العداء للآخر و استبعاده .
(3 من 4 )
ربما يسأل أحدنا ، ولماذا يكون العداء للاخر تخلفا ثقافيا ، أليس الصراع سنة الحياة ،ألا يقول العلمانيون أن البقاء للأصلح ، ألا تكررون على مسامعنا أن التطور يعمل بآلية تسمونها " الإنتقاء الطبيعي "، لماذا يصبح الصراع و العداء رذيلة عندما يتبناها الإسلاميون ؟، ثم " تعالوا هنا" من الذي بدأ العداء و الكراهية الغرب و اليهود أم العرب و المسلمون ، ألا يحق لنا كراهية من يكرهنا ؟ . بهجت دائما متناقض مع نفسه ، يقول الشيء و نقيضه ، و لكننا بحمد الله كشفناه من البداية ، هو في قلبه مرض ولا يحب الإسلام لأن " في آذانهم وقرآ" !.
لن أكرر ما قلته في الفقرة السابقة عن العقل المستعمَر ،و خطورة التفكير الإرتجاعي و تصفية الحسابات و اللعب بعد الوقت الإضافي . العداء للآخر موقف ثقافي و ليس عاطفي ، الحضارة المعاصرة تفرض علينا ضرورة قبول الاخر و ليس بالضرورة النوم معه !. إن خطورة عداء الآخر لا تعود على هذا الآخر بل علينا نحن . لا أطالب أحدا بقبول ما أقوله بدون دليل و اثبات مقنع ، و هذا ما أفعله الان .
يترتب على العداء للآخر مجموعة من النتائج تتحول بدورها إلى أعراض مرضية للتخلف الثقافي الإسلامي ، أهم هذه النتائج هي : الإنعزال عن الحياة الواقعية المتجددة و صنع عالم بديل راكد من الصور النمطية ، استبعاد الآخر ، الرؤية الأحادية و قمع الإختلاف ، تكفير علوم و ثقافة الآخر .
عالم بديل من الصور النمطية .
تفرض الثقافة السائدة على منتسبيها مجموعة من الصور النمطية تعرف بتعبير انجليزي شائع جدا هو stereotypical images ، هذه الصور تكون إيجابية لما نعرفه بأنه " الأنا " أو " نحن " ، و تكون سلبية عادة لما يكون عليه " الهو " ، لكن علينا أن ندرك أن إدراك الأنا و الهو ليس ثابتا ، بل هو إدراك تاريخي فالأنا أو نحن التي أدركها المصري القديم ، لم تكن تلك التي أدركها القبطي في عصر الشهداء ، وهي مختلفة أيضا عن الفلاح المصري المسلم في العصر العثماني ، و عن المصري الوطني في ثورة 1919 و ما بعدها ، و المصري المتأسلم فاقد الهوية الآن . بالطبع فالآخر هو أيضا تاريخي متغير بتغير الأنا . و بالتالي فمن الطبيعي أن نتصور أن الصور النمطية ستتغير في كل مرحلة حضارية لتلائم الوعي بتلك الفترة و ملابساتها . أما ثبات الصور النمطية عن الذات و الآخر بصرف النظر عن التطور التاريخي لتصبح جزءا من العقيدة الدينية ليس فقط نوع من البلادة و الغفلة ، بل هو أيضا مربك للإدراك و يدفع الإنسان للحياة في عالم افتراضي غير واقعي . الأصولية الدينية تعني ثبات الصور النمطية للعالم و للذات و الاخر ، فيبقى المسيحي و اليهودي عدو على نفس الدرجة ، دون القدرة على التفرقة بين المسيحي الوطني و الأجنبي ، و المسيحي المستعمِر و المسيحي الإفريقي واللاتيني من رفقاء الدرب في مواجهة الإستعمار العالمي ، هذا العداء للآخر سيجعل غاندي و شارون و هتلر و مجدي يعقوب أعداء على نفس الدرجة . في المقابل سيبقى الأنا هو المسلم دون تمييز بين المسلم المصري و الآخر الهندي ،و الثالث التركي العثماني المحتل الظالم ، و سيكون الحجاج بن يوسف و قتلة الحسين و عمر البشير أخوتنا في الله .هذا العداء جعل من السوفيتي الذي أمدنا بالدعم و السلاح و التدريب و المصانع ملحدا عدوا ، و الأمريكي الذي دمر مشروعنا التنموي من أهل الكتاب يجب علينا نصرته ضد عدوه الملحد ! ، هكذا تفكر الأصولية و هو ما حدث من المتأسلمين بالفعل .
إن الكراهية الخيرة ليست هي كراهية الاخر المخالف دينيا أو قوميا او ...( عمال على بطال ) بل كراهية الأعمال الإجرامية و الظلم بصرف النظر عن مقترفها .
استبعاد الآخر .
يعتقد الإسلاميون أنهم أفضل الأمم علي الإطلاق ،و يستشهدون بنص قرآني (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))110 آل عمران ، و بالتالي فهم أمة – بالمعني الحديث للأمة – و أيضا هذه الأمة هي الأمة الوسط و هم الشهداء علي الناس يوم الدين ، و أما اللغة العربية فهي لغة أهل الجنة ، فقد روي الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال رسول الله: ( أحبوا العرب لثلاث لأني عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي ) ، فماذا يمكن أن يضيف الآخرون لهؤلاء الكاملين المكملين ؟. و النتيجة كما هو متوقع استبعاد الآخر ، و هكذا نجد أن التراث العربي لم يحفل بشعر أجنبي علي الإطلاق ، نتيجة الإعتقاد الذي غلب علي السلفيين من أهل النقل ،و أشاعوه لدي الجميع بأن الشعر العربي أرقي من كل شعر ،و أن هذا الرقي سيغنيهم عن أي شعر أجنبي ،و يقول الجاحظ في كتاب الحيوان بجهل ما بعده جهل " إن فضيلة الشعر مقصورة علي العرب ،وعلي من تكلم بلسان العرب " .
كانت النزعة التي تستغني بعلوم العرب وأشعارها عن علوم الأوائل أو علوم العجم وإبداعاتها لا تقل وضوحاً في الجوانب اللغوية أو الأدبية عنها في الجوانب الفكرية أو الاعتقادية. وذهب ابن فارس، في القرن الرابع ، إلي أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها، وأن في قوله من سورة الشعراء "وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين علي قلبك، لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين" ما خص اللسان العربي بالبيان، وأكد أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة من دونه. ولا يبتعد أبو إبراهيم إسحق بن إبراهيم الفارابي عن الذي قاله ابن فارس، فيستهل معجمه "ديوان الأدب" بالإشارة إلي تميز العرب عن غيرهم من الأمم، وعلو لسانهم علي غيره من الألسنة.
قمع الإختلاف .
ينظر السلفيون نظرة الريبة و الإتهام إلي الناظرن في الثقافات و الأفكار ذات المنشأ المختلف ، فيقول أحدهم
فارقت علم الشافعي و مالك ...وشرعت في الإسلام رأي دقلس.
ووصل الأمر إلي أن كل من يظهر أية عناية بالفلسفات و الأدبيات الغربية يتهم في دينه ، و يسعي المتأسلمون إلي عقابه ليكون عبرة لغيره ، و من النماذج الدالة علي ذلك ما قام به السلفيون من تحريق كتب الأوائل و الفلسفة ، كما حدث من إحراق الكتب التي كانت عند عبد السلام بن عبد الوهاب الملقب بركن الدين ،و ما قام به الوزير المنصور ابن أبي عامر قي الأندلس ، حين أحرق كتب الفلسفة إرضاء لفقهاء أهل السنة ،و بالطبع نعلم عن تحرق كتب ابن رشد في الأندلس علي يد الخليفة (أبو يوسف يعقوب المنصور).
هناك لحظة فاصلة في تاريخ الفكر الإسلامي قادته إلي التخلف و التعفن ، تلك هي انقلاب الخليفة العباسي المتوكل علي أهل العقل ، و ما ترتب علي ذلك من مطاردة النزعات العقلية و كبتها ،و هي المطاردة التي انتجت شعارا مثل : (( من تمنطق فقد تزندق )). عرف الفكر الإسلامي نوعين من التهم التي توجه ضد المخالف ، فإذا كان الخلاف في العقيدة الدينية فالتهمة هي الزندقة ، بينما لو كان في الخروج عن العادات الإجتماعية فالتهمة هي الشعوبية ، و ارتبطت التهمتان بدرجة حادة من القمع . و هناك أمثلة بلا حصر بما فعله الخلفاء بمخالفيهم حتي ولو انحصر الخلاف في قضايا الرأي .
المنصور جلد و سجن أبا حنيفة النعمان ،و قتل ابن المقفع الكاتب ،و سديف الشاعر.
المهدي : قتل بشار بن برد ،و حماد عجرد ، و عبد الكريم بن أبي العوجاء . و سجن أبا العتاهية.
الرشيد : قتل صالح بن عبد القدوس و مروان بن أبي حفصة ،و حبس بشر بن المعتمر الهلالي .
المأمون : قتل علي بن جبلة الشاعر ، قتل أبي نواس . سجن أحمد بن حنبل الفقيه .
المعتصم : قتل دعبل ،
الواثق : نفي مروان ابن أبي الحنوب . تعذيب أحمد بن حائط المعتزلي ، سجن ذي النون المصري المتصوف . مصادرة كتب الكندي الفيلسوف و ضربه .
المتوكل : قتل ابن الزيات الكاتب ، حبس علي بن الجهم ، محمد بن صالح العلوي ، الجماني العلوي من الشعراء ، وفاة ابن البعيث الشاعر في السجن ، اضطهاد المعزلة و مطاردتهم .
المكتفي : دس السم لإبن الرومي .
المقتدر : مقتل محمد بن داوود الجراح ، التمثيل بجثة الحلاج بعد قتله عام 921 م ، تعذيب أبي الفضل البلخي ، هياج العامة علي ابن جرير الطبري و منعهم من دفنه حين أدركته الوفاة .
هذه أمثلة تكشف عن السياق الذي كان يتحرك فيه حاملو الأفكار الأخري المختلفة من الشعراء و الكتاب و المتكلمين و الفلاسفة و المتصوفة .
تكفير علوم و ثقافة الآخر .
نشر أبو حامد الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة" سنة 1095م، فكان ذلك نقطة مفصلية في تاريخ العقل الإسلامي ، و علامة علي انكسار الفكر العقلاني ، هذا الإنكسار سرعان ما انتشر من مركز الدولة إلي أطرافها ، و قد اجتاحت تلك الموجة اللاعقلانية العالم الإسلامي كله ، فكان من ضحاياها ابن رشد المتوفي في 1198 م ، و هكذا دخل العقل العربي في غيبوبة عميقة لم يفق منها حتي الآن . كان هناك أحد الفقهاء في القرن 7 الهجري اسمه ابن الصلاح الشهرزوري ، وقد حاول ابن الصلاح دراسة المنطق سراً، لكنه فشل، ونصحه الأستاذ الذي حاول الدرس عليه بالابتعاد عن العلوم العقلية، لأن الناس ينسبون كل من اشتغل بها إلي فساد الاعتقاد، فابتعد ابن الصلاح عن هذه العلوم، مؤثراً السلامة، لكنه انطوي علي بذرة العداء لهذه العلوم لأن من جهل شيئاً عاداه، فانقلب عليها، ودخل في دائرة خصومها، واشتطّ في الخصومة، وذلك إلي الدرجة التي أجاب بها بفتوي دالة كاشفة علي من سأله: هل الشارع أباح الاشتغال بالمنطق تعلّماً أو تعليماً؟ وهل يجوز أن تستعمل الاصطلاحات المنطقية في إثبات الأحكام الشرعية؟ وماذا يجب علي وليّ الأمر فعله بإزاء شخص من أهل الفلسفة معروف بتعليمها والتصنيف فيها، وهو مُدَرِّسٌ في مدرسة من المدارس العامة؟ ويكتب ابن الصلاح فتواه التي حققها غولدتسيهر، واصفاً الفلسفة علي النحو التالي: "الفلسفة أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عَمِيَتْ بصيرُته عن محاسن الشريعة المُطهَّرة، المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة. ومن تلبّس بها تعليماً وتعلماً قارَنه الخذلانُ والحرمانُ، واستحوذ عليه الشيطان. وأي فن أَخْزَي من فن يَعْمِي صاحبه ويُظلم قلبه عن نبوة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكر. وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر. وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالح وسائر من يقتدي به من أعلام الأمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها. قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه، وطهّرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة. وليس بالأحكام الشرعية، والحمد لله، افتقار إلي المنطق أصلاً. وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحدّ والبرهان فقعاقع أغني الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية. ولقد تَمَّتْ الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة. ومن زعم أنه يشتغل بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب علي السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم (الذين يخلطون الحق بالباطل)، ويخرجهم من المدارس، ويبعدهم، ويعاقب علي الاشتغال بفنهم، ويَعْرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة علي السيف أو الإسلام لتخمد نارهم ويمحي آثارها وآثارهم. يسَّر الله ذلك وعجّله. ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مُدرِّس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها، والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله. وإن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله تكذبه، والطريق إلي قلع الشر قلع أصوله. وانتصاب مثله مدرساً من العظائم جملة، والله تعالي ولي التوفيق والعصمة، وهو أعلم".
والفتوي بالغة الدلالة في عنفها القمعي، وفي عدائها لكل ما يشتم منه إعمال العقل، أو ينطوي علي محبة الحكمة. ومغزي الفتوي فاقع في دلالته الإقصائية والاستئصالية علي السواء. وهو مغزي يمكن وصله بغيره من الفتاوي التي نصبت محارق كتب الفلسفة المنسوبة إلي ثقافة "الآخر" المعادي. واستخدام لغة التكفير في الفتوي كاشفة عن المنزع الذي عاود الظهور في ربع القرن الماضي، نتيجة عوامل كثيرة، دفعت إلي استعادة ميراث التطرف وتوظيفه القمعي. ولا شك في أن أمثال فتوي ابن الصلاح كانت الأصل الذي استندت إليه بعض الأنظمة التعليمية في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً في تحريم الفلسفة اليونانية وغير اليونانية التي تنتهي بطالبيها إلي الكفر.