هل هناك معجزة ؟
3
عالم من المصادفات الفيزيائية السعيدة .
ماذا يحدث لو كانت القوى الفيزيائية مختلفة قليلآ ، أو ظهرت بعض التغيرات في القوانين الطبيعية أو في قيم الثوابت الفيزيائية عما هي عليه الآن . يمكننا الآن دراسة ما يترتب على كل هذه التغيرات عن طريق إختبار النماذج التي نصنعها للعالم بواسطة أنواع فائقة القدرة من الكمبيوترات . من نتائج هذه الدراسات وجد العلماء أن ما يمكن أن يغير شكل العالم كلية ليس فقط وجود تغيرات في القواعد الفيزيائية الأساسية في الكون مثل القوى النووية القوية أو القوى الكهربائية ، بل وُجِد أن الثوابت التي تظهر لنا في المعادلات الرياضية هي ثوابت ( متناغمة ) بعناية ، و أن أدنى تغيير فيها سيكون له غالبا نتائجآ مروعة ، و بالتالي ستكون الظروف في الكون غير مناسبة لظهور الحياة .وهناك العديد من الأمثلة على ذلك .
1- وجد أن حدوث تغيير بمقدار 0.5% فقط في القوة النووية القوية أو 4% في القوة الكهربائية ، سيؤدي ذلك إلى تدمير كل ذرات الكربون و الأكسجوجين في العالم كله ، و بالتالي استحالة الحياة كما نعرفها .
2- إذا كانت القوى النووية الضعيفة أضعف مما هي عليه في بداية الكون لتحولت كل ذرات الهيدروجين إلى هيليوم فور ظهورها و بالتالي لم يكن ممكنا ظهور النجوم .
3- أما إذا كانت القوى النووية الضعيفة أقوى مما هي عليه فهذا كان سيؤدي إلى أن انفجارا "السوبرنوفا" لن يكون قويا بما يكفي لقذف غلافها الخارجي ، و بالتالي تخصيب الفراغ الكوني ( بين الأنظمة النجمية) بالعناصر الثقيلة مثل الكربون و غيره من العناصر الضرورية لظهور الحياة .
4- إذا كانت كتلة البروتون أثقل بمقدار 0.2% فقط ، ستتحول البروتونات إلى نيوترونات مما يؤدي إلى أن تصبح الذرة غير متماسكة و تنهار .
5- إذا كانت كتل الكوارك المكونة للبروتونات مختلفة ولو قليلآ لأدى ذلك إلى أن تصبح عدد النواة المستقرة أقل كثيرآ مما هو موجود حاليا ، و يبدوا أن كتل الكواركات مصممة بشكل ما لإنتاج عدد أكبر عدد من النواة المستقرة ،و بالتالي من العناصر .
6- هناك تأثير كبير لعامل فيزيائي آخر هو عدد الأبعاد الكبيرة في الكون على إمكانية ظهور الحياة من عدمه . فكي تظهر الحياة على كوكب ما لابد من مرور أكثر من 100 مليون عام على دوران الكوكب في مدار ثابت حول النجم ، و في عالم متعدد الأبعاد يمكن للدائرة الإستمرار و لكن المدار البيضاوي سيكون غير مستقر في عالم له أكثر من 3 أبعاد ، فحتى التجاذب البسيط بين الكواكب وقتها يمكن أن يدفع أحد تلك الكواكب إلى الترنح و الإنطلاق بعيدا عن الشمس أو الإندفاع نحوها .
7- تقل قوة الجاذبية بشكل كبير نتيجة تعدد أبعاد الكون ، ففي كون مكون من 3 أبعاد يؤدي زياة المسافة بين جسمين إلى الضعف إلى أن تقل قوة الجائبية إلى 1/4 ، و لكن في عالم رباعي الأبعاد تقل قوة الجاذبية إلى 1/8 و إلى 1/16 في عالم خماسي الأبعاد و هكذا . و بالتالي ففي حالة وجود عدد أكثر أو أقل من 3 أبعاد رئيسية سيتلاشى التوازن الدقيق بين قوة الجاذبية إلى مركز الشمس و الضغط الداخلي في مركز النجم ، و سيؤدي ذلك إلى إنفجار الشمس أو إنهيارها إلى الداخل مكونة ثقب أسود. نفس الموقف سيتكرر على مستوى الذرة فسوف تنطلق الإليكترونات بعيدآ عن النواة أو تنهار داخلها و في الحالتين ستتلاشى الذرة التي نعرفها .
النتيجة أن ظهور أبنية معقدة و متكاملة من القوانين و العوامل الفيزيائية التي تدعم وجود ذلك المراقب الذكي الذي يراقبها و يفحصها هي في حقيقتها هشة للغاية . إن قوانين الطبيعة تصنع فيما بينها نظاما فائق التناغم و أن أي تغيير مهما كان ضئيلآ في قوانين الفيزياء أو في الثوابت الطبيعية سيجعل ظهور الحياة مستحيلا تماما . إذا نظرنا إلى الحياة أو الحيوات الموجودة في الكون ، فسنجد أنها ظهرت فقط نتيجة سلسلة مدهشة من التزامنات بين أدق التفاصيل للقانون الطبيعي .
الثابت الكوني .
من أكثر مصادفات التناغم الدقيق في الطبيعة غرابة و أدعاها للتأمل هو ما يطلق عليه " الثابت الكوني "cosmological constant ،وهو المعامل الذي أدخله أينشتين في معادلاته للنسبية العامة ،و كان ذلك بهدف تكوين قوة لمعادلة قوة الجذب . ففي عام 1915 عندما اكتشف أينشتين النسبية العامة ، كان يعتقد أن الكون ثابت لا يتمدد ولا ينكمش لهذا اقترح وجود قوة تقاوم الجاذبية و تمنع الكون من الإنهيار إلى الداخل ، و الهدف من الثابت الكوني هو تقدير قيمة القوة المضادة للجاذبية . عندما ظهر أن الكون يتمدد بالفعل ألغى أينشتين هذا المعامل و قال أنه أكبر غلطة ارتكبها في حياته . وظل هذا الوضع قائمآ حتى عام 1998 ، عندما اكتشف العلماء أثناء مراقبتهم لسوبرنوفا متناهية البعد ، أن الكون يتمدد بمعدل أكبر من المتوقع ،و بالتالي هناك قوة دافعة تعمل خلال الكون ، و هذا ما أعاد الثابت الكوني لأينشتين مرة أخرى للظهور .
كيف نقدر قيمة الثابت الكوني ؟ .حاول العلماء تقدير قيمة الثابت الكوني وفقا لميكانيكا الكوانتم و لكن النتيجة كانت بالغة الغرابة لأنها تزيد عن المقدار الذي تم قياسة بمقدار 10أس 21 ،و هذا يعني أن هناك خطأ في الفروض ،أو أن هناك قوة تعمل على معادلة قوة الدفع و تخفضها إلى ذلك القدر الضئيل الذي أمكن قياسة . و لكن .. مهما كان الموقف فمن المؤكد أنه لو كانت قيمة الثابت الكوني أكبر مما هي عليه الآن ، لتمدد الكون بسرعة أكبر مما يسمح بتكوين المجرات ،و بالتالي ماكان للحياة أن تبدأ .
ماذا يمكننا أن نفهم من هذه المصادفات الغريبة ؟
ذلك ( الحظ) الذي نكتشفه في صميم تكوين و طبيعة قانون الفيزياء الأساسي ، ليس نفسه ( الحظ) الذي اكتشفناه في البيئة المحيطة بنا ، نحن الآن أمام بناء هائل أكثر تعقيدآ و أعسر في الشرح و الفهم . إنها قضية ذات تعقيدات و نتائج علمية و فلسفية بعيدة الغور . إن القوانين الطبيعية تبدوا متناغمة و مصنوعة بتدبر - ليس فقط في إطارها العام بل في أدق تفصايلها - كي تلائم ظهور الحياة في هذا الكون ، و عندما تظهر الحياة سيكون هناك قدر ضئيل للغاية يمكن تغيره في تلك القوانين و ثوابتها دون أن تنتهي الحياة .هذا ليس موضوعا من السهل تفسيره ، و سوف يفرض بالضرورة سؤالآ طبيعيا هو : لماذا جاء الأمر على هذا الشكل؟.
multiverse
الإجابة المباشرة و التلقائية هي :" لأن الإله أراده هكذا" ،و أن هذا التصادف و التناغم الدقيق دليل كاف على وجود ذلك الإله المقدر و المصمم ، فهذا التصميم العظيم لابد له من مصمم أعظم . إن الفكرة القائلة بأن الإله خلق العالم كله فقط كي يكون منزلآ يعيش فيه الإنسان ، هي فكرة شائعة تعود لألوف السنين ليس فقط في كل النصوص الدينية ،و لكن أيضا في كل الأساطير و المرويات البدائية . يعبر الكاردينال " كريستوف شونبرن " أسقف فيينا عن الفكر المسيحي الحديث عندما كتب في مقال له قائلآ : ونحن على مشارف القرن 21 ، نجد أن الداروينية الجديدة و فكرة الأكوان المتعددة multiverse ، هي مجرد محاولات للتهرب من الأدلة الدامغة التي تقدمها العلوم الحديثة على وجود التصميم و الغائية ، و أن الكاثوليكية سوف تدافع عن الطبيعة الإنسانية عندما تقول أن التصميم الساري في الكون هو حقيقة ناصعة لا يمكن التحايل عليها و إنكارها .
منذ كوبرنيكس بدأ الإنسان في التخلي عن مركزه كمركز للكون ،و كلما زادت اكتشافاتنا تزايد إدراكنا بهامشية الإنسان و ثانوية مركزه في الكون . و لكن المفاجأة جائت من حيث لا يحتسب أحد ، من العلم ذاته الذي ألقى الإنسان بعيدآ إلى حدود الكون ، هذا العلم يبدوا أنه شعر بالندم و كنوع من التكفير يعيد الإنسان مرة أخرى إلى مركز هذا الكون مصحوبا بآلهته و أساطيره . خلال الدراسات المعمقة و المعارف المعاصرة عن الكون ، تدعمت اكتشافات العلماء لما يمكن أن نصفه بالتناغم الدقيق في قوانين الطبيعة ، ذلك التناغم المدهش أعادنا مرة أخرى إلى فكرة وجود تصميم ذكي و بالتالي وجود مصمم عظيم . و لأن تدريس مثل هذا النوع من التفكير الديني ممنوع دستوريآ في الولايات المتحدة ،لهذا و من أجل التحايل على هذا الوضع ابتكر المسيحيون الأصوليون علما خاصا هو " التصميم الذكي " بهدف تدريسه ، و من المفهوم بالطبع أن المصمم العظيم هو الإله أو المسيح .
الآن سأتحدث بلسان زملائنا الأصوليين و أقول لبهجت .. أنت الذي طرحت هذا الموضوع ،و من لسانك ندينك .. كيف ستخرج من هذا الفخ الذي أوقعت فيه نفسك أيها العلماني ، بعد أن ظهرت آيات الله في الأفاق و في أنفسكم ؟!.
قبل أن أجيب و أشرع في عرض الرؤية العلمية ، أود أن ألقي الضوء على نقطتين أتمنى أن يعيهما الزملاء جيدآ ،و يفكرون فيهما بعمق يستحقانه ، قبل محاولة المشاركة في هذه القضية الفرعية .
1- أن الإله هنا ليس هو الإله الشخصي مثل آمون و إيل و يهوه و براهما و الله و شيفا و المسيح ، فهذه الآلهة الأسطورية تعيش فقط في ساحة الأديان و ليس في الفكر الحر ! . هي كغيرها من الأساطير تختنق في منهجية العلوم ، الإله هنا هو افتراض أو نظرية أكاديمية ابتكرت لملئ فراغ بادي في فهم الكون .
2- إننا هنا لسنا في حوار حول الألوهية هادفين إلى تأكيد أو نفي فكرة الإله ، و لكننا ببساطة في معرض تدعيم رؤية علمية تذهب إلى أنه يمكننا أن نفهم نشأة الكون بدون وجود فكرة الإله .
أي نحن في نقاش علمي بحت ،و محاولة اجترار المنقولات الأصولية الساذجة ستكون نغمة نشاز ، أشبه بصخب موسيقى حسب الله أثناء عزف إحدى سيمفونيات بيتهوفن .
حسنا .. الآن أقول أن تدخل الكائن العلوي و المصمم الأعظم ليس هو إجابة العلم الحديث .كيف ؟
لقد عرضنا سابقا أن كوننا هذا ليس سوى أحد الأكوان المتعددة multiverse ، لكل من هذه الأكوان قوانينها الطبيعية و ثوابتها الخاصة .
هذه الأكوان المتعددة ليست فكرة مبتكرة خصيصا لمواجهة التصميم و القصدية في قوانين الفيزياء ، و لكنها نتيجة طبيعية لظروف اللاحدود و غيرها من النظريات الحديثة في الكوزمولجي . و بالتالي فوضعنا ضمن الأكوان المتعددة يماثل نفس وضعنا ضمن أنظمة نجمية متعددة . وهذا يجعل المبدأ الأنثروبي القوي يعادل المبدأ الضعيف ،و يضعهما على قدم المساواة . بعبارة أخرى ..هذا يجعل الوضع مع التناغم الدقيق في قوانين الفيزياء يعادل تماما الوضع مع التناغم في العوامل البيئية التي جعلت كوكبنا قابلآ للحياة . هذا يعني أن عالمنا المعاش و هو ما يعادل حاليا كل الكون الذي يمكن مراقبته ، هو مجرد واحد من عوالم عديدة ، كما أن نظامنا الشمسي هو واحد من أنظمة عديدة .
و هكذا بينما لم تعد المصادفات البيئية التي تجعل نظامنا الشمسي قابلآ للحياة استثناءا مبهرآ في ضوء وجود المليارات من الأنظمة الشمسية ، فعلى نفس القياس يمكننا تفسير التناغمات الدقيقة في القوانين الفيزيائية بتعدد العوالم حيث من الممكن أن تظهر المليارات من أبنية القوانين الفيزيائية المختلفة المتناغمة و غير المتناغمة .
نتيجة غياب التفسير العلمي و خلال قرون عديدة كان الناس يعزون التنوع و الجمال في الحياة إلى الآلهة و بديع صنعها ، حتى استطاع داروين وولاس شرح أن الجمال و التعقيد في عالم الأحياء يمكن تفسيره بدون تدخل الآلهة ، كذلك فإن مفهوم الأكوان المتعددة multiverse يستطيع تفسير التناغم الدقيق بدون تدخل خالق طيب القلب صنع الكون خصيصا من أجل "خاطرنا" !.
هذا سيسلمنا إلى صميم فكرة التصميم العظيم . و سيكون هذا التصميم موضوعنا القادم .