتمال " التاريخ" النبوي ، وانحصار كفاية الإنسان في التعبد الطقوسي وترسيخ دعائم المؤسسات الشرعية وبثها في الآفاق المستعصية على النداء الرسالي عبر الجهاد الدعوي السلمي الترغيبي أولا ، وعبر الجهاد القتالي الترهيبي ثانيا .
والواقع أن الإستراتيجية الإسلامية الأصلية تقوم ، على قاعدة حصر التشخصن في التماهي بالزمن النبوي الدائري ، وفي التمسك بالأخلاقية القرآنية ، المحصورة في الأمة . فالأخلاقية الإسلامية ، مشدودة إلى النجاة ، والى حث الإنسان على استحقاق السعادة الأخروية والابتعاد عن الشرور المؤدية إلى الشقاء الأخروي .واستحقاق السعادة الأخروية، يتم عبر الإخلاص لمثاليات التاريخ المقدس النبوي، أي عبر إنكار الاستقلالية الفردية والفكرية للفرد. وقد حاول المتصوفة ، روحنة عالم السعادة الموعود ، بسلوك مسلك العارفين المنقطعين لا عن الأغيار كما هو معروف في الشريعة بل عن الخلق والفناء في الحق .
يقول أبو حامد الغزالي في هذا السياق :
" فتنبه لهذا النمط من التصرف في قوارع القرآن وما يتلوه عليك ، ليغزر علمك وينفتح فكرك ، فترى العجائب والآيات ، وتنشرح في جنة المعارف ، وهي الجنة التي لا نهاية لأطرافها ، إذ معرفة جلال الله وأفعاله لا نهاية لها ، فالجنة التي تعرفها خلقت من أجسام ، فهي وإن اتسعت أكنافها فمتناهية ، إذ ليس في الإمكان خلق جسم بلا نهاية فإنه محال . وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فتكون من جملة البله وإن كنت من أهل الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : " أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب ". (- أبو حامد الغزالي – جواهر القرآن –اعتنى به وراجعه : سالم شمس الدين – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى – 2005- ص. 77)
وهكذا انتقلنا من الأخلاق الإيمانية القائلة بوضعية الذمة لليهود والنصارى والصابئة والمجوس إلى الأخلاق العرفانية القائلة بإذابة العالم الطبيعي في التوق إلى الحضرة الإلهية . فلئن غاب الآخر العقدي في الشريعة ، فقد غاب الإنسان بوصفه إنسانا في الأخلاق العرفانية على نحو كلي.

2- لقد حدد النص المؤسس والشخص المؤسس والنموذج المثالي لدولة المدينة / يثرب، السقف الفكري للأخلاق الإسلامية. فالإنسان بمقتضى هذا السقف ، منذور لخلع صفاته الناسوتية والعقلية ، والانسياق مع النسق العقدي / الاجتماعي المشدود إلى التجربة المحمدية بما هي الذروة الروحية والأخلاقية غير القابلة للتجاوز إطلاقا . وقد اصطدم بعض الصوفية بهذا الحاجز، مما دعاهم إلى القول بانتهاء نبوة التشريع واستمرار النبوة العامة وارتفاع نصاب الولاية قياسا إلى نصاب النبوة.
يقول ابن عربي :" اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط بالعالم ، ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام ، فنبوة التشريع ورسالته منقطعة بسيدنا ( محمد ) " صلى الله عليه وسلم " ، وقد انقطعت فلا نبي بعده ولا رسول مشرع ، ولا مشرع له ، فلا يبقى اسم خاص يختص به العبد دون الحق تعالى بانقطاع النبوة والرسالة ، إلا أن الله لطف بعباده ، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ...." ( محيي الدين بن عربي – المسائل لإيضاح المسائل – تحقيق : قاسم محمد عباس – المدى – دمشق – سورية – الطبعة الأولى -2004- ص .50-51) .

3- اندراج الأخلاق القرآنية في سياق الأخلاقيات الإيمانية المؤسسة للأخلاق بناء على افتراضات ميتافيزيقية غير مسلمة إلا في الإطار الديني التوحيدي .كما أنها تتميز بطابعها القسري الإلزامي المستبعد لأي اختيار جوهري بشري .
-" ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم" آل عمران: 176 .
-"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" (إبراهيم :4)
علاوة على ذلك فإن الأخلاق الإسلامية تجذر أساسها الابستمولوجي في الله لا في الإنسان وتعتمد نظرية سلطوية في التسويغ الأخلاقي . وعليه ، فإن تحقيق ما يشير إليه الشرفي لا يتم إلا بعقلنة الأخلاق وتزويدها بقاعدة نظرية عقلانية، لا بتأويل تلويني لنصوص وتجارب حافلة بمتصورات تاريخية بعيدة عن فتوحات العقل العملي الحديث ونظريات الأخلاق الحديثة.

5- الضروري في الدين بين النص والسنة الثقافية:
"وإن إلقاء نظرة على العقائد السنية ليكشف إلى أي حد ألزم المسلمون بمجموعة من "الثوابت" كانت في الأصل مسائل خلافية ، مثل عدم خلق القرآن ، والإيمان بالقدر خيره وشره – مع ما ينجرعنه من نفي للاختيار وحرية الإنسان في خلق أفعاله ولمعقولية الظواهر الطبيعية والاجتماعية في آن - ، واعتباطية الجزاء الإلهي ، ورؤية الله في الدنيا أو في الآخرة ، وعذاب القبر وسؤال منكر ونكير ، وعصمة الصحابة ، وغيرهما مما عدّ " معلوما من الدين بالضرورة " ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 123-124).
تصر الإصلاحية الإسلامية على الفصل بين النص والتأويل ، و بين الخطاب والتاريخ ، لتنزيه النص من اللامطابقة ، ولتأثيم الفعل التأويلي البشري . والواقع أن الإصلاحية الإسلامية ،لا تدرك الخطورة النظرية لهذا الفصل اللامنهجي واللاتاريخي، ولا لمستتبعاته النظرية المتعلقة بصوابية البيداغوجيا القرآنية .
وسيرا على غرار الإصلاحيين ، فإن الشرفي يؤكد على مفارقة التأويل السني لفحوى النص ، وعلى لا شرعية الكثير من المسلمات المعتبرة في أعراف أهل السنة والجماعة معلوما من الدين بالضرورة . والحال أن التيار السني حرص على رفض التأويل في العقائد وتعامل مع المقررات النصية للنص المعياري بحرفية وبعناد تسليمي مقر بغيبية الدين وبقصور العقل الجوهري عن تعقل الغيبيات :
يقول محمد بن تومرت: " للعقول حد تقف عنده لا تتعداه ، وهو العجز عن التكييف ، ليس لها وراءه مجال وملتمس إلا التجسيم والتعطيل ، عرفه العارفون بأفعاله ونفوا التكييف عن جلاله لما يؤدي إليه التجسيم والتعطيل ، وذلك محال ، وكل ما يؤدي إلى المحال فهو محال لشهادة الأفعال على وجود خالق انفرد بالاقتدار ، وما ورد من المتشابهات التي توهم التشبيه والتكييف كآية الاستواء ، وحديث النزول ، وغير ذلك من المتشابهات في الشرع ، يجب الإيمان بها كما جاءت مع نفي التشبيه والتكييف لا يتبع المتشابهات في الشرع إلا من في قلبه زيغ ..." ( - محمد بن تومرت – أعز ما يطلب – تقديم وتحقيق : عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني للنشر- الرباط – المغرب – 1997- ص. 216 )
وهكذا فإن أهل السنة ألغوا فعالية العقل في تعقل الغيبيات وحصروا كفاءته في تدبر الفروع . فقد أكدوا على أولوية السمعيات على العقليات ، والمنطوقات النصية على التدبرات العقلية ، عملا بفحوى النص ، وذهبوا بالمنطق القرآني إلى نهايته المنطقية مع الباقلاني والجويني وأبي حامد الغزالي من الأشاعرة ومع ابن عقيل وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة .
فنفي حرية الاختيار ومعقولية الظواهر الطبيعية والاجتماعية واعتباطية الجزاء الإلهي مقررات قرآنية صريحة، وهي أساس الاعتقاد الديني في كل الأديان التوحيدية أصلا.
" ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ،إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" .( الحديد / 22) .
" وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ". ( آل عمران : 166)
" ومن يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا" .( الإسراء : 97) .
" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يتطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ، وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمي". (الأعراف : 130/133).
" هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال". ( الرعد : 12-13)
لقد حاول بعض المفكرين القدماء عقلنة المضامين الغيبية الواردة في الآيات القرآنية وفي المنقولات التراثية، إلا أنهم اصدموا بعنف المتخيل الإسلامي الميال إلى الأسطرة والترميز والتقديس والسباحة في اوقيانوس العلامات والإشارات الترميزية.
يقول ابن قتيبة الدينوري في ( تأويل مختلف الحديث ) :
" وأما قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) وقول موسى عليه السلام : ( رب أرني أنظر إليك قال لن ترني ) فليس ناقضا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ترون ربكم يوم القيامة " لأنه أراد عز وجل بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) في الدنيا .
وقال لموسى عليه السلام : ( لن ترني ) يريد : في الدنيا ، لأنه عز وجل احتجب عن جميع خلقه في الدنيا ، ويتجلى لهم يوم الحساب ، ويوم الجزاء والقصاص ، فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر ، ولا يختلفون فيه ، ولم يقع التشبيه على كل حالات القمر ، في التدوير ، والمسير ، والحدود وغير ذلك !!" ( - ابن قتيبة – تأويل مختلف الحديث – خرج أحاديثه وعلق عليه : أبو المظفر سعيد بن محمد السناري – دار الحديث – القاهرة – 2006- ص. 273) .
وقد لخص أبو الحسن الأشعري الموقف الاعتزالي من مسألة الرؤية بقوله:
" أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه لا يرى بالأبصار ، واختلفت : هل يرى بالقلوب ؟ فقال " أبو الهذيل " وأكثر المعتزلة : نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا ، وأنكر " هشام الفوطي " و"عباد بن سليمان " ذلك".( - أبو الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين – تحقيق – محمد محيي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 1999- ص . 238) .
فالمشكلة، هنا، ليس في تناقض النصوص وإصرار الجهة السنية على التوفيق المغالطي أو السوفسطائي بينها كما رأينا في نص ابن قتيبة الدينوري، بل في تجذر جواز الرؤية كحقيقة سوسيولوجية أو كحقيقة تاريخية مترسخة في الوعي والوجدان الإسلاميين. فلا يكفي رفض النصوص الحديثية وتأويلات المؤسسات الأرثوذكسية للنص القرآني ، والإحالة إلى النص المعياري بوصفه النص المرجعي المطلق في تقرير الحقائق، لعقلنة اللامعقول ونزع الأسطرة عن الفكر الإسلامي كما يرى بعض المفكرين الإصلاحيين. فصمود المتخيلات السنية إزاء التمحيص الاعتزالي والجهمي والشيعي والفلسفي ، لا يعني إلا قوة المتخيل الإسلامي ، وسعيه الاحتيالي للاحتفاظ بأكثر الصور نمطية ومخالفة لأبسط شرائط التعقل.
وحتى يتمكن الشرفي من نزع الشرعية عن الفكر السني ، فإنه نسب له اللاعقلانية واللاسببية والغيبية ، ونزه النص المرجعي عن هذه الصفات . والحقيقة أن الدين ، لا ينهض أصلا إلا على المفارقة والتعالي وعلى عابرية التاريخ والطبيعة والإنسان ، وعلى جوازية الفعل الإنساني واعتباطيته الجوهرية . فرغم المنحى العقلاني لابن رشد ، فإنه لا يملك ، إلا التسليم بغيبية الإسلام ، بوصفها مسلمات صناعية :
يقول ابن رشد :
"وأما ما نسبه( يقصد الغزالي) من الاعتراض على معجزة إبراهيم عليه السلام ، فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام : فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشرائع ، وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد . وذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ، ولا يعرض لها بنفي ولا بإبطال ، كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك (...) فالذي يجب أين يقال فيها إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية . فلا بد أن يعترف بها مع جهل أسبابها.ولذلك لا نجد أحدا من القدماء تكلم في المعجزات مع انتشارها وظهورها في العالم، لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل؛ ولا فيما يقال فيها بعد الموت". ( - ابن رشد – تهافت التهافت – انتصارا للروح العلمية وتأسيسا لأخلاقيات الحوار – مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف للمشرف على المشروع : محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان- الطبعة الثانية -2001- ص. 510-511).
فإبطال معايير العقل ليس خاصا بالأشاعرة وأهل السنة، بل هو قاعدة مشتركة لدى كل الطوائف الإسلامية بلا استثناء. فرغم سعي المعتزلة عقلنة الدين واحتواء العناصر الغيبية اللاعقلانية منه ، إ‘لا أنها اضطرت إلى التمحل في التأويل والتعسف في التسويغ والتعامل غير المبرر مع النصوص كما نجد عند إبراهيم بن سيار النظام ومعمر بن عباد السلمي وثمامة بن أشرس النميري وهشام بن عمرو الفوطي. كما أن البعض منهم أوغل في الغيبيات إلى حد القول بعقيدة التقمص أو التناسخ:
" وكان في زمانهما ( يقصد احمد بن خابط والفضل الحدثي ) شيخ المعتزلة " أحمد بن أيوب بن مانوس " ، وهو أيضا من تلامذة النظام ، وقال أيضا مثل ما قال : " أحمد بن خابط " في " التناسخ " وخلق البرية دفعة واحدة ؛ إلا أنه قال : متى صارت "النوبة " إلى البهيمية ؛ ارتفعت التكاليف ، ومتى صارت "النوبة " إلى رتبة النوبة والملك ؛ ارتفعت التكاليف أيضا ، وصارت النوبتان عالم الجزاء". (- الشهرستاني – الملل والنحل – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2007- ص. 51)
فقد كان نصاب العقلانية ضئيلا في الحضارة الإسلامية ؛ وقد رأينا موقف ابن رشد من المعجزات وذهاب بعض المعتزلة إلى حدود تسويغ التناسخ حسب ما أورده الشهرستاني . فلئن كان موقف العقلانيين تسليميا لا عقلانيا في مسائل مفصلية مثل هذه ، فلنتصور حجم اللاعقلانية في التيارات المعتمدة أصلا على التغييب المنهجي والنسقي للعقل والعقلانية . ومن المحقق ، أن تأويل النص الثقافي ، ليس منفصلا كلية عن توجيهات النص القدسي . وبناء على هذه الرؤية، فإن الفصل بين النص والتأويل، لا يصيب الحقيقة، ويغرق المفكر في إشكاليات نظرية ومنهجية هو في غنى عنها.
وفي هذا السياق ، فإننا نلاحظ تقاربا بين الشرفي وحسن حنفي ؛ فهما يتفقان على أن نفي السببية في المعقولية الطبيعية والاجتماعية ، ترجع إلى النص الثقافي المتأثر بمعطيات السياق السياسي والاقتصادي ، وليس إلى النص المعياري القائل بالمعقولية في كل مجالات ممارسة الفعالية البشرية . يقول الشرفي :
" وهكذا نشأت أجيال كاملة من المسلمين وتربت وهي تستنكف عن تحليل أفعال الإنسان في مختلف مجالات حياته وردها إلى أسبابها وعللها الطبيعية والاجتماعية والمنطقية ، وتقفز إلى العلة الأولى في أبسط الظواهر
وأ
05-06-2008, 06:52 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بنى آدم غير متصل
من أين جاء العالم وأين ينتهى ؟
*****

المشاركات: 2,287
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #32
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
Arrayإلا أن أحد الأقوال التي أوردها السيوطي في الإتقان يذهب إلى " أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلعم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب [/quote]
.
نعم عزيزى عامر قرأت هذا الكلام من فترة وما زلت استغرب قبول الجسد الفقهى له وكيف استوعب مثل هذا الكلام رغم انه - العقل الفقهى البائد - يبدو لنا متيبسا مقتولا بالنقل السردى البارد

بالنسبة لكلام السيوطى فأعتقد ان كلام جميع العقلانين العرب يبدو متأسلما بل ومتشددا

موضوع قيم ويحتاج لقراءة ثانية وثالثة ولكن يعن لى سؤال الآن وهو :
ما هى محددات العقلانيين العرب ؟ وهذا بالطبع فى حالة وجود محددات ؟
على ماذا يتفقون وأين يبدأ الإختلاف ؟
بالطبع اسأل عن اؤلئك الذين لم يرفضوا المنظومة الإسلامية والذين يعملون من داخلها لا من خارجها ؟

Arrayلقد اختارت النخب الثقافية المعلمنة نسبيا والمنفتحة بدرجة أو بأخرى، على الثقافة الغربية وعلى مواقفها التحليلية والنقدية للظاهرة الدينية وللحدث المسيحي ولشخصية المسيح، عقد مصالحات جزئية مع التراث ومع النص المؤسس وتسريب المكتسبات الإبستيمية والمنهجية والإجرائية للعلوم الاجتماعية والإنسانية إلى التربة الإسلامية بكثير من الحذر ومن استعطاف المؤسسة الأرثوذكسية المهيمنة ثقافيا، [/quote]

أتفق مع هذا التحليل ولكن هل يكفى ؟ هل هذه الطريقة هى التى من الممكن ان تغير مما نحن فيه ؟

أشك فى هذا العقول الفقهية المسيطرة معقدة بدرجة مرعبة ولا امل في تبنى أى منهج علمى معها والجميع مشاركون فى هذا باختلاف الدرجات فقط

صدقنى عامر القلب ممتلء من هؤلاء التعساء
05-07-2008, 11:36 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بنى آدم غير متصل
من أين جاء العالم وأين ينتهى ؟
*****

المشاركات: 2,287
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #33
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
Array يبحث عن طريق [/quote]

فيه ايه يا مولانا
طيب عرفنا وأنا اوصف لك الطريق
ولا هتعمل زى بطل رواية " الطريق " لنجيب محفوظ وهتوووووووووووووه

عموما أنا عارف مواقع للخرائط ممكن ارسل لك رابط
وبعدين الصورة اللى لونيين دى تقلقنى بشدة

عساك بخير من اللونين
05-07-2008, 11:39 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #34
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
Array
فيه ايه يا مولانا
طيب عرفنا وأنا اوصف لك الطريق
ولا هتعمل زى بطل رواية " الطريق " لنجيب محفوظ وهتوووووووووووووه

عموما أنا عارف مواقع للخرائط ممكن ارسل لك رابط
وبعدين الصورة اللى لونيين دى تقلقنى بشدة

عساك بخير من اللونين
[/quote]

عشان حابب اتكلم انهرده بالذات
وعشان حابك انت بالذات وانت تعلم ما بيننا من ود واحترام ، احسد نفسي فيه على صداقتكم مولانا الآدمي في بلد تعيس
شوف انا لسه راجع من وسط البلد الان
وحالف اني اقيم الليل في سب البلد بنت دين الكلب ديه
فيه موضوع في ساحة الحوار عن نصر بوزيد ، يا ريت تبقى تبص عليه
فعلاً انا ابحث عن طريق ، ومعناه أني ابحث عن شلن وقع مني في حارة ضلمه او ابره في كوم قش
لما الدين يكون في خدمة السياسة ويخطب الخطباء عن تحريم الخروج على الحاكم ، لازم ابحث عن طريق
لما الاساتذه يتحولوا لمشايخ لازم ابحث عن طريق
لما الناس اللي حواليك يكونوا معاتيه وبيخزوقوا فيك ليل ونهار لازم تبحث عن طريق
لما يكون صعب التنفس وسط دخان وسخ لازم ابحث عن طريق
لما اقعد واتابع سيل الكتب الجارف وملاقيش غير شوية شخاخ وتمسك بالالفاظ وعدم فهم ، وهذا كفر وزندقة ، وهذا حلال وهذا حرام لازم تبحث عن طريق
المشكله مش في ده
والبحث عن طريق حاجه محترمه
لكن متدورش في حاره ضلمه
مصر بقت بلد زباله زباله ، مش لاقي فيها اي مجال مفيد
لا عارف ابقى شيخ وأفين الناس واشتغلهم واسترزق من وراهم
ولا عارف انصب على حد
ولا عارف حتى اقعد مع حد ممكن يفيدك وتتعلم منه شيء ينفعك
متقليش بقى نظام الشمعه وولع انت الركن العاتم
يعني اولع واتحرق لشوية نصابين
معلش يا صحبي لاقيت نفسي هخرف ، شويه كده ممكن نبقى نتكلم ع الخاص احسن .
تحياتي لكم (f)
05-08-2008, 01:12 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
بنى آدم غير متصل
من أين جاء العالم وأين ينتهى ؟
*****

المشاركات: 2,287
الانضمام: Mar 2007
مشاركة: #35
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
أبدا ولا يهمك يا عمنا

لو قلت غير هذا لطعنت فى وطنيتك ولظننتك تنهب من مخزون البلد العقلى كما ينهب غيرك من مخزونها المادى

أنا بقى عندى حاجة غريبة بس مش عايز اقطع حبل افكارك فى الموضوع الرائع ده عموما اقولها لك وخلاص وهى اننى أصبحت مؤخرا أتابع المرضى العقلانيين الذين يملؤون جنبات القاهرة المهم اجد فى بعضهم هدوءا غير طبيعى وسكينة قد يحسدهم البعض عليها

المهم فى بلد يعز فيه العقلاء لا ضرر من ان تجارى المجانيين الحقيقين

أرجوك
أكمل موضوعك ولك التحية


05-11-2008, 06:47 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #36
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب




في نقد الفكر الإصلاحي
نموذج عبد المجيد الشرفي
(2/2)

بقلم إبراهيم أزروال
تاريخ النشر: 2008-05-16
الأوان





يواصل الباحث إبراهيم أزروال تحليله النّقديّ لفكر الدكتور عبد المجيد الشرّفي، بعد أن تعرّض في جزء أوّل إلى قضايا مهمّة منها النّقد التاريخيّ للنصوص المؤسسة والرسالة بين الإبداع والاتباع ومدلولات ختم النّبوّة وتفريد الإنسان المؤمن..


9- في نقد عبادة الحرف والمقصد :
(الرسالة المحمدية تهتم بما هو خير وما هو شر في اللحظة التي وقعت فيها النازلة، فيكون ما ترشد إليه قاعدة لمعايير السلوك المستقيم والأخلاق الفاضلة التي يتعين على المسلم أن يستنبطنها منها. ولا يتم ذلك الاستنباط على أساس سليم بالتمسك بحرفيتها في نوع من عبادة النص، بل بالبحث عن روحها ومغزاها ومراعاة المقصد منها حتى تكون العبادة لله وحده، ويكون ضمير المسلم هو الحكم الأول والأخير في مدى الاستجابة للتوجيه الإلهي).
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .60-61) .

دفع تهوس السلفية بالتشريع ، وبالهندسة التشريعية للكل الاجتماعي ، إلى التماس الحل في المعاني الباطنية للقول القرآني . فلئن حصرت السلفية الإسلام في الإطار التشريعي الصارم ، وفي التجربة التدشينية وتجريد كل التواريخ اللاحقة للحظة المحمدية والصحابية من قوامها التاريخي ومن سؤددها الزمني ، فإن الإصلاحية الإسلامية تميل إلى تفعيل آليتين :
1- الفصل بين الروحي / الأخلاقي والفقهي / التشريعي القانوني .
2- ربط المعطى التشريعي بسياق تاريخي قابل للتجاوز والمعطى الأخلاقي / الروحي بديمومة زمانية غير قابلة للتجاوز .

والواقع أن السعي إلى روحنة الإسلام وتخليقه ، ينهض على مسلمات غير ناهضة من المنظور التاريخي . كما أن الاستنجاد بالإسلام الصوفي لتطويق الإسلام الشرعي الطقوسي الحرفي ، لا يفي بالمطلوب المعرفي ولا التاريخي . فالإصلاحي ، يسعى إلى التركيز على العناصر العقدية أو التشريعية الملائمة لتأويله ولاستهدافه الفكراني ،ويسعى إلى التحايل على العناصر المنافية لمقاصده باسم تغليب المقصد والمصلحة على الأوامر والنواهي الشرعية أو القراءة المقاصدية على التفسير الحرفي للنصوص ورغم انسداد آفاق العمل التأويل أمام الإصلاحية منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، فإن الإصلاحيين ما زاولوا مصرين على التأويل الاجتزائي التشطيري للنصوص وعلى المفاضلة بينها ، وإضفاء تأويلات غير ملائمة ولا تاريخية عليها ، باسم تجديد الفهم وتدبّر المقاصد الإلهية الثاوية خلف الألفاظ والقصص والسرود القرآنية .

إننا نعتقد أن روحنة الإسلام وتخليقه ، والانتصار للقراءة الصوفية ، لا ينمّان على حصافة أو تدبر استراتيجي للمجال الديني وللرؤية الدينية كما يعتقد البعض . فالنص القرآني ، نصّ كلّيّ ينطوي على تيبولوجيا وعلى اضمامة من الخطابات ، المختلفة من حيث السياق والمساق ومن حيث المقاصد الظرفية والاستراتيجية ؛ وعليه فعلي المؤول الحديث أن يتدبر كلية النص وبنيته التحتية لا أن يتخير ما يلائم رؤيته الإيديولوجية أو السياسية أو اهتماماته المنهجية . فالنص المؤسس كل موحد ، يجب أن يقرأ في تعددية مساراته ، وفي تشعب خيوطه الدلالية وأرضياته التداولية ، وتناصاته المشتبكة بالكون الدلالي للكتابيين ولأديان الشرق الأدنى القديم .

فالتشريع القرآني مرتبط بالأخلاقية القرآنية ؛ والفصل بينهما يناقض أساسيات الفكر الموضوعي . وعليه فإن السعي إلى فصل التشريع القرآني عن أسسه الأخلاقية والروحية ، أمر غير ممكن لاعتبارات كثيرة ، ونعتقد أن عدم تدبر الإصلاحيين لهذه الاستحالة هو المسئول عن الوضع الصعب للإصلاحية الإسلامية وعدم قدراتها على تفكيك المواقع المهيمنة للمؤسسة الأرثوذكسية القائمة على تغليب السمعيات والقراءة التشريعية الفقهية وعلى انزلاق الكثير من الإصلاحيين إلى المواقع السلفية كما حدث لرشيد رضا وطه حسين ومحمد حسين هيكل وخالد محمد خالد وإسماعيل مظهر ...الخ .
إننا نعتقد أن تجاوز هذه الإشكالية يقتضي أمرين :
1- اعتبار الأخلاقية القرآنية إيمانية موصولة بالمتخيل الكتابي ؛ وهي أخلاق دينية غير قابلة للكوننة مادامت ترفض ، كليا ، أيّ تعميم لمنظومة القواعد الخلقية وأي كوننة للأحكام الخلقية الصحيحة . فالأخلاق القرآنية والحال هذه ، قائمة على تراتبية صارمة ومحكومة بسقف أخروي هو المحدد في الغالب للسلوك لا البحث الفردي فيما يحقق المصلحة ويفي بمقتضيات الأخلاق كما يعتقد الشرفي .
2- اعتماد أخلاق علمانية مبنية على استقلالية الأخلاق المنطقية والابستمولوجية وحتى التاريخية عن الدين ؛ فالأخلاق الدينية ، ليست منزهة عن التفكيك ، بل إن النظر التفكيكي للعقلانيين الأقحاح توجّه قبل كل الأشياء إلى تأسيس الأخلاق على ثوابت جديدة كما نجد عند باروخ سبينوزا .
يقول فؤاد زكريا : ( وهكذا أكد أن الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد ، وإنما هو الدراسة والبحث والفهم ، فنقل بذلك الأخلاق من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن ، و أكد أن مهمته بوصفه باحثا أخلاقيا ليست أن يحتقر أو ينتقد ، وإنما أن يفهم الطبيعة البشرية على ما هي عليه .وهكذا تجاوز سبينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى ، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي ، و أنكر الخير المطلق ، وبالتالي عالم الغايات التي تركزت فيه الأخلاقية المثالية بأسرها ).
(- فؤاد زكريا – سبينوزا – دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت – لبنان – ص.196-197 ).
فلا يمكن هنا والآن، الخلط بين الأخلاق والدين، والسعي إلى استمرار هيمنة الرؤية المتعالية على الحقل الأخلاقي.

-10- الهروب من الفقه إلى المصلحة :
( كما كانت العقوبات البدنية عموما ، من الضرب والجلد والبتر وحتى القتل ، عادية لا يرى الناس بديلا عنها لقيام مجتمع واستقراره . فكان ما نص عليه القرآن منسجما تمام الانسجام مع مقتضيات الظرف ، ولكنه لا يعني غلق الباب في وجه أشكال أخرى من العقاب متى تطورت المجتمعات وبرزت فيها قيم أكثر تناغما مع هذا التطور ، تعتبر العقوبات البدنية وكل أشكال التعذيب منافية للكرامة البشرية ).
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 70) .

لا مندوحة عن القول ، إن إستراتيجية الخطاب الإصلاحي ، تفتقر إلى الكثير من الحصافة الفكرية والحذاقة المنهجية والصرامة النظرية في مقاربة المواضيع المستشكلة مثل الحدود القرآنية . فالتنصيص على الحدود ، قرآني ، صريح ، ولا يمكن تبرير إلغائها بعدم فهم السلف للفحوى الجوهري للخطاب القرآني أو لارتباط العقوبات المنصوص عليها بظرفية تاريخية قليلة التحضر. وأمام صعوبة إرجاع الحدود القرآنية ، إلى تمحلات السلف وواضعي النصوص التقنينية المعيارية أو ادعاءاتهم أو تعسفاتهم ، عمد بعض الإصلاحيين إلى تبرير فرضها بإكراهات الوضع السوسيو- تاريخي والسوسيو- عقدي بشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي . فالخطاب الإصلاحي ، يقر بنصيتها ، إلا أنه يعتقد أن شرعيتها الدينية مخصوصة بوضع حضاري محدد ؛ وعليه ، فمن الممكن تجاوزها ووضع نظام عقوبات جديد مستوحى ، من المقتضيات الثقافية والحضارية للعصر الحديث .

ومما لا شك فيه أن مقاربة الشرفي لقضية الحدود ، لا تبرح مدار الرؤية الإصلاحية ، بكل ما تحفل به من تحكمات والتباسات . ولما كانت رؤيته للموضوع في حاجة إلى إضاءة نقدية ، فإننا نسطر حولها الملاحظات التالية :

1- لقد اظهر الإسلام أحيانا تمسكا وثوقيا بالتقاليد العقابية الكتابية ، وسعى في خضم صراعه الميتافيزيقي والهرمينوتيكي والسياسي مع يهود يثرب خصوصا ،إلى التشبث بأكثر العقوبات الكتابية تشددا .
(قال ابن إسحاق : وحدثني ابن شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مزينة ، من أهل العلم ، يحدث سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثهم : أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس ، حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت ، فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد ، فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولوه الحكم عليهما ، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية – والتجبية : الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ، ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ، وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين – فاتبعوه ، فإنما هو ملك ، وصدقوه ؛ وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ).
(-ابن هشام – السيرة النبوية – حققها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها : مصطفى السقا و إبراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي – دار ابن كثير – دمشق – بيروت – الطبعة الثانية –2003-ص.479).
فالتجبية كانت عقابا مخففا بالقياس إلى التقليدي الموسوي ، القائل برجم الزاني والزانية ( وإذا زنى رجل مع امرأة فإذا زنى مع امرأة قريبه فإنه يقتل الزاني والزانية). ( لاويين -الأصحاح 20 : 10) .
أما يسوع فقد خفف من غلواء الناموس الموسوي في سياق صراعه مع الكتبة والفريسيين ( ...ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل . وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم . فماذا تقول أنت . قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه .
وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض . ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر) ( إنجيل يوحنا : الأصحاح الثامن : 3-7) .
إذ فالإطار الحضاري القائم آنذاك بالشرق الأوسط ، كان يسير ، في الغالب ، نحو التخفيف من دموية الناموس الموسوي المنحدر من شريعة حمورابي .

من المؤكد أن النص القرآني لا ينص على الرجم ؛ إلا أن الصراع الهيرمينوتيكي والتأويلي القائم بين محمد وأحبار اليهود ، والاتهام القرآني الصريح لليهود بتحريف التوراة ، يسمحان بترجيح تمسك محمد بالرجم من باب الوفاء للأصولية العقدية الكتابية ومن باب استملاك احد العلامات المائزة للرأسمال الرمزي التوحيدي المرجعي .

2- لم يكتف الإسلام بمراعاة المقتضيات القانونية المعمول بها في شبه الجزيرة العربية ، بل عمد إلى إدخال تغييرات على كثير من تعابيرها مثل الرق وتعدد الزوجات والقصاص والدية والأروش والعاقلة على سبيل المثال . فمما لا جدال أنه اقتبس الكثير من العناصر القانونية والجنائية من التراث الكتابي ومن التشريع العربي القديم ، إلا أنه قام بإعادة صياغة تلك العناصر ، وإدخال تغييرات جوهرية فيها من حيث الإطار الرؤيوي الكلي ، وتعديلات تقنية في بعضها من حيث الممارسة الاجتماعية . بالإضافة إلى ذلك، فقد عمد إلى تحريم الخمر والتبني مع أنها متأصلة في الثقافة العربية.ومن هنا ، فإن الاحتجاج بمراعاة التشريع الإسلامي للمقتضيات السوسيولوجية والتاريخية ، للمجتمع العربي القديم ،ليس حجة ناهضة في اعتقادنا .

3- يتغاضى الشرفي عن البنية المغلقة للنص القرآني ؛ فهو يتعامل مع الجانب التشريعي في النص المؤسس وكأنه مفتوح ،قابل للتحيين الدلالي والترهين التداولي والتجديد المعرفي .
(( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ( المائدة : 38 )
( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .( النور : 2)
فمن السمات الفارقة للنص المؤسس، التسليم الكلي لموجود مفارق، متفرد بتدبير المصائر وتحديد العقوبات. فالفصل بين الجانب التشريعي والجانب الميتافيزيقي أو بين العبادات والمعاملات باللغة الفقهية الكلاسيكية ،يجانب الحقيقة ، بالنظر إلى ارتباط التشريع الإسلامي بالرؤية العقدية . ومن هنا، فإن القول بنسبية الجانب التشريعي وقانون العقوبات الإسلامية يستلزم ، منطقيا ، القول بنسبية الجانب العقدي . ولما كانت الإصلاحية الإسلامية ،لا تذهب إلى القول بتاريخية العقيدة ، فإن مطالبة بعض روادها بإسقاط العمل بالحدود الجزائية أو بقانون العقوبات اعتبارا إلى تقادمها تاريخيا ومنافاتها لحقوق الإنسان الكونية ، أو لارتباطها بمواضعات تاريخية وثقافية منتفية الآن،لا تستوفي مقتضيات التناسق أو الملاءمة التصورية .
( ولا ينبغي أن يكون تنفيذ عقوبة معينة ، كما هو الشأن في القصاص والسرقة وغيرهما ، محسوبا على الخضوع لأوامر إلهية لا صلة لها بالزمان والمكان ، بل هي مما اقتضته ضرورات الاجتماع والأخلاق ، وهي أمور متغيرة وغير مستقرة تتأثر بعوامل عديدة منها الثقافي ومنها الاقتصادي والسياسي).
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 85) .

فالتشريع لا يصدر في الرؤية القرآنية عن الأفراد ولا عن المؤسسات المدنية بل عن المفارق أي عن الغيب؛ ففلسفة التشريع الإسلامية ، مفارقة ومتعالية ولا تولي للإنسان أي اعتبار سوى اعتبار التمثل والتنفيذ تماما مثلما هو معتاد في الأديان الطقوسية أو في الشريعة الموسوية اليهودية . وبناء على هذه القراءة ، فإن قراءة قانون العقوبات قراءة تاريخية محايثة أو وضعية دهرانية ، تستلزم من باب التناسق في الرؤية والمنهج ، قراءة النص المؤسس قراءة دهرانية ناسوتية استشكالية . أما الدعوة إلى التركيز على غايات الحدود الجزائية لا على أعيانها كما فعل عبد الله العلايلي في ( أين الخطأ؟ تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد ) ، فهو لا يحقق المطلوب النظري في زمان تشوش المتصورات واختلاط جينيالوجياتها .

كما أن ربط احترام الكرامة بزمن دون زمان ، وإعفاء الزمان المؤسس والتجربة الإسلامية المعيارية والنموذجية من التمسك بمقتضيات تلك الكرامة باسم استثنائيتها التاريخية أو باسم مراعاتها للمقتضى التشريعي والقانوني" الجاهلي "، توقع النظر الإصلاحي في ارتباكات منهجية ونظرية لا يستهان بها .

11-نقد الأصول وحفظ النصوص :
( فتحديث أصول الفقه و إعادة النظر في هذه المنظومة ، إنما هو أيضا على أساس العودة إلى مقتضيات الخطاب القرآني الذي لا نتردد في القول إن هذه المنظومة الأصولية قد شوهته وحرفته ، حرفت مقصوده الأساسي لأن القرآن دائما يخاطب المسلمين بدون تمييز ، ليست فيه هذه الطبقية ، وهذا التمييز الذي بين المسلمين كما هو الشأن بالنسبة إلى الأصوليين وبالنسبة إلى عامة الفقهاء ).
( عبد المجيد الشرفي – تحديث الفكر الإسلامي – نشر الفنك – 1998- الدار البيضاء – المغرب – ص. 42)
يحفل هذا المدخل بكثير من اليقينيات القابلة للاستشكال بله النقض والدحض . ونجمل ملاحظاتنا على فحواه فيما يلي :

1- الذهاب إلى إمكان العودة المباشرة إلى النص القرآني دون الاستناد إلى تفسيرات وتأويلات وتسويغات الأصوليين؛ والواقع أن التعامل المباشر مع النص القرآني ،بدون الاستعانة بمعطيات النصوص الثواني ، يوقع في مزالق ومآزق منهجية ونظرية كبيرة ؛ كما أن الشواهد النصية تنهض حجة على عدم صحة تأويل الشرفي للقرآن ؛فهو يظن أن النص القرآني يحث على تفعيل مقتضيات المساواة والعدل بين المسلمين ، والحال أن النص يقر التراتبية الأنطولوجية والاجتماعية والمعرفية ، ولا يلغي التفاوتات الاجتماعية بأي حال من الأحوال :
( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) ( النساء – 34) .
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ) ( الأحزاب – 32 ).
( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) ( الزخرف : 32)
فالتراتبية والتمايز معطيان نصيان غير قابلين للتعويم التأويلي كما تفعل بعض القراءات الإصلاحية؛ فالنص المؤسس يبني الفوارق والتمييزات لا في علاقة الأمة الإسلامية بغيرها العقدي فقط ، بل بين مكوناتها نفسها .فالتشريع الإسلامي ، إطار للتفاضل والتمايز وبناء الفوارق والقوانين المنظمة للاختلاف الداخلي والخارجي . و أصول الفقه ، سارت في نفس المنحى ، خصوصا وأنها جابهت عالما حافلا بتناقضات واشتباكات كبرى كلامية وفقهية ، لا تقاس بتناقضات العالم المديني / اليثربي المحدود .

2- اتهام أصول الفقه بتحريف المقاصد القرآنية ، ينطوي على تجاهل لدور الأصوليين في تنظيم المنظومة التشريعية والقانونية وصياغة وإحكام مرجعية استثمار النصوص واستخراج الأحكام الشرعية منها؛ فالأصوليون ، لم يتمحلوا في تأويل النص واستثمار مقاصده في الاتجاه المخالف للقصد الأصلي ، بل قاموا بتوسيع أو تضييق الإطار الدلالي للنصوص القرآني ، سعيا وراء التأكيد على الصلاحية المطلقة للنص وعلى هيمنته على حركية الواقع ؛ فالأصوليون ، وسعوا فعالية النص وقلصوا فعالية العقل والواقع والتاريخ إلى أقصى الدرجات . وتلك هي آفة أصول الفقه ، لا تحريف مقاصد القرآنية التأنيسية والتسديدية كما يعتقد الشرفي .

3- يتناسى الشرفي السياق التاريخي لبلورة أصول الفقه ، وصعوبة استقراء الدلالة التاريخية للقرآن ، لاعتبارات إشكالية ترجع إلى حيثيات تشكل ما يسميه محمد أركون بالنص الرسمي المغلق من جهة ، والى طبيعة البنية الحجاجية للنصوص نفسها من جهة ثانية .
12-المرأة من الضلع إلى النشوز :
( ثم ألم تخلق المرأة من ضلع أعوج من ضلوع آدم ؟!أليست هي التي أغوته بالأكل من الشجرة فكان ذلك مصدر" الخطيئة "وسببا في الطرد من الجنة ؟!وعوض أن يتدبر المسلمون سكوت القرآن عن هذين " الميثين " الواردين في "سفر التكوين " وتأكيده ، خلافا لهما ، بأن الناس خلقوا من نفس واحدة وأن الله خلق منها زوجها ليسكن إليها ، ونصه الصريح على أن الغواية كانت من إبليس لا من حواء وأن الله غفر لآدم وبغفرانه محيت المعصية ..عوض أن يتدبروا كل هذا انبروا يتسابقون إلى "الإسرائيليات " يستقون منها ما يعزز آراءهم القبلية في المرأة ، وانبروا يؤولون بها الآيات القرآنية تأويلا ما أنزل الله به من سلطان ؛ تأويلا يمحو الفروق الجوهرية بين الرسالة المحمدية وما عند أهل الكتاب على هذا الصعيد)
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .-107- 108) .

حين نتدبر هذا الشاهد نلاحظ التقارب الكبير بينه وبين كتابات الصادق النيهوم ؛ فهما يؤكدان على خلو النص المرجعي للإسلام ، من تأكيد التوراة على خلق حواء من ضلع آدم ومن فكرة تحريضها آدم على الأكل من الشجرة المحرمة .والحقيقة أن نظر الإصلاحيين في الكتاب المقدس لا يستوفي شرائط النظر الموضوعي ولا مقتضيات البحث العلمي في النصوص اليهودية والمسيحية المرجعية ولا أدبيات نقد الكتاب المقدس . فهي تتوخى ، لاعتبارات شعورية فكرانية أو لا شعورية عقدية أو طائفية ، إبراز فرادة النص القرآني وتميز خطابه المعياري على الخطاب المعياري للكتاب المقدس .
ولتبيان تعقد القضية المثارة، فإننا نورد نصين من ( سفر التكوين ):
( وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته . على صورة الله خلقه . ذكرا وأنثى خلقهم . وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض).
(تكوين – الأصحاح الأول : من26الى 28)
( وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل . بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها).
( تكوين –الأصحاح الثالث : من 17- 19 )
فالنص الأول ينص على خلق الإنسان، على صورة الله وعلى مباركته للإنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى. أما النص الثاني فينص على تحميل مسؤولية لعنة الأرض إلى آدم نفسه .
والواقع أن اختلاف النص القرآني مع النص التوراتي في هذا المساق ، يعزى إلى آلية تناص النصوص والى الترميق الميثي المعمول به في النصوص القدسية ، والاستمداد القصدي المتحكم في طريقة النص اللاحق بالنص السابق . فالقصة التوراتية نفسها ، ليست إلا استعادة تحيينية وإعادة قراءة لقصص ميثية قديمة سومرية أو بابلية أو مصرية . وقد حاول تركي علي الربيعو مقاربتها من منظور مقارن ، قائم على التواصلية الثقافية في التقاليد الثقافية للشرق الأدنى القديم . فهو يعتبر قصة خلق حواء من ضلع آدم، المحطة ما قبل الأخيرة من تصور المرأة في النصوص الأسطورية القديمة. وعليه ، فلا يمكن استكناه حقيقة النص التوراتي التكويني ، إلا بمقارنته بالنصوص الأسطورية مثل : ملحمة جلجامش وملحمة الخليقة البابلية ونصوص سومرية أخرى ...الخ .
( ويذهب كريمر إلى القول إن أهم نتائج تحليلنا المقارن للقصيدة السومرية هو التفسير الذي يكفي واحدا من أعضل العناصر في قصة الفردوس في الكتاب المقدس ، وهو الفقرة المشهورة التي تصف خلق حواء- أمّ كل حيّ – من ضلع آدم . ولكن لماذا من ضلع ؟ ولماذا وجد القصاص العبراني أن الأنسب أن يؤثر ضلعا على أي جزء آخر في الجسم لخلق المرأة التي يعني اسمها تقريبا وفق الكتاب المقدس " التي تصنع الحياة " ؟ سيصبح السبب واضحا جدا إذا اتخذنا أساسا أدبيا سومريا كذلك الذي صورته قصيدة ديلمون عن قصة الفردوس كخلفية للكتاب المقدس . وذلك لأن أحد أعضاء أنكي المريضة في القصيدة هو الضلع والكلمة السومرية للضلع "تي " ولذلك كانت الربة التي خلقت لشفاء ضلع أنكي تسمى " نن تي " أي سيدة الضلع على عبارة السيدة التي تحيي وذلك عن طريق ما قد يوصف باللعب ضوء مستجدات تاريخ الأديان المقارن والأنثروبولوجية الدينية خصوصا وأن الشرفي يشدد على ورود عناصر ميثية في المتن المعياري للمسلمين .
(والأدهى من كل هذا أنهم تصوروا الرسالة حسب أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم حتى أضحى الإسلام مرادفا لظلم المرأة والحط من قيمتها وحجبها في البيوت وخلف الجدران السميكة ، ومسؤولا عن حرمانها من أبسط الحقوق البشرية مثل التعليم والشغل ، ومستغلا في إثبات هوية قلقة تبحث عن التعبير عن نفسها من خلال إلزام الفتيات المغرر بهن بلبس الحجاب)
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 108) .

كثيرا ما يعمد الاصطلاحيون إلى تحميل مسؤولية الوضع المأساوي للمرأة في المجتمعات الإسلامية، إلى الوضع التأويلي السائد أو إلى السياقات السوسيو- تاريخية الموسومة بالتداخل والهجانة واستمرار التقاليد الثقافية السابقة على الإسلام .
ويمكن القول إجمالا ، بأن الإصلاحية ، تشدد على قوة الثقافة بالقياس إلى العقيدة ، والى استمرارية المتخيل الجماعي في إعادة إنتاج رؤاه الأنثروبولوجية . إلا أن الإشارة إلى التغلب التاريخي للثقافة على العقيدة ، يبقى مجرد ، فكرة أولية لا يعمل الاصطلاحيون على استثمارها الاستثمار النظري اللازم ، لإعادة التفكير في جدل العقدي والثقافي في المجتمعات التاريخية مثل مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .

ويركز الاصطلاحيون ، عادة على التمييز بين الخطاب القرآني والخطاب الثقافي الإسلامي ، والى إرجاع الخطاب الثقافي الإسلامي إلى مرجعيات غير إسلامية ، تختلف حسب مقاصد واستهدافات المفكرين .
فالخطاب الثقافي /التأويلي الإسلامي ، يمتح حسب تحليلات الخطاب الإصلاحي من إحدى المرجعيات التالية :
1- المرجعية العربية المسماة جاهلية .
2- المرجعية التوراتية و التلمودية والهالاخية .
3- المرجعية الإنجيلية البولسية .
4- المرجعية الفارسية الزرادشتية ....الخ .
والحال أن النص التأويلي الثقافي ، ليس إلا جماع التفاعل بين النص المؤسس والثقافات المحلية والمعطيات التراثية السائدة . فالنص التأويلي ، يتوخى ، تكريس سلطة النص المؤسس ، واستثمار كل المعارف الممكنة حسب المتاح المعرفي والإبستمولوجي في كل ظرف ظرف . فالوضعية الدونية ، للأنثى وللمرأة ، معطى ثقافي راسخ في ثقافات الشرق القديم ، وقد تم ترسيخها ميثيا ، عبر النصوص الميثولوجية السومرية والبابلية وعبر الكتابات المقدسة اليهودية والمسيحية والإسلامية . ومن هنا ، فإن الاستعانة بالإسرائيليات ، ليس محض عودة إلى الهرطقات الكتابية أو إلى تشبث مشبوه بتراث الآباء ، كما يعتقد الشرفي ، بل هو استكمال لكلية الدلالة الكتابية ، المجملة في النص القرآني والمفصلة في الكتاب المقدس ، واستحضار للمعنى الميثي البعيد الموصول بالاشتغال الأسطوري الأولي على المعنى وعلى الحقيقة .
13- وضعية المرأة بين المودة والتعدد :
(وتجاهلوا بالخصوص سائر الآيات التي تؤسس لأخلاقية رفيعة يقوم عليها الزواج بمفهومه القرآني من سكون الزوجين أحدهما إلى الأخر ومن المودة والرحمة والإحسان والعدل ، والسبب الصريح الذي من أجله أبيح التعدد ، أي الخوف من عدم القسط في اليتامى ، وخصوصية الظرف الذي يكتنفه).
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 158) .
كثيرا ما يعمد الشرفي إلى تحميل الأصوليين والفقهاء ، مسؤولية تحريف المقاصد الجوهرية للخطاب القرآني ، وعدم استيفاء مقتضيات الاستثمار الملائم والمطابق للقصد الرسالي . وفي هذا الإطار ، أشار إلى مضمون النصوص الداعمة لرأيه ، وسكت عن النصوص الإشكالية :
( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) ( النساء : 34)
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) ( النساء – 3 )
( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن شعبة ، عن أبي قزعة ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : ما حق المرأة على الزوج ؟ قال : " أن يطعمها إذا طعم ، و أن يكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبح ، ولا يهجر إلا في البيت ").
(- ابن ماجة – سنن ابن ماجة – اعتنى به وقدم له : محمد بربر – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى : 2006- كتاب النكاح – باب حق المرأة على الزوج – الجزء الثاني – ص . 321) .
فالنصان القرآنيان ، يؤكدان ما يلي :
1- قوامة الرجل على المرأة بسبب تفضيل الله للرجال وبسبب إنفاقهم على النساء .
2- التنصيص على طاعة المرأة للرجل والالتجاء في حالة النشوز إلى الوعظ والهجر والضرب.
3- التنصيص على تعددية الزوجات وعلى ملك اليمين .
وقد اصطدم الصادق النيهوم ومحمد الطالبي بهذه النصوص ، فاقترح النيهوم قراءة مخصوصة للضرب فيما طالب محمد الطالبي بتفعيل التحليل الاتجاهي والقراءة المقاصدية .
يقول النيهوم :
( فكلمة [اضربوهن ] ، إذا كتبت من غير نقاط ، وبالخط المستمد من شكل الأبجدية الآرامية ، التي يتشابه فيها حرف الضاد مع العين ، وحرف الراء مع الزين ، بحيث تبدو كلمة [اعزبوهن ] التي تلائم سياق النص على المقاس).
( - الصادق النيهوم – المسلمة لاجئة سياسية –الناقد – العدد 61- 1993- ص. 15) .
يقول محمد الطالبي :
( فإذا ما وجدت أن القرآن وجه وضع المرأة نحو تحسين حالتها إلى حد المساواة بينها وبين الرجل وإكسابها حقوقا لم تكن موجودة ، فمن الواجب أن أسير في نفس الاتجاه الذي يرسمه السهم ، أي التحرير المتواصل ، اعتدال متواصل ، عدل متواصل ، بشكل يقربني أكثر ما يمكن - مع اعتبار الوضع الذي أنا فيه اليوم - مما يقصده الشارع ، و أنا أفضل هذه الطريقة على طريقة القياس ، وهذا يمكن أن يصبح يوما محل إجماع إذا توفرت الدراسات التي تقنع بمطابقته لروح الإسلام ).
(- محمد الطالبي - عيال الله – أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين – دار سراس للنشر – تونس – الطبعة الثانية – 1992- ص . 144) .

تنهض هذه المعالجات ، حجة على ارتباك إستراتيجية الإصلاحية الإسلامية ؛ فلنقد المؤسسة الأصولية والفقهية حدود ، تفرضها صرامة النصوص ، وتأسيسها لتراتبية اجتماعية صارمة لا تساير دوما المنظور الحداثي ولا التدبير الحديث للعلائق الاجتماعية .
ومن الواضح أن الرؤية الإصلاحية تتبع منهجية مزوجة تتمثل فيما يلي :
1- رفض بعض النصوص الحديثية و التأويلات التراثية باعتبارها منافية لروح النص .
2- البحث عن مسلكية تأويلية تلوينية حين تصطدم بنصوص قرآنية إشكالية من منظور العقلانية والحداثة مثل ضرب المرأة الناشز مثلا أحيانا أو الإحالة على مقصديات مضمرة في النص هي برسم الاستكناه والاستكشاف .
فالمفكر الإصلاحي ، يرفض النص الحديثي والتأويل التراثي أحيانا ، مهما كانا معتمدين من قبل الأرثوذكسية السنية ، باسم رؤية تنزيهية للنص ؛ إلا أنه يتبع مسلكا مغايرا ، في الغالب ، حين يصطدم بنصوص قطعية الدلالة والثبوت ، حسب المعجم التراثي ، فيضطر إلى التأويل المتمحل عبر إضافة معاني غير وارد في المنطق القرآني إلى النص أو إلى الاستعانة بنصوص واردة في مساقات خطابية مختلفة ، بدون مراعاة تيبولوجيا الخطابات الفرعية داخل النص القرآني . فالتنصيص على المودة بين الزوجين ، يأتي في سياق ومساق معينين ، وإقرار التعدد يأتي في سياق ومساق مختلفين . كما أن مقارنة المساقين أو السياقين ، تستلزم استقراء كل المواضع النصية المتعلقة بالأنوثة وبمقاماتها الأخلاقية والتشريعية والتاريخية ، لاستخراج الرؤية النصية المتعلقة بالمواقع الاعتبارية للأنوثة والأنثوي في السيرورة الاجتماعية / السياسية .
14-شرعنة العنف المؤسس:
( قد يرى بعضهم في هذه الواقعية ( يقصد غزوة تبوك ) مدعاة إلى المؤاخذة ، مثلما قد يرى في المعاملة التي لقيها اليهود بعض القسوة ، ولكن الدعوة الدينية مضطرة إلى أن تأخذ في حسبانها قوانين الاجتماع الإنساني إن كانت ترغب في الانخراط في التاريخ ، وهذه القوانين تراعي ميزان القوى الفعلي ، ولا مكان فيها لعناصر الفتنة والتمزق من الداخل ومن الخارج على السواء. وينبغي أن يسأل الذين ينكرون هذه الواقعة إن خلا انتشار دين من الأديان التوحيدية من استعمال العنف ، وإن كانت لدعوة محمد حظوظ في استقطاب العرب وغير العرب لو بقيت محصورة في بضع مئات من المسلمين المستضعفين ، تهددهم قريش وتعمل على استئصالهم بكل الوسائل ، ويزرع اليهود بين ظهرانيهم الشك والريبة بدافع التمسك بدينهم وخوف التهميش أو الذوبان في المجموعة الناشئة ! فليس العنف إذن من مستلزمات الإسلام بقدر ما فرضته الظروف التي ظهر فيها. و أي تأويل آخر للآيات التي ذكر فيها القتال معزولة عن سياقها التاريخي تجن مرفوض على الحقيقة التاريخية) .
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 75-76) .

لا تنفي الإصلاحية الإسلامية العنف الإسلامي الأصلي ، أو ما يمكن أن نسميه بالعنف المؤسس أو العنف المرجعي أو العنف المعياري . إلا أنها تعتقد ، أنه بالإمكان الفصل بين التاريخي واللاتاريخي في التجربة الإسلامية ، فيما تقرر العلوم الاجتماعية والفكر الحديث تاريخية الظاهرة الدينية جملة وتاريخية العنف القدسي عموما . فالعنف كما كشفت بحوث رونيه جيرار مرتبط ارتباطا لازما وضروريا بالمقدس ، ولا يمكن فصله عن المقدس إلا بضرب من التحكم أو من الاختزال أو المناورة التكتيكية المعهودة في المناظرات الكلامية أو في السجالات الفكرانية بين أرباب الإيديولوجيات .

ولما كان نص الشرفي المسوغ للعنف الأصلي في الإسلام غير مطابق للروح الإصلاحية ، فإننا نسجل عليه الملاحظات التالية :
1- تسويغ العنف الأصلي ، يحوله منطقيا إلى عنف مرجعي أو معياري أو بنيوي ، ولا يحده في حدود تاريخية لا يتعداها . فالتجارب المثالية والنموذجية ، لا توضع لتقرأ كنصوص وثائقية مرتبطة بسياق واحد لا تتعداه إلى غيره إلا من باب الاعتبار أو الاقتداء . فالنصوص والتجارب التأسيسية ، تؤسس لتجارب وأنماط مثالية وأمثولات ترميزية للمحاكاة والتوسيع وإعادة الاستعادة والصياغة . فهي نصوص تؤسس لصياغة الحياة ، وإدارة السلوك البشري ، وتنظيم العلائق بين الجماعات ولإضفاء معاني متسامية على علاقة الإنسان بالعالم والغيب والغير . وبالتالي فالعنف الأصلي عنف أنموذجي ، وضع ليقلد ويحتذى ويعمل به في السلوك الفردي وفي تنظيم الارتباطات الجماعية على نحو يحفظ المثالات الكبرى للجماعة الإيمانية وتماسك كونها الدلالي.وعليه ، فإن الإسلام وضع علامات العنف المحاكاتي أو العنف الشرعي أو العنف المثالي المطلوب من الأمة المكلفة بأداء واجب الشهادة على الآخرين ،أن تحاكيه،إذا استفحل العماء الدلالي أو نشبت الأزمة القربانية أو فتحت ثغرة في الجدارية الكتابية أو التعديدية أو النفاتية .
وبناء على هذه المعطيات ، فإن اعتبار العنف القرآني ، تاريخيا ، مرتبطا بلحظة التأسيس لا غير ، لا يستقرئ الدلالات الحقيقة للنصوص ويغلب مقتضيات الفكرانية على موجبات النظر الفكري المسدد .
2- اعتبر الشرفي العنف الإسلامي الأصلي ، بمثابة استجابة ظرفية لإكراهات زمانية لا مناص من مجراتها لإنجاح الدعوة . والحقيقة أن النص المؤسس ابتدأ بالمسالمة وانتهى إلى المقاتلة ، ولم يعلن في أي نص من نصوصه ، انتفاء العنف الجهادي بعد اكتمال الرسالة . لقد انتقل النص المؤسس من تسويغ العنف الرمزي ضد المعتقدات الأخرى ، إلى وضع الأسس العقدية للعنف القتالي بله الاستئصالي للغير باسم تنفيذ المشيئة الإلهية كما هو الحال في مهابدة بني قريظة .
3- اعتبر الشرفي الاستخدام الإسلامي للعنف القتالي والاستئصالي ضد اليهود خصوصا مشروعا ، ومسوغا من الناحية العملية ؛ أي أن العنف الاستئصالي للآخر المخالف للجماعة الصاعدة ، جائز في اعتبارات التاريخ . فهو يعتقد أن العنف الجهادي كان وسيلة ضرورة لحماية الدين الجديد من تهجمات وتشغيبات وتلبيسات اليهود على المجتمع اليثربي ، ولنشر العقيدة الجديدة بين العالمين . لا يملك الشرفي أمام ضراوة الوقائع ، إلا تبرير ما لا يقبل التبرير ، وتسويغ ما لا يقبل التسويغ ، وتأويل وقائع بما لا يستجيب لسياقها المخصوص .
( قال ابن إسحاق : ثم استنزلوا : فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث ، امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة . وقد قالوا لكعب بن أسد ، وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا : يا كعب !ما تراه يصنع بنا ؟ قال : أفي موطن لا تعقلون ؟ ألا ترون الداعي لا ينزع ، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع ؟ هو والله القتل ! فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
(-ابن هشام – السيرة النبوية – حققها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها : مصطفى السقا و إبراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي – دار ابن كثير – دمشق – بيروت – الطبعة الثانية –2003-ص.797-798).

فالعنف الجهادي والاستئصالي هو النتيجة المنطقية للعنف الرمزي والنظري ( اعتبار اليهود حفدة القردة مثلا ) ؛ فالعنف القرآني تأسيسي ، بمعنى أنه يرمي إلى ترسيخ سلطة الجماعة المؤمنة في حيز معين ضد المنافسين العقديين ومثيري الأزمة المحاكاتية والعنف التبادلي . وبما أن الحيز الافتراضي لعقيدة كونية مثل الإسلام ، هو العالم كله ، فإن العنف التأسيسي ، ليس إلا البذرة المفروض من المخلصين لاكتمال وكونية العقيدة ،أن يعمموها . والتعميم الكوني للعقيدة ، يقتضي الاصطدام بالأغيار العقديين أي باليهودي والمسيحي والهندوسي والمندائي والزرادشتي والبوذي . ومواجهة هؤلاء تقتضي استرجاع السلوك النبوي المؤسس ، والاجتهاد بناء على القياس الشرعي ، لتحقيق المقاصد الأصلية . ولكل هذه الاعتبارات ، فإن سعي الشرفي إلى حصر العنف الأصلي ، في سياق ضيق ، ينكر غياب أي نص يؤكد على ظرفية العنف الجهادي، أولا ،وكونية الإسلام ثانيا . فمادام الإسلام عقيدة كونية ، فمن الواجب على المسلم الوفي للمثال المحمدي ،أن يقتدي بمسلكيته الرسالية ، وأن يحل الأغيار المنافسين على الرأسمال الرمزي التوحيدي إلى حيز الذمة ، والنفاتيين واللادينيين او التعديديين إلى حيز الأسلمة القسرية أو الإفناء المنهجي .
بناء على هذا التحليل ، فإن المقاربة المهادنة للشرفي للعنف الأصلي ، تشف ، تحقيقا، على تخاذل الإصلاحية حيث لا يحق التخاذل .
4- تسويغ الشرفي للعنف الأصلي ، باسم الواقعية التاريخية ، يخالف تأكيده على حقوق الإنسان وكرامة الشخص البشري وعلى الايطيقا الكونية . فالعنف الأصلي حافل بنماذج ذات حمولة كبيرة ، مثل حالة أم قرفة .
( قال ابن إسحاق : فلما قدم زيد بن حارثة آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة ؛ فلما استبل من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني فزارة في جيش ، فقتلهم بوادي القرى ، وأصاب فيهم ، وقتل قيس بن المسحر اليعمري مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر ، وأسرت أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر ، كانت عجوزا كبيرة عند مالك بن حذيفة بن بدر ، وبنت لها ، وعبد الله بن مسعدة ، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر أن يقتل أم قرفة ، فقتلها قتلا عنيفا ؛ ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة ، وبابن مسعدة).
(-ابن هشام – السيرة النبوية – حققها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها : مصطفى السقا و إبراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي – دار ابن كثير – دمشق – بيروت – الطبعة الثانية –2003-ص.1104).
15- الجهاد تنزيل أم تأويل ؟
(وإن دل ذلك على شيء فعلى أن الإسلام ليس في حاجة إلى العنف لكي ينتشر ، وأن الأغراض المحض دنيوية هي الدافع الحقيقي للحروب التي شنها المسلمون الأوائل على البلدان المجاورة لهم ، واستنكف عن استعمال الأوصاف الموضوعية التي تنطبق عليها ، كالاحتلال والغزو والاستعمار – حسب المفهوم الحديث – فاعتبرت جهادا في سبيل الله وتطبيقا لإرادته وسيرا على سنة نبيه . ومعنى أنه تم تأويل الغزوات التي قام بها الرسول لغاية الدفاع عن وجود الدين الجديد ذاته على أنها غزوات هجومية ، وتمت المماهاة بينها وبين ما قام به المسلمون بعده ، فأضفيت عليه مشروعية لم يكن لينالها لولا هذه المماهاة وهذا القياس ) .
(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 115) .

يسعى الشرفي ، إلى نزع الشرعية الرسالية عن الفتوحات الإسلامية ، وذلك بالتمييز بين الجهاد القرآني والنبوي والجهاد الصحابي السلفي التاريخي القائم على تطلعات مادية واقتصادية ذرائعية . فهو متمسك بما سمي بجهاد الدفع النبوي ضدا على جهاد الطلب الصحابي .
وقد استند على انتشار الإسلام السلمي بشرق آسيا ومناطق بإفريقيا السوداء ، للتأكيد على أفضلية نشر الإسلام بالمحاورة والإقناع . وتأسيسا على ما سبق، فإنه ينتصر لطريقة الصوفية في نشر الإسلام ضدا على طريقة الصحابة والتابعين والسلف القائمة على العنف المنهجي والاستئصال الجذري للثقافات والعقائد بالمناطق المفتوحة.
والحقيقة أن نظر الشرفي، لا يحكم التصويب بالنظر إلى ما يلي:
1- عدم التفاته إلى العنف الروحي أو الرمزي ؛ والعنف الرمزي مباطن للنص المؤسس ؛ وعليه ، فإن حصر العنف في الجهاد القتالي ينكر خطورة العنف الرمزي ؛ فالعنف المادي ليس إلا تتويجا لعنف الحقيقة ولعنف الفكر ولعنف العقيدة ،
2- عدم بحثه في تاريخية العنف التوحيدي مثلما فعل في تناوله لقضية المرأة؛ فالعنف الرمزي والمادي الإسلامي، موصول بالتقاليد القتالية التوحيدية العريقة. فقد أظهر اليهود والمسيحيون ، طيلة قرون ، ضراوة في نفي واستئصال الآخر ، وفي فرض الحقيقة الإيمانية التوحيدية على الثقافات ذات الطابع التعديدي أو الوثني .
نقرأ في سفر التثنية ما يلي :
( حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك . و إن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. و أما النساء و الأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا . و أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما ،بل تحرمها تحريما الحيثيين و الأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك).
( التثنية / الأصحاح العشرون / 10/17)
فتفسير الجهاد القتالي لمسلمي الفتوحات ، بالطابع الاقتصادي أو النفعي الذرائعي ، لا يكفي في اعتبارنا ، بالنظر إلى تغييب هذا التفسير للسند الرمزي أو الفكري أو النظري . وقد اشرنا إلى انتساب الجهاد القتالي الإسلامي إلى التقاليد الجهادية التوحيدية بشهادة القرآن نفسه.
يقول الشوكاني : ( وقوله : ( وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ) إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل، كما وقع في القرآن ...)
(- محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – اعتنى به وراجع أصوله : يوسف الغوش – دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى -2002- ص -601) .

3- السكوت عن المستندات القرآنية للجهاد القتالي التوسعي . فالنص القرآني ، صريح في دعوته إلى التوسع عبر الجهاد القتالي أو عبر ما سمي بجهاد الطلب .
( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) ( النساء : 74) .
(يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) .(الأنفال : 15-16)
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) ( التوبة 111).
فالنصوص القرآنية السابقة، صريحة في التنصيص على شرعية بل حتمية القتال، في سبيل نشر الفكرة الإسلامية.فالجهاد الفكري أو الدعوي أو العنف الرمزي ، لا بد أن يتجسد في مؤسسة قتالية اسمها الجهاد . والجهاد القتالي ، ليس محدودا بعصر دون عصر ، أو برقعة أرضية دون أخرى ، فهو وعد تعهده الله وأقره في الكتب المقدسة الثلاثة . فالجهاد القتالي غير مرتبط بوضعية تاريخية متعينة ومحددة السمات ، بل هو سيرورة متدفقة في الزمن القدسي ، وموصولة بتاريخ الوصل بين السماء والأرض . وبناء على هذا الإقرار ، فإن اعتبار الجهاد المحمدي ، جهادا حصريا مرتبطا بحماية العقيدة الجديدة ، من الأعداء التاريخيين والعقديين ، مخالف للحقيقة في اعتبارنا . فالحقيقة القرآنية ، قائمة جوهريا ، على الإقرار المطلق بضرورة سيادة الحاكمية الإلهية وبالأفضلية المطلقة للمعتقد الإسلامي على سائر المعتقدات الأخرى . والإقرار بالأفضلية العقدية يقتضي الإقرار بالأفضلية التداولية أي الأفضلية السياسية والتاريخية للأمة المتفردة بأداء واجب الشهادة على الآخرين .
4- رفض المماهاة والقياس والاستمرارية الروحية القائمة بين الجهاد المحمدي والجهادي الصحابي . فتمتيع الجهاد المحمدي ، بالصفة الاستثنائية يخالف أبسط مقتضيات التاريخية ،طالما أنه يروم عزل التجربة المحمدية عن إطار
05-16-2008, 10:40 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Seta Soujirou غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 696
الانضمام: Jun 2002
مشاركة: #37
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
إضافة جديدة لكتب رابطة العقلانيين العرب

المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول - منصف الجزار
http://www.4shared.com/file/61844570/eed...__-__.html
09-05-2008, 07:32 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
إبراهيم غير متصل
بين شجوٍ وحنين
*****

المشاركات: 14,214
الانضمام: Jun 2002
مشاركة: #38
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب

ألف شكر صديقي سيتا على كل هذا التعب الجبار. ألف شكر لك. كتاب مثير للاهتمام وأطروحته تبين معالجة راقية على مستوى دراسات السوربون وأكسفورد وكامبريدج وتعمد إلى القراءة التجديدية في التعاطي مع الحديث الشريف والموروث عامة؛ هذه هي مدرسة الشرفي وزملاه ولا شك أن كتاب كهذا سيفرح صديقنا "يجعله عامر". ألف شكر.
09-06-2008, 02:20 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
Seta Soujirou غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 696
الانضمام: Jun 2002
مشاركة: #39
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب
في الرابط التالي وضعت كتابين
-الإسلام والحرية - سوء الفهم التاريخي لـ محمد الشرفي
-مفهوم الحرية في الإسلام - دراسات في مشكلات المصطلح وأبعاده في التراث العربي الإسلامي لـ فرانز رزنتال

http://www.4shared.com/file/61577713/cb8...0-_-_.html
09-06-2008, 05:12 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
يجعله عامر غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,372
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #40
سرد إصدارات رابطة العقلانيين العرب

[صورة: dscn5792.jpg]

قراءة في كتاب "إسلام المتكلمين" لمحمد أبو هلال

بقلم خالد غزال
تاريخ النشر: 2008-08-31





مثّل علم الكلام في التاريخ العربيّ الإسلاميّ منذ إرهاصاته الأولى في العهد الإسلاميّ الأوّل فترة النبوّة والخلفاء الراشدين، وصولا إلى ذروة ازدهاره في العصر العباّسيّ، مرحلة مهمّة في الحضارة العربية الإسلامية، لا ينقص من أهميته ما أصابه لاحقا من ضمور وغياب. لاقى هذا العلم اضطهادا وقهرا من المدارس الفقهية التي استطاعت أن تحسم الجدل في قضايا الدين لصالحها منذ نكبة المعتزلة على يد الخليفة المتوكل، بعد أن شهد صعودا في الموقعين الدينيّ والسياسيّ. وإذا كان علم الكلام لا يزال اليوم موضع شبهة بل رفض قاطع من المؤسسات الدينية الرسمية وتلامذتها في التيارات الأصولية والسلفية، إلا أن أحدا لا يستطيع إلغاء وجوده في التاريخ والتأشير على قضايا في الدين والفقه والسياسة خالفت السائد من التقليد و"المحافظة" اللذين كانا سائدين وظلا مهيمنين على الأمور الدينية. لم تنقطع الدراسات حول علم الكلام وما قدمه للساحة الفكرية، سلبا أو إيجابا، من هذه الدراسات الجادة والموضوعية في قراءته، كتاب "إسلام المتكلمين" لمحمد أبو هلال، الصادر ضمن سلسلة "الإسلام واحدا ومتعددا" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي. أصدر الكتاب "رابطة العقلانيين العرب" و"دار الطليعة" في بيروت.

يعرف ابن خلدون علم الكلام بأنه "يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة". لا يختلف التاريخ الإسلامي في إنتاج علم الكلام وفرقه عن الأديان التوحيدية، اليهودية والمسيحية، بالنظر إلى ما تحمله الأديان من أساطير وغيبيات بعيدة عن العقل والمنطق. يأتي علم الكلام أو علوم اللاهوت في إطار إيجاد حلول للتناقضات التي يحملها النص الدينيّ من لا عقلانية، عبر إدخال العلوم العقلية في قراءة هذا النص وما يتفرع عنه من أحاديث ونظريات فقهية.

لكن علم الكلام الإسلاميّ تميز منذ نشأته الأولى بأنه كان جزءا من الحراك السياسي الاجتماعي والصراع على السلطة منذ وفاة الرسول. لذا اتخذ هذا العلم حجما أكبر مما اتخذه في الدينين الآخرين. شكل هذا العلم فريقا في الصراع بين المذاهب الإسلامية خصوصا بين السنة والشيعة، واستخدم كل فريق أطروحاته في تعزيز موقعه السياسي و"الأيديولوجي" لتأمين غلبة ما في التناحر الدائر بينهما. تطرق هذا العلم منذ بداياته إلى قضايا جوهرية تخص الإنسان في علاقته بربه، والإنسان في علاقته بمجتمعه وبالسلطة والحكم. لا تزال أفكار الخوارج حول رفض أن يكون الخليفة مقتصرا على قريش، وعلى تمتعه بقداسة وحصانة تمنع محاسبته من الشعب، تمثل مسائل أساسية في الحكم حتى اليوم. ومثلها ما قالت به "المرجئة" حول مساواة جميع المسلمين في الحقوق والواجبات، وهو أمر يرفض تمييز العرب المسلمين عن الأعراق الأخرى التي عانت من نزعة عربية في التفوق والتمييز عنها، إضافة إلى تأكيد هذه الفرقة على الإيمان الموجود في القلب أكثر منه في الشكليات والمظاهر التي يجري تسييدها على المؤمن، لا تزال هذه القضايا تحتل راهنية في عصرنا الحديث. أما ما قالت به القدرية حول مسؤولية الإنسان عن أفعاله وإرادته في اتخاذ القرار، فهي من الأمور التي يدور عليها جدل راهن بين التيارات الدينية السلفية منها أو ذات الاتجاهات العقلية نسبيا.

يولي محمد أبو هلال الفرقة المعتزلية أهمية خاصة تنبع من الموقع الهام الذي مثلته في تاريخ علم الكلام الإسلامي العربي. فهذه الفرقة لعبت دورا مهما في استحضار قضايا غاصت في عمق النص الديني ورفضت التسليم بظاهر المعنى. واتسع نفوذها عندما تبناها الخليفة المأمون وفرض طروحاتها على الدولة، وتعاطى سلبا وإيجابا مع العلماء والفقهاء وفق موقفهم من أفكار المعتزلة. لم يكن استخدام السلطة العباسية للفرق الكلامية واحتضانها أو اضطهادها معزولا عن الأهداف السياسية لهذه الدولة، وخصوصا حاجتها لإعطاء المشروعية لسلطتها وإسباغ الشرعية على قراراتها، مما يعني أننا كنا أمام استخدام السلطة السياسية للدين في السياسة وليس أمام نقاش كلاميّ مجرد حول هذه القضية أو تلك. هذا يعني أنّ "الفرق الكلامية" كانت تمارس ازدواجا في عملها يتراوح بين النشاط الفقهي ويمتد إلى المجال السياسي، وهو ما يفسر صعود أو انحسار هذه الفرقة أو تلك استنادا إلى طبيعة علاقتها بالحكم السائد.

تميز "المتكلمون" بالاطلاع الواسع على الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وما يتصل أيضا بالأديان التوحيدية، مما جعل معارفهم تضرب في جميع الحقول. امتاز متكلمو المعتزلة بالمعرفة الواسعة في شؤون الفلسفة والدين، لذا لم يكن غريبا أن يقدموا منظومة "أيديولوجية" متكاملة تقريبا عجزت أيّ من الفرق الأخرى عن مجاراتهم في تقديم ما يماثلها. اعتمدوا في محاجاتهم على ما حصلوه من "علوم الأوائل"، وعلى استخدام النص القرآنيّ في تبرير حججهم وإعطائها مصداقية وشرعية في الآن نفسه. قالوا بمبادئ خمسة شملت جميع مناحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وهي مبادئ ما تزال تكتسب حيوية في السجال الفقهيّ الدائر راهنا في سياق تجديد الفكر الديني وتخليصه من التراث الخرافيّ والأسطوريّ.

فالتوحيد، المبدأ الأوّل عندهم، كان عنوانا لمعركة المعتزلة ضد الجماعات والفرق الدينية التي تقول بتعدد الآلهة سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، والعدل الذي يمثل المبدأ الثاني يؤشر إلى مسؤولية الإنسان عن أفعاله ومحاسبته على ما يقوم به خيرا كان أم شرا. أما الوعد والوعيد، وهو المبدأ الثالث، فهو"ربط للفعل بالنتيجة والدنيا بالآخرة والإنسان بالله وتأسيسا للحرية على قاعدة المسؤولية"، فيما يشكل المبدأ الرابع أي المنزلة بين المنزلتين موقفا سياسيا-دينيا قالت به المعتزلة رفضا لتصنيف الناس وتكفيرهم استنادا إلى أفعالهم أو أقوالهم أو معتقداتهم. وأخيرا يمثل المبدأ الخامس القائل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موقفا من النظام القائم يحوي سعيا إلى إصلاح السلطة بما يجعلها أكثر فائدة للجمهور.

عندما يُقرأ علم الكلام بمنظار الحاضر ومدى الإفادة منه، يمكن القول إنّ الكثير من القضايا السجالية التي أثيرت في زمان ازدهار هذا العلم يُصنّف في باب الأحداث التاريخية المعبرة عن معضلات زمنها. لكن القديم – الجديد الذي أتى به علم الكلام وما زال يكتسب كل حيويته وأهميته إنما هو اعتماد العقل حكما في قراءة الأمور وتغليبه على ما يناقضه. أتى اعتماد العقل بداية جوابا عن تناقض يحمله النص الديني في أمور معينة حيث ترد الآيات ونقيضها في الآن نفسه، وهو أمر وضع علماء الدين أمام مأزق تفسير هذا التناقض انطلاقا من رفض كون الله يوحي بالشيء ونقيضه مما يمس بالسيادة الإلهية. كان استخدام العقل وسيلة لتنزيه الله من هذا التناقض ولحل مشكلة الآيات ذات المعاني المختلفة. وبذلك كان المتكلمون يحاولون الجواب عن إشكالات مجتمعية لم يأت النص القرآنيّ على معالجتها بشكل واف، فيما باتت هما مجتمعيا يتطلب أجوبة محددة.

إضافة إلى ذلك كان اللجوء إلى العقل جوابا أيضا على ما يحمله النص من أمور تقع في باب الأساطير واللامعقول، مما استوجب بناء منظومات عقديّة تتمتع بحدّ أدنى من "الانسجام والمنطقية والتجريد تتجاوز عفوية نصوص الوحي". واكتسبت هذه القضية أهمية أكبر بعد تفشّي النزعات الأسطورية لدى بعض الفرق والمذاهب والتي ذهبت بعيدا في "تأليه البشر"وإسباغ قدسية على الخوارق. أما العامل الثالث فيتصل بالجدل الذي دار حول مسائل فلسفية خصوصا من جانب غير المسلمين واستوجب تصويب ما يقولون به بما يؤمّن توافقا بين العقل والشريعة ويحمي الإسلام من "الهرطقات".

بعد مرور أكثر من ألف عام على الجدل الكلاميّ والقضايا التي أثارها، وبعد تقلصه إلى الحد الأقصى لصالح الفقه والفقهاء الذين باتوا منتشرين داخل المجتمعات العربية والإسلامية، مغرقينها بفتاوى كثيرا ما تبتعد عن جوهر الدين، بل تصبّ في تجهيل المجتمع وإعادته إلى زمن الأساطير والخرافات، في هذا الزمن الرديء يجري استحضار ما قدمه علم الكلام من أجوبة عقلية ومن سجال اتسم غالبا بحرية إبداء الرأي من دون الاتهام بالتكفير والزندقة للمخالف، ليصفع الموجة الصاعدة في العالم العربي والإسلاميّ والمتجهة حثيثا لتكميم أفواه من لا يجاري الفقهاء في فتاويهم وطروحاتهم. إن استحضار الجانب العقلي لعلم الكلام هو استحضار يصب في قلب المعركة التي تحتاجها المجتمعات العربية والإسلامية في الإصلاح الدينيّ وتجديد الفكر الدينيّ بما يجعله متوافقا مع العقل ومع مقتضيات الزمن الراهن، وهو أمر تحتاجه هذه المجتمعات من أجل الانتساب إلى العصر الحديث والخروج من أسر القرون الوسطى وموروثاتها المتخلفة.
09-13-2008, 09:38 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  مما أعجبني: نقض أصول العقلانيين :: iAyOuB 0 1,419 04-24-2011, 01:16 PM
آخر رد: iAyOuB
  الإنسان والمقدس _ روجيه كايوا .. أحدث إصدارات المنظمة العربية للترجمة ali alik 3 3,090 03-18-2011, 05:18 PM
آخر رد: yasser_x
  العدالة كإنصاف - جون رولز .. من إصدارات المنظمة العربية للترجمة ali alik 0 2,776 08-13-2010, 02:20 AM
آخر رد: ali alik
  روبرت هيلند في كتابه «تاريخ العرب في جزيرة العرب» بسام الخوري 0 1,504 07-03-2010, 12:16 PM
آخر رد: بسام الخوري
  إصدارات مكتبة الإسكندرية الحوت الأبيض 0 1,896 06-11-2010, 02:34 AM
آخر رد: الحوت الأبيض

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS