كانت أوسلو النجاح التفاوضي الوحيد. مرت على أوسلو 17 سنة، سجل فيها المفاوضون 4 إخفاقات مدوية، نجم عنها تعثر استكمال تنفيذ التسوية. وحروب صغيرة. وعمليات انتحارية. وغياب مفاوضين. وظهور مزايدين ومساومين آخرين.
وجه الشبه كبير بين مفاوضات «أنا بوليس» ومفاوضات «أنا أوباما». كان جورج بوش كارثة على العرب: احتل العراق. منح شارون ضمانا بعدم اعتراض استيطان الضفة. لم يتدخل لإنقاذ مفاوضات أنا بوليس. انتهى سلام «أنا بوش» بحرب في غزة.
نحن اليوم في عصر «أنا أوباما». يبدو الرئيس المثقف أكثر جدية. لكن في التطلع إلى الوراء، فالتشاؤم حقيقي. التشاؤم تعبير عن التحفظ. عن الخوف من فشل المفاوضات مرة أخرى. مع ذلك، ففي طيات هذا التشاؤم، يلوح أمل عربي بإمكانية التوصل إلى تسوية.
هذا الأمل راجع إلى انقلاب في الموقف الإسرائيلي! من الزعل مع أميركا أوباما، إلى إقبال بنيامين نتنياهو على التفاوض «بلذة» ظاهرة. إلى الإعلان عن الاستعداد لتقديم «تنازلات مؤلمة». ما لبث أن فسرها شريكه اللدود إيهود باراك، بالتلويح بترك أحياء القدس العربية لربع مليون عربي مقدسي، ربما في إشارة، إلى جعلها عاصمة للدولة الفلسطينية.
المشهد في واشنطن أكثر من صورة. في «أنا أوباما»، تم جمع الأطراف المعنية مباشرة بالنزاع. دلالة على الجدية: عباس. نتنياهو. هيلاري. ميتشل. غاب وزراء الخارجية المتشائمون الذين حضروا «أنا بوليس». حضر العرب، ربما الأقل تشاؤما، حضر رئيس مصر وعاهل الأردن الدولتين المرتبطتين بمعاهدة سلام مع إسرائيل.
في أية مفاوضات دولية تضم أطرافا متعددة، لا بد من مرجعية متفق عليها سلفا، مرجعية تشكل قاعدة للتفاوض. في مفاوضات «أنا أوباما»، المرجعية في هذا السر الذي قلب الموقفين الأميركي / الإسرائيلي، من التباعد، إلى الظهور المشترك على مائدة المفاوضات.
ما هو السر؟ الصحافة لا تملك مفتاحا يصل إلى أدلة ومستمسكات. في غزو العراق، مضت سنين قبل أن تعرف الصحافة أن بوش شن الحرب، بناء على معلومات مضللة عن امتلاك صدام أسلحة استراتيجية. الصحافة، اليوم، لا تمتلك سوى القياس. الاستنتاج. التحليل. المتابعة الدقيقة والربط الموضوعي بين الأحداث والظروف والمواقف، من دون تشنج.
لعل الضيق بدأ يراود إدارة أوباما إزاء سياسات النظام الإيراني. منح أوباما إيران نحو سنتين للتوصل إلى تفاهم سلمي، يعترف بها دولة إقليمية كبرى، لها سيادتها. استقلالها. أمنها. مصالحها، على قدم المساواة مع تركيا. مصر. السعودية. وإسرائيل، في مقابل التزامها القانوني الدولي، من دون مغامرات. ومزايدات. واختراقات لعرب المشرق والخليج، تستند إلى غيبيات مذهبية.
يبدو خامنئي ونجاد عازمين على بناء استقرارهما الداخلي على «تخويف» الإيرانيين والعرب من أميركا، مستغلين الانحياز الأميركي لإسرائيل. في كل يوم، هناك دق على الصدر. لاستفزاز أميركا علنا. تهديدات ضمنية للعرب ولإسرائيل. إعلانات عن اختراعات صاروخية. مواصلة للنشاط النووي. دفع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين إلى الصدام مع إسرائيل، لكن من دون مشاركة إيرانية في المواجهة.
من هنا، فالدلائل والمعلومات تشير إلى أن إدارة أوباما باتت أكثر اقتناعا ومسايرة لرؤية إسرائيل وحكومة نتنياهو بضرورة الإسراع في معالجة العقدة الإيرانية، قبل التوصل إلى امتلاك القنبلة. الأرجح أن التفاهم الثنائي تم على أساس منح إيران «سنة دبلوماسية» أخرى، للتوصل إلى تفاهم إقليمي معها، يلجم اختراقها للخليج والمشرق، ويضع نشاطها النووي، تحت إشراف ومراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لكن لماذا الانتظار سنة؟ لعل وعسى العقوبات تنجح. في الرؤية الأميركية، لردع إيران. أيضا، أميركا بحاجة إلى سنة، تستكمل فيها بناء قواعدها العسكرية في العراق، بالإضافة إلى قواعدها القائمة في أطراف الخليج. سنة أيضا كافية للانسحاب من حرب غير مجدية في أفغانستان وباكستان. كما هو مقرر في مخطط أوباما.
غير أن الحسم مع إيران لن يكون مقنعا للعرب وللعالم، من دون الحسم مع إسرائيل. من هنا، فالسر يكمن في استدارة نتنياهو نحو التفاهم مع أوباما، حول التوصل مع الفلسطينيين إلى تسوية خلال سنة، بل نتنياهو نفسه هو الذي اقترحها مدة كافية.
هذا التصور الأميركي، للمنطقة، خلال عام، يبدو حلما رومانسيا لمثقف كأوباما، ما زال يحمل في ذهنه مثاليات إنسانية، لعالم خال من الأسلحة النووية. لكن التاريخ القريب والبعيد يثبت أن المثقفين المثاليين كانوا ضحايا لخداع الساسة المحترفين.
هل السياسي المحترف نتنياهو يخدع المثقف أوباما؟ هل ينفق سنة في المساومة مع عباس، انتظارا للسماح له بقصف إيران، بمشاركة أميركا؟ نجاد سارع إلى الإعلان الفوري عن «موت المفاوضات». هو يدرك أن نجاحها يهدد نظامه. تحركت حماس لنجدة إيران. ربما يتحرك حزب الله غدا. سورية صامتة. تعرف أن اتفاقا مع الفلسطينيين يضعف موقفها التفاوضي على استعادة الجولان. مع ذلك تحركت دمشق للتشديد على الإسلاميين المتزمتين، تأكيدا ذا معنى لإيران، بأن سورية دولة علمانية.
حياة نتنياهو السياسية والحزبية. تربيته العائلية. زوجته. أبوه. ثقافته... كلها ضد موقفه التفاوضي اللين والمعلن. كان ضد مدريد. ضد أوسلو. ضد «تنازلات» باراك وشارون. ضد الانسحاب من غزة وجنوب لبنان. لكن نتنياهو كالنعجة «دوللي». في الحكم هو نسخة أخرى مختلفة: حاول استكمال تنفيذ أوسلو في اتفاق واي ريفر (1997) مع سلطة عرفات. انسحب من الخليل. كاد ينفذ انسحابين آخرين في الضفة، لولا «طوشة» المستوطنين وهوجة الليكود.
نتنياهو اليوم في عصر «أنا أوباما»، كما كانت النعجة «دوللي» في عصر «أنا كلينتون». هل هو حقا جاد في تقديم «تنازلات مؤلمة»، لإرضاء أوباما، من أجل التوصل إلى حسم مع إيران؟ ائتلافه الحكومي الحالي قد لا يرضى بتسوية؟ هل يغيره باستنساخ دوللي «حكومية» مع تسيبي «كديما»، وعمال باراك، وحزب شاس، لتمرير التسوية في الكنيست؟
والعرب. هل يثقون بنتنياهو؟ ذهب العاهل الأردني عبد الله الثاني إلى واشنطن غاضبا على رئيس الحكومة الإسرائيلية. الرئيس مبارك له رأي سابق به: «نتنياهو لا يحترم كلمته. يفعل كل شيء لكي لا يقول شيئا». مع ذلك، تعهد مبارك في مقالة له في «نيويورك تايمز» باستضافة المفاوضات، مطالبا بتجميد الاستيطان. ملحا على المصالحة بين فتح وحماس. مقترحا إنزال قوات دولية مؤقتة في الضفة، لتجنب مرابطة قوات إسرائيلية في غور الأردن.
سنة أخرى من الحيرة. «أنا أوباما» سر. نتنياهو لغز. الخاسر الوحيد، في حال فشل التسوية، هو العجوز محمود عباس. الفشل سوف يضع حدا لحياته السياسية. الآخرون سوف يستأنفون اللعبة الخطرة. ربما مفاوضات جديدة لإقامة دولة واحدة. بعد استحالة استيلاد «دوللي» فلسطينية، من رحم احتلال مهووس بالاستيطان.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=11606&article=585650&state=true