تقزيم العقل
( 2 من 3 )
" من أحبّ صاحب بدعة ( صاحب رأي ) أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه. "الحنابلة السلفية.
حدثان شكلا منعطفا حادا في مسار العقل العربي و قاداه إلى الجمود و التيبس ، الأول سياسي هو استخلاف أبو الفضل جعفر المتوكل على الله بن المعتصم (847-861) م ، و ما صاحب حكمه من القضاء على الإعتزال و العقلانية ، و الثاني ثقافي ( رمزي ) هو نشر أبو حامد الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة" سنة 1095م معاديا فيه للحراك الفكري و منظرا للأشعرية ، و برغم مرور 250 سنة تقريبا بين الحدثين إلا انهما يكادا يكونان متعاصرين لفرط تكاملهما في القضاء على العقل المسلم و فرصه في النمو و الإزدهار.
اقترن الفكر العقلاني العربي بالمعتزلة والفلاسفة الذين كانوا ينتمون إلى أفضل تقاليد الفكر الإنساني الذي يضع الإنسان في مركز الكون ، و يراه حرا ذا إرادة مختارآ لأفعاله ، و تصوروا التاريخ كما تراه الثقافة الإنسانية المعاصرة ارتقاءا متتاليا . اعتمدت المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي، ولم يكن هذا الفكر بعيدًا عن حركات التجديد الأدبي . و لكن تلك المرحلة الذهبية كانت قصيرة العمر ، حيث جاءت النهاية الدرامية لعصر العقل و تصاعد نزعة تقديس الماضي مع هزيمة النفوذ الاعتزالي على أيدي الحنابلة, ونجاح الانقلاب السنّي الذي قاده الخليفة المتوكل وهو الذي جعل الدين غطاء للسياسة ، هذه العلاقة التي أسست للعقلية السياسية الإسلامية حتى اليوم . إذا تحالف المتوكل مع الحنابلة و أطلق يدهم ضد أعدائهم التقليدين من المعتزلة و أباح الهجوم عليهم و إلحاق الأذى بهم ، واستبدال مذهب السلف وأصحاب الحديث بالإعتزال و إعمال العقل . وهو ماجعل الخليفة المتوكل نصيرًا للاتباع وعدوا للابتداع و للمعتزلة الذين ارتبطوا رسميًا بالدولة العباسية منذ عصر الخليفة المأمون .
كان نهي الخليفة الجديد - المتوكل - الناس عن النظر والمباحثة في الجدل, وأمرهم بالتسليم والتقليد, قرين إظهار أهل السنة والجماعة, والانتصار لهم وبهم على أعدائهم التقليديين الذين تمسكوا بمبدأ الاختيار الإنساني, وقرنوه بمعاني التوحيد والعدل, ومضى الخصوم الجدد, بعد انتصارهم المؤزّر في مطاردة فلول المعتزلة, وتجريم وتحريم أفكارهم, وإقصائهم واستئصالهم من كل موقع, معتمدين في ذلك على ما ذكره المسعودي من أن المتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل, ونبذ ما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق, وأمر بالتسليم والتقليد, كما أمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار أهل السنة والجماعة, وكتب بذلك إلى الأمصار الإسلامية. وكانت النتيجة دخول المعتزلة إلى مرحلة التقيّة والاستخفاء, خصوصًا بعد أن شاعت الشعارات القمعية التهديدية, التي أشاعها المنتصرون الذين أطلقوا على أنفسهم (أصحاب الحديث وأهل السنة والجماعة), وهي تسمية حصرية لهم وإقصائية لغيرهم الذين أصبحوا (مبتدعة) مقترفين إثم بدع الضلالة التي تفضي إلى النار, فحق عليهم العقاب الذي يخرجهم عن المدار الآمن لأهل السنة والجماعة, خصوصًا مع وجود أدوات نسق أيديولوجي, ظلت تردد فيه وبه شعارات من قبيل:
- من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع, ومن صافحه فقد نقض من الإسلام عروة عروة.
- من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه.
(ألا يذكرنا ذلك بما حدث في مصر في السبعينات و الثمانيانت و حتى اليوم ؟!)
ومع مطاردة المعتزلة وتعقّب فلولهم, ووصم المنتمين إليهم بما يخرجهم عن الإسلام, تصاعد نفوذ التيار الاتباعي المعادي للعقلانية, مؤسسًا رؤية مغايرة للعالم, عمادها الزمن المنحدر والإنسان المجبور, وفرض هذه الرؤية بالتحالف مع الدولة التي وجدت في إشاعتها ما يبقي عليها, ويدعمها في نفوس العامة, الذين ظلوا أئمة التيار المنتصر, يأمرونهم بطاعة الله والرسول وأولي الأمر, وأهم من ذلك عدم الخروج على الحاكم وإن جار, حتى لا تكون فتنة, وتسليم أمره إلى الله الذي أسلمناه كل أمورنا, ومايز بيننا في المال والعلم والمكانة, عدلا وحكمة.
وكان صعود مذهب الاتّباع بمنزلة تحويل جذري لمسار التيارات الفكرية, والانتقال بها من أقاصي العقلانية إلى طرفها النقلي الذي يضيف إلى كراهة إعمال العقل تحريم التأمل الفلسفي المقرون بالمنطق . يمكن القول إن ازدهار الإبداع العربي, سواء في النثر والشعر, كان موازيًا لازدهار الفكر العربي, والتيارات العقلانية والنزعات التجريبية, كما كان انحداره موازيًا لانحدار هذه التيارات والنزعات التي تجاوبت معه في الحيوية, كما تجاوب معها في الجمود والتقليد الجامد الذي أحال الابتكار الشعري إلى عقم كامل.
اعتبر محمد عابد الجابري أن أهم عامل ساهم في تكوين العقل العربي هو عصر التدوين ، لأنه الإطار المرجعي الذي يشد إليه جميع فروع الثقافة وينظم مختلف تموجاتها اللاحقة إلى يومنا هذا، فصورة العصر الجاهلي وصورة صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي إنما نسجتها خيوط منبثقة من عصر التدوين الذي ابتدأ في العام 760 م . ثم درس الجابري الأنظمة المعرفية التي شكلت بنية العقل العربي، وأشار إلى أزمته التي نتجت عن تصادم وتداخل الأنظمة المعرفية الثلاثة وهي: البيان والعرفان والبرهان، واعتبر أن شخصية أبي حامد الغزالي تجسد هذا التصادم والتداخل, وتجلى ذلك في أزمته الروحية التي أفقدته توازنه مرتين, والتي تحدث عنها في كتابه "المنقذ من الضلال".
ثم أشار الجابري إلى لحظتين متمايزتين في العقل العربي: الأولى، تمتد من بدايات عصر التدوين إلى لحظة الغزالي كان العقل العربي فيها فاعلا منتجا. والثانية، ما بعد لحظة الغزالي ابتدأ ما أسماه بالتداخل التلفيقي بين النظم المعرفية الثلاثة وأصبح العقل العربي فيها جامدا. و كما ذكرنا سابقا .. نشر أبو حامد الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة" سنة 1095م، فكان ذلك نقطة مفصلية في تاريخ العقل الإسلامي ، و علامة علي انكسار الفكر العقلاني ، هذا الإنكسار سرعان ما انتشر من مركز الدولة إلي أطرافها ، و قد اجتاحت تلك الموجة اللاعقلانية العالم الإسلامي كله ، فكان من ضحاياها ابن رشد المتوفي في 1198 م ، و هكذا دخل العقل العربي في غيبوبة عميقة لم يفق منها حتي الآن . من يقرأ كتاب الغزالي " إحياء علوم الدين " سيجد أن مفهوم العلم في تصوره و تصور كل منتسبي الثقافة الإسلامية هو رسم لكل خطوة لمن أراد نعيم الآخرة ، و لم يكن الغزالي يرى أن العلوم الفيزيائية هي من العلوم المقصودة بالإحياء ،و بالتالي مما يجب السعي إليه . إن تضييق مفهوم العلم ليكون العلوم الدينية-التي تعني باختصار ثرثرة الفقهاء-هو قصر التفكير فيما لا طائل وراءه ولا تكسب العقل ملكة اللهم سوى بلادة الذين يستظهرون النص المصمت بلا إعمال للعقل النقدي .
يرتبط ذلك بفكرة أن الشريعة وعلومها قد كملت، وكما أتم الرسول الإسلام ، فإن علماء الشريعة قد أكملوها، وذلك بما لا يترك للمتأخر مجالاً للاجتهاد أو الإضافة . وليس للمتأخر - والأمر كذلك - إلا التقليد والاتِّباع، والاكتفاء بالنقل، ومن ثم عدم تصديق إمكان وجود الفائدة خارج علوم الشريعة التي تَمَّتْ، وأُغْلِقَتْ فيها، وحواليها، دائرة الاجتهاد، ومن ثم إمكانات التجديد والإضافة والإفادة من علوم الآخرين. وقد رفع الكثيرون من أعلام "الاتِّباع" شعار "الفضل للسلف وحدهم" أو "الفضل للمتقدم"، وذلك في المحاجة التي دفعت ابن رجب الحنبلي إلي تأليف رسالته "فضل أهل السلف علي الخلف". وهي رسالة تختزل كل الآراء التي انبنت علي إقامة التقابل الحدِّي بين المتقدمين والمتأخرين، وذلك لمصلحة المتقدمين الذين سبقوا إلي كل علم، والذين يتراتبون بدورهم، فالأقدم منهم الأفضل، والأحدث هو الأقل فضلاً، إلي أن نصل إلي النقطة الأولي في السياق الزمني، حيث الجوهر المتفرد للعصر الذهبي الذي يتوارث اللاحقون معارفه الكاملة، جيلاً وراء جيل، وذلك بما يؤكد معني التراتب الهابط كلما مضينا في الزمن المنحدر للناس والعلم علي السواء.
عامل آخر هام هو الخوف علي علوم الاتباع من مخاطر علوم الابتداع، أو الخوف علي علوم العرب من انحرافات علوم الأوائل من غير العرب. وهو خوف يبين عن عدم ثقة بالنفس، وعن خشية متأصلة من مجرد حضور "الآخر" أو وجوده أو الاقتراب منه. وقد برَّر هذا النزوع نفسه بضعف النفس البشرية التي لا بد من قمعها بالوصايا والنواهي حتي في مجال العلوم والمعارف، ومن ثم تصوير "الآخر" علي هيئة الشيطان الذي لا يكف عن الغواية، ولا يتوقف عن المخايلة، ولا ينجو من شروره إلا الراسخون في العلم من المقدور عليهم النجاة والهداية والمظهر العملي لذلك هو عدم الثقة بأهل الاتِّباع الذين يخشي عليهم من الفتنة، فتعالجهم الفتاوى بما يثير فيهم الكره والنفور من العلوم الغاوية المغوية أو الضالة المضلة، فذلك هو السبيل الوحيد لتجنيبهم الفتنة.
ويلزم عن ذلك كله المبدأ القمعي الذي يغدو ذروة لها، كي يستأصل المختلف معنوياً ومادياً. واستعداء السلطة (أولي الأمر) مسألة دالة في هذا السياق حيث يحرّض السلطان علي البطش بالمختلفين عن تيار صاحب الفتوي الذين تم تكفيرهم. وأولي درجات البطش الطرد من الوظائف، خصوصاً وظيفة التدريس التي تنشر الأفكار وتذيعها بين العقول المتطلعة إلي المعرفة. والدرجة الثانية هي السجن وإلزام المنزل، كي يحال بين ضلالة "الآخر" والانتشار بين الناس، وذلك في حال أشبه بحال عزل المرضي لئلا ينقلوا العدوي إلي غيرهم من الأصحاء. أما الدرجة الثالثة فتبدأ من التغرير وتنتهي بالقتل، استئصالاً لجرثومة الاختلاف، وإقصاءً نهائياً لمن يحملها. والشعيرة الرمزية لإحراق الكتب - في هذا السياق - هي المعادل الموضوعي لفعلي الاستئصال والإقصاء الواقعين علي أصحاب هذه الكتب أو المعجبين بما فيها.