اقتباس: zaidgalal كتب/كتبت
لنستمع إلى الألباني وهو يحكم بضعف أحد روايات الإمام البخاري ثم يقدم ما يشبه الاعتذار:
أهل العلم الصحيح من المسلمين لا يطعنون إلا فيمن قدروا على طعنه وبلغوا في العلم درجته ومكانته أو قاربوها على أقل تقدير، وإلا كان طعنهم مردودا على أنفسهم، إذ الطاعن الهزيل لا يقوى على الجبل العظيم، ومن ذاك ما تنسبه للشيخ الألباني رحمه الله تعالى والذي أسأل الله عز وعلا أن يغفر له بصالحاته زلته الشنيعة العظيمة هذه، فإن من لا يُحتج بلسانه في العربية من هذه القرون لا يحل له الطعن على أهل اللغة في قرونها المعتمدة، وكذا حال الحديث فلا حل لمن لم يبلغوا في العلم معشار معشار علم البخاري أن يطعنوا في حديث صححه واعتمده، بعد أن راجعه ونقحه.
ابن الصلاح مع علمه وفضله وهو من هو في علم الحديث قد نص في مقدمته الشهيرة على أنه لا يتجاسر وهو في ذاك الزمان قبل ما يقرب من السنين الثمانمائة على تصحيح الحديث وتضعيفه، فكيف بالطعن بالجامع الصحيحه الذي جزم بصحة أحاديثه جبل الحفظ والضبط العظيم، إمام الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه؟!
إن طعن رجل من هذه الأمة في هذا العصر عصر الانهزام والبعد عن نصرة الدين على إمام من أئمة المسلمين في عصر النصرة لله تعالى رب العالمين لهو من الأفعال الشنيعات العظيمات، بل لعله يكون في باب العلم من الكبائر الموبقات.
أقول: إن تضعيف الشيخ رحمه الله تعالى وتجاوز عنه بكرمه وجوده لا يعدو محاولة لتطبيق قواعد جامدة على أصول راسخة في الصحة والثبات، من غير ما بحث واستقصاء وتمحيص ومراجعات، كالقاضي الذي يُحكم القوانين الجامدات في وقائع الأحداث من غير ما بحث ونظر ومطالعات، وإن الشيخ قد وجد في ما يرى علتين للحديث أعله بسببها والحقيقة أن قوله رحمه الله تعالى هو المعلول الذي لا يصح بحال، فإنه قد خالف إمام الأئمة وعلم الأمة، والعلة إنما تُعرف أول الأمر بالمخالفة، والمخالفة هذه قد استوجبت الشذوذ في قوله بل والنكارة والإنكار، إذ يخالف ثقة الثقات وهو بجنبه لا يرقى إلى حتى إلى ضعيف.
وأما قوله في هذا الحديث: "له علتان: الأولى: سوء حفظ عبد الرحمن هذا مع كونه قد احتج به البخاري ، فقد خالفوه" وسوقه بعد ذاك ما يؤيد رأيه وقوله في تضعيف هذا الحديث الصحيح فمردود بتوثيق ابن القطان إمام عصره في الحديث والجرح والتعديل، ومردود بإخراج البخاري له واعتماد الأمة لصحيحه بعد تحديثه به، وإن كان من كلام في هذا الحديث سبق الصحيح فمنسوخ بتصحيح الإمام العلم الكبير له، وهو الحجة البالغة في التعديل والتجريح والتصحيح والتضعيف.
ومع هذا ومن باب البيان والتبيين أسوق أقوال العلماء في المضعف من هذا السند الموصل للحديث فأقول: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المديني مولى عمر بن الخطاب، قال ابن معين: "قد حدث يحيى القطان عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار". قال: وفي حديثه ضعف"، وقال في موضع: "قد حدث يحيى بن سعيد القطان عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وحدث عنه الأشيب وحدث عنه أبو النضر
فحسبه أن يحدث عنه يحيى بن سعيد"، وقال أبو زرعة: "ليس بذاك"، وقال أبو حاتم: "فيه لين، يكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال ابن عدي: "بعض ما يرويه منكر مما لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء"، وقال الدارقطني: "أخرج عنه البخاري وهو عند غيره ضعيف فيعتبر به".
أقول: فإن ابن معين قد نص على ضعف في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ولم يضعفه، وشتان بين قول القائل في الراوي: "ضعيف"، وبين قوله: "في حديثه ضعف"، فالأول فيه الجزم بضعفه والثاني تليين من غير ما جزم، بل إن الأول والثاني معه ما فُسرا ولا بُينا، والذي لا يقبله أهل الحديث في مقابل قول الموثقين لا سيما إن كانوا من أئمة هذا الشأن، فكيف وقد روى عنه ابن القطان وخرج له البخاري في الصحيح، واكتفى أبو داود بقول: "حدث عنه يحيى القطان" ليدلنا على كفاية ذاك الراوي برواية ابن القطان رحمه الله تعالى عنه، ونص أحمد إمام السنة في عصره على مقاربة هذا الرجل صحيح الحديث، والذي لا ينزل بقوله هذا عن رتبة الحسن بحال من الأحوال إن أخذنا بقوله وحده ولم نعضدده بفعل ابن القطان والبخاري وقول أبي داود، والذي يكون الراوي بهذه الأقوال والأفعال قد جاز القُنطرة وإن نقده بعض المتشددين من غير ما تفسير وبيان كقول أبي حاتم: "يُكتب حديثه ولا يُحتج به"، وأما قول ابن عدي: "بعض ما يرويه منكر مما لا يتابع عليه" فهذا صحيح نعم إن صحت تلك الآثار التي أوردها ابن عدي إليه، فإن الرواة عن عبد الرحمن لا يرقون في مجملهم عن رتبة الصدوق أصحاب الحديث الحسن، وقد يكون الخلل منهم لا منه، هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
وأما قول الشيخ الألباني في بيانه العلة الثانية كما يزعم رحمه الله تعالى: "و الأخرى : مخالفة الإمام مالك إياه في رفعه ، فقال في " موطئه " ( 3/149 ) :
عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح السمان أنه أخبره أن أبا هريرة قال : فذكره
موقوفا عليه و زاد :" في الجنة " . فرواية مالك هذه موقوفا مع هذه الزيادة يؤكد أن عبد الرحمن لم يحفظ الحديث فزاد في إسناده فجعله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، و نقص من متنه ما زاده فيه جبل الحفظ الإمام مالك رحمه الله تعالى".
وأما قوله هذا فأقول فيه: فأما هذه المخالفة فمخالفة صحيحة لا علة فيها قادحة، بل هي علة قد عرف البخاري سلامة الحديث من قدحها، وسنأتي على بيانها نجلوها بإذن الله بالبيان والشرح والتفصيل في نقاط منتظمات:
أولا: إن عبد الرحمن الذي قد ضعف الحديث بسببه الألباني ما خالف مالكا في معنى الأثر الموقوف على أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولكن خالفه بالرفع فحسب، والذي هو لا يختلف في النتيجة عن حديث مالك أبدا، فإن الموقوف في الأحكام والعقائد له حكم المرفوع، فإن الصحابي مؤتمن ومأمون لا يحدث ولا يقطع إلا بما هو مقطوع.
ثانيا: الأثر هذا قد رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد صحيح سليم عال رفيع يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن المبارك: "أخبرنا موسى عن علقمة بن وقاص الليثي ان بلال بن الحارث المزني قال له اني رأيتك تدخل على هؤلاء الأمراء وتغشاهم فانظر ماذا تحاضرهم به فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله له رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله عليه بها سخطة إلى يوم يلقاه وكان علقمة يقول رب حديث قد حال بيني وبينه ما سمعت من بلال. (الزهد لابن المبارك- صفحة 490).
فهذا إسناد صحيح، يرويه ابن المبارك في كتابه عن موسى بن عقبة عن علقمة بن وقاص عن بلال بن الحارث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا إن دلنا على شيء فإنما يدلنا على ذاك الأثر وصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عبد الرحمن قد اصاب في حديثه هذا وما أصاب إلا الصحيح.
ثالثا: مخالفة عبد الرحمن في إسناده مع تقوية ذاك الشاهد المرفوع يدل على ثبات كلامه وصحته، وأن مخالفته هذه لا تعدو كون هذا الخبر قد روي عن أبي هريرة مرفوعا مرة وأخرى موقوفا، سمع عبد الرحمن المرفوع دون مالك فرواه ولم يروه مالك، والله تعالى أعلى وأعلم.
رابعا: هناك آثار عديدة بهذا المعنى مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الوقت لا يسعفني لمراجعتها هذه الأيام، وعلي إن وجدت الوقت لمراجعتها راجعتها وبينتها إن شاء الله تعالى.
النتيجة:
أولا: الحديث هذا متنه صحيح سليم لمجيئه من طريق آخر لا شيب ولا عيب فيه، وعبد الرحمن هذا لا يصح إلا أن نقول فيه: "ثقة" على أقل تقدير إذ يروي عنه ابن القطان ويخرج عنه البخاري حديثا معلولا -بقادح في الظاهر- في كتابه الجامع الصحيح، مع عدم تفسير الجرح الذي كان من أحد ألأئمة في هذا الشأن لكن المتعنتين، والتعديل عند أهل الاصطلاح مقدم على الجرح غير المفسر، لا سيما إن كان قائله أحد المتعنتين.
ثانيا: ضلال كل من يطعن في صحيح البخاري لجهل علماء هذا الزمن بالنسبة لذاك الجبل الكبير، فضلا عن العوام المتلقفين لبضع كلمات من هنا وهناك.
ثالثا: فساد الطعن في أحاديث الصحيح الواقع بسبب التسرع وإعمال الأدلة الجامدة على كتاب قمة في فقه الحديث، والذي لا يصح طعن طاعن فيه إلا أن يكون من أهل الاجتهاد والفهم في هذا الجانب العظيم.
رابعا: سلامة ما في البخاري لا تعني عصمته من الخطأ، وهو في السلامة والصحة والضبط كالأستاذ يحل أسئلة التلاميذ، أو كالطالب المجد يجيب عن أسئلة الامتحان وينال الدرجة التامة من غير ما نقصان أو تقصير.
خامسا: الشيخ الألباني مع علمه وفقهه رحمه الله تعالى قد لزم الأدب في حق الصحيح فما وصف الحديث بعد إخراج البخاري له بالضعيف، ولكن قال: "إسناده ضعيف" وأما إطلاق الضعف ذاك فما ذكره إلا وصفا في الأصل لصورة الأثر أمامه قبل التخريج، وإن دل هذا على شيء فيدل على قلة أدب من يضعف حديثا في البخاري مع كون هذا الشيخ الكبير مع جلالة قدره والإشارات التي ملكها على ضعف الحديث عنده لم يطعن فيه، وقد سبقه في هذا الفقه الإمام الدارقطني إذ جعل المحفوظ من وراية مالك وما ذكر نكارة في رواية البخاري أو طعن عليه أو فيه.