أجملُ هديةٍ هي تلك التي لا نتوقّعها.
أجملُ هديةٍ هي تلك التي تأتينا على غير مناسبة ودون موعد مسبق، كأنّما جاءت لتعلن عن نفسها هدية فحسب.
لهذا اخترتُ أن تكونَ هذه هديّتي لك.
لهذا آثرتُ ألا أخبرَكِ عنها كي تكتشفيها مصادفة في بريدِكِ كهديةٍ أرسلَها لكِ القدر.
بتواطؤ أحلامنا مع أقدارنا نغمس أقلامنا بمداد الأمل (والخيبة) لنخطّ لأولئك الذين نحبّهم بضع سطور على أمل أن نتركَ أثرًا في يومهم أو على قلبهم، وعلى حلم أن نقلبَ حياتهم.
كيف ذلك أن أصبحتِ مدينةً للحرف والكلمة يطوف شوارعَها وحي الكلام الضائع؟
كيف ذلك أن أصبحتِ حقلاً من سنابل الشعر وقنابل الشعور؟!
كيف ذلك أن أصبحتِ –على حين غرة- بحرًا من العطش ونهرًا من الحنين؟
بعضُ الحنين يُعطِبُ الحواس ويقيّد الذاكرة، تماما كما تُثيرُ بعضُ النساء شَبَقَ الكتابة بحضورهنّ، ويقيّدنَ الخيال بغيابهنّ. تماما كما تفعلين.
هنالك أشياء لا تعدو كونها حدثاً عابرًا على هامش الحياة كقطعة حلوى نتناولها على زاوية المتعة.
وهنالك أشياء لا ترضى بأقلّ من العناوين الرئيسيّة في نشرة حياتنا مثل زلزال مدمّر يطمس كل ما قد كان قبله ليستأثرَ وحده بشرفِ ولادةٍ جديدة، وليرسمَ معالِمَ مستقبلَنا وتاريخَنا على النحو الذي يريد.
هنالك نساءٌ نشتهي أن نستأثرَ بهنّ.
وهنالك نساءٌ نشتهي أن يستأثرنَ بقلوبنا.
أخشى أن ندخل في لعبةٍ مع القدر لا نعلمُ فيها على أي الخيول نراهن.
أليست الحياة في النهاية لا تعدو كونها رهان إما أن نكسَبَ وإما..
أيا امرأةً من الحبر الجميل أيّ يدٍ إلهيةٍ تلك التي صبغت طين جسدكِ بضياء الملائكة ونار الشياطين؟!
أيا فتنةً أشدّ من القتل إلامَ ستنتهي الكتابة عنكِ؟
أعجبُ كيف تستحيلُ الكتابة عنكِ عبئاً وعبثاً، وتأخذُ الكلمات ملامحَ بؤسي بينما تستأثرُ الصفحات بتعابير بأسكِ!!
أيا امرأةً من الصمت القاتل قولي لي كيف تغدينَ كتابًا من الأسئلة وفيضًا من التساؤلات؟
أتعلمين الآن: أقسمُ أن لم يحدثْ أن ضعتُ من قبل بين فيضٍ من الرغبةِ وفيضانٍ من الرهبة!
كيف ذلك أن ينضبَ معين الكتابة لأجل امرأةٍ تتّشحُ بسوادِ حزني وحمرةِ جنونِها وخضرةِ الوطن وبياضِ الإلهام؟!
هل يحدُثُ أن تُصبحَ الكتابة إليكِ ملاذًا في الغربةِ وتصبحينَ قناةً أشتمُّ عبرها رائحة الوطن؟
أيحدُثُ أن تُصبحينَ الوطن؟
أيا وطناً من الحرْقَةِ والحزنِ بعضُ القصائِد تغتالُ شاعرَها لتحيا.. وقد يَحدُثُ أن يقتُلَ وطنٌ أبناءَه ليبقى.
تبًا للكتابةِ ما لم تكن عنكِ.
سُحقًا للحروفِ ما لم تكن لكِ.
هل أبدو لكِ الآنَ عاشقًا صغيرًا؟
أنا أعشقُ من الورود تلك التي لا ميعادَ لتفتّحِها. تمامًا كما الكتابة عنكِ وإليكِ وَحْيًا يهبِطُ دون أن يحجِزَ معيَ موعدًا مُسبقًا.
بعضُ النساء جريمةٌ لا تُغتفر، والكتابة إليهنّ تحمِلُ دليلَ إدانتنا.
الآنَ سأكتُبُ آخرَ اعترافٍ قبل أن تُصدري حُكمَكِ بسجني أو إعتاقي بغرامةٍ كتابيّةٍ باهظة: إن الكتابة عنكِ تتجاذبني بينَ قُطبَيْ العقلِ والجنون، وتتنازعني بينَ عذابِ الكُفرِ وثوابِ الإيمان، هي شيء أقرب إلى بُعدِكِ، وأبعد من قُربِكِ، ولكنّها.. لا تكونُ إلا بكِ.
لم يستغرق الأمر طويلا، ساعة أو أقل كنّا قد أصبحنا في المدينة العاصمة.. كان عليّ أن أنتظر في المطار في المطار كما الآخرون حتى تأتيَ سيارة لتقلّنا إلى الفندق. كان كلّ شيء يبدو عاديًا حتى الآن؛ لا فرق بين هنا وهناك سوى سبع ساعات في التوقيت ولغة لا نتحدثها بطلاقة!
من منكم يذكر هذا التاريخ جيّدا؟!
غادرنا المطار متّجهين إلى الفندق، ممنّين أنفسنا بنوم على فراش وثير بعد سفر مجهد واختلاط ليلنا بنهارنا، أو بالأدقّ: انقلاب ليلنا بنهارنا!!
وصلت إلى الفندق دون احساس بالغربة، كنت أحسّ فقط بعدا عنكِ، أنا الذي لم أعتد الابتعاد عنك لأكثر من يوم أو ليلة. في ذهني كنت أراجع كلّ ما حدثتني أنت به عن 15 سنة من العمر قضيتِها في أمريكا، رحت أقارن بين حديثك وبين الذاكرة وأجمع معهما ما أشاهد الآن مع ما كنا أشاهده في الأفلام! شعرت أني كنت هناك من قبل مرّات كثيرة.. كنت قد سافرت إلى هنا عدّة مرات معك، حديثك رسم لي معالم المكان كما أراها الآن تماما.. لكن القدر كان يخبئ لي أشياء أخرى، مفاجئات ستغيّر ملامح الغربة لتصبح الأحبّ إلي والأبغض في آن.
ما أن وصلنا الفندق حتى نزل إلينا رفاق كانوا قد سبقونا وعيونهم تفيض بالدموع..
ما الذي يبكيهم في مثل هذا الصباح المشحون بالرطوبة والبعد؟!
يا رفاق اليسار في زمن اليمين أي قدر ذلك الذي رماكم في الحزن مع شمس الصباح؟
هل اشتاقت أيديكم لحجارة الخليل وبيت لحم ورام الله ترمون بها جنود الاحتلال، أم اشتاقت للبندقية وضغط الزناد وحنّت أنوفكم لرائحة البارود والرصاص تصلون به وجوه العدو؟!
لست أظن أنّ هنالك ما تغيّر في الوطن في بُعدكم؛ فما زال القتل هو القتل، ولا زال الهدم هو الهدم، والدمار ذات الدمار، والخراب نفس الخراب، ولا زال المنتفعون وتجّار الجملة يحيون على دماء عايدة والدهيشة وبلاطة وقلنديا وجباليا ورفح والنصيرات وووووو.... فما الذي تغيّر هذا الصباح؟
أما زال للشهادة نفس طعم الشهادة؟
كنت أريد أن أوقظ شهيدا لأسأله عن طعمها حين علمت سرّ ذلك الدمع.
للوطن أن يخطّ ملامحنا على النحو الذي يريد.
للوطن أن يرسم معالم تاريخنا على الوجه الذي يحلو له.
للوطن أن يضحي بنا..
كان حجم التضحية ذلك الصباح أكبر مما اعتدنا عليه حتى ذلك الحين.. ولم يكن يدور في خلدنا ولا دار أنّها ما عادت لتنحسر أمام مدّ التعسّف والطغيان بعد اليوم.. كانت فاجعة بكل ما تحتمل الكلمة من معانٍ، في صباح هذا اليوم أختلطت قهوة الصباح بأوراق المكتب وبالدماء، لم تستقرّ رصاصة في رأس أحدهم، بل فجّر صاروخ جسد أحدهم.. لقد أستشهد الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ لقد أستشهد الرفيق أبو علي مصطفى.
لم يَخطر ببالي سوى هذه وأنا أستمع لذلك الناي يعزف فرحا شجيا. لعلّ حبي له ما أثار فيّ إحساسا مبهما بالزوال.. ولعلّها تراكمات المرض والخوف. ولكنّي أعتقد أكثر من أي شيء أنّ حبّك ما يرسم لي طريق بقائي.. وزوالي..
شكراً، لأنّكِ بعثتِ الخلق في الدمار وجعلتِني أرقصُ بين الخراب.
شكراً، لأنّكِ نفختِ روحَ الكتابةِ في العظام وهي رميم.
شكراً، لأنّكِ سرقتِ من حبري وصفحاتي أجمل كلامي، وسجنتِني بين سطورك.
شكراً، لأنّكِ عن فهمي كبُعدِكِ عن الكتابة.
ذات ليلة، وذات صباح، سمعتُ صوتَكِ كأجمل ما يكون العزف على آلة لم تُخلق بعد، ولا يحترفُها سوى صوتك.. واحترفتُ أنا الجنون.
ذلك الناي الذي سمعتُه ذات مرّة لم يجعلني أذكر سوى مقطعا شعريا لمظفّر النوّاب يقول: ".. أسمعُ القبّرَةَ الصفراءَ تنعانا..".
ها أنا بالكتابةِ أنعى إليكِ نفسي؛ حريقاً آخرَ في مقبرةِ من أحبّوكِ، ولكنّي بخلافهم: أحببتُ نفسي خلالكِ؛ لأنّكِ ألهبتِ ألمي، فألهمتِ قلمي.
بعض الذين يدّعون الشرف والايمان ويتجارون بكل شيء حتى شرفهم جاء/ت إلى مصرف ي/تحمل شيكا للأخلاق مزيّفا وبدون رصيد. إكتفيت بالنظر إلى الباب وفهم/ت لوحده/ا جوابي.
ألم أقل ذات يوم: ما أقسى الابتذال وما أسهل ما يمارسه البعض.
كنت أعني ذات الشخص!
أنا جدّ آسف بشأن ما سأكتب هذه المرة.. وأعلم أني انقطعت عن هنا لصالح هناك!!!
مع ذلك:
فقد ساءني أيتها "الصديقة" أن أرى أنّك تتجسسين على يومياتي بدل أن تقرأيها كما الجميع وتراقبين عن كثب ما أكتب عسى أن تحصلي منه على معلومة تفيدك عن حياتي الخاصة. أليس هذا قمة في الغباء!!
لأني انقطعت عنّي أعود للغة حاملا خمري.. ولأني أعود لأرحل أكتبُ كي أحمل من الكتابة زادا لغربتي، ولأني في وطني غريب عنك، ولأن في غربتي لي فيك وطن.
ما أسرع ما يخطفنا العمر! مرّت سنون كأن لم أرك، كأن لم أعرفك كأن لم تجمعنا غربة، وكان العمر أصغر من تفاحة نقضمها بعد غداء لم آكل منه شيئا في مطعم مكسيكي؛ بعيدا عن كل الناس كنّا، وبعيد عن نفسي كنت، وكم كنت أقرب إلي من نَفَسي!!
أيهذا الحنين تقتلني وأنت ملقًىً فوق خزانتي حقيبة يثقلها الغبار.. لو كان لريح ان تحمل روحي لكانت فوق سريرك.
في مثل هذا الليل لا تنفتح الرؤى إلا على أمل تُعللنابعودة الروح إلى الرحلة. ويتقتلني الحنين فما يقتلك سوى أوراق الدراسة؟
ســــــــــــــــــــــــؤال!!!