هل هناك معجزة ؟
2
المبدأ الأنثروبي الضعيف .
قبل أن نستكمل رحلتنا مع المعجزة البادية في الكون .. أجد من الضروري أن نتعرف على مصطلح لم يتوقف الكتاب لشرحه ربما اعتقادآ من المؤلف أنه معروف للكافة . هذا المصطلح هو "المبدأ الأنثروبي" (Anthropic principle) ، و يمكن أن نطلق عليه أيضا المبدأ الإنسانوي ، هذا المبدأ يقول : أن قوانين و ثوابت الطبيعة تأخذ الصيغ و القيم التي تنتج الظروف التي تسمح بظهور الحياة العاقلة ، و يذهب المبدأ الأنثروبي إلى القول بأن هذه الظواهر حتمية ، لأنها لو لم توجد بهذا الشكل ما كان ممكنا أن يوجد الكائن الحي العاقل الذي يراقب الكون في هذا المكان و الزمن بالتحديد . و بالتالي يمكننا أن نقول بلغتنا البسيطة :" أن كل ما هو ضروري للحياة موجود بالفعل على كوكب الأرض في هذه المرحلة من عمر الكون ،و العكس أيضا صحيح بمعنى أن ما هو متحقق بالفعل على كوكب الأرض هو ما يجب أن يتوفر كي تكون هناك حياة" . و ينقسم المبدأ الأنثروبي إلى قسمين هما المبدأ الأنثروبي الضعيف و الآخر الأنثروبي القوي .
يمكننا إذا أن نعبر عن المداخلة السابقة في صيغة علمية تعرف بالمبدأ الأنثروبي الضعيف و تنقول بأن " مجرد وجودنا في هذه البيئة وهذا الزمان تحديدآ ، يفرض القواعد التي تحدد ما هي البيئة و ماهو الزمان الذي يمكننا مراقبة العالم خلالهما " . و يقترح الكتاب استخدام مصطلح بديل هو " مبدأ الإنتقاء" بدلآ من "المبدأ الأنثروبي" ، لأن معلوماتنا عن وجودنا نحن هي التي تحدد إختياراتنا للبيئة التي تلائم هذا الوجود . هذا المبدأ كما هو واضح من صياغته أقرب للفلسفة من العلم، و لكنه رغم ذلك يمكن أن يصلح أساسآ للتنبوء العلمي أيضا كما هو واضح من المثال الآتي :
كي يمكن أن تكون هناك حياة لابد من وجود عنصر الكربون ، و هذا العنصر يجري " طبخه " داخل النجوم ، ثم يتم بعثرته في الكون بواسطة الإنفجارات الهائلة لما يعرف بالسوبرنوفا ، و بالتالي يظهر هذا العنصر في كواكب الأنظمة الشمسية من الجيل الأحدث . هذه العملية تستغرق حوالي 10 مليار عام وفقا لدراسات العالم الفيزيائي " روبرت ديك" ، التي نشرها عام 1961 ، كذلك لا يمكن للكون أن يكون أسن كثيرآ من ذلك ، لأن وقود النجوم سيكون قد تلاشى و نحن نحتاج إلى نجوم مشتعلة من أجل توفير المادة الكربونية الخاصة بنا . لهذا لابد أن يكون عمر الكون في حدود 10 مليار عام ، هذا بالطبع ليس تقديرآ دقيقا ،و لكنه تقدير صحيح رغم أنه تقريبي ، فوفقا لأدق التقديرات الممكنة يبلغ عمر الكون الآن حوالي 13.7 مليار عام .
كما لاحظنا فالتوقعات وفقا لمبدأ الأنثروبي ليست محددة تماما ، لأننا لا نتطلب قيما بالغة التحديد للثوابت و الخصائص البيئية كي نوجد في الكون ،و لكن بقاؤنا يتطلب ألا تكون هناك إختلافات كبيرة بين تلك القيم و ما نجده حولنا بالفعل . أي أن هناك مدى مسموح به لقيم الثوابت الكونية كي نوجد ، و ليس بالضرورة أن تكون قيمآ بالغة التحديد ( ع الشعرة ) . كي نشرح هذه الفرعية . لنفترض أن مقدار الحيود المسوح به في مدار النجم حول الكوكب - لكي تكون هناك حياة - تتراوح من صفر حتى 0.5 ، لهذا لن نفاجئ بوجود حياة في كوكب مقدار حيود مداره هو 10% ، فكثير من الكواكب لها مثل هذا الحيود ،و لكن لو وجدنا مثلآ أن مقدار الحيود في مدار الأرض هو 0.000001 عندئذ ستتملكنا الحيرة لوجودنا في مثل هذا الظرف الإستثنائي . بالطبع هذا لم يحدث فمقدار حيود مدار الأرض 2% كما شرحنا من قبل . بالتالي نحن نجد أنفسنا وسط عدد هائل من الظروف المنسقة جيدآ أو ما يطلق عليها توليف دقيق fine tunning ، و أي تبديل ولو طفيف في تلك الظروف ستؤدي إلى عدم ملائمة الأرض للحياة كما نعرفها الآن ، و لكن هذه العناصر و الثوابت الطبيعية ليست ذات قيم محددة بدقة تامة . هذه الفكرة يطلق عليها مبدأ التوسط أو principle of mediocrity .
يطلق العلماء على التصادف الضروري في بعض العناصر مثل كتلة الشمس و الحيود في مسار الأرض حولها عوامل بيئية ، لأنها ناتجة عن إكتشاف الإنسان العفوي لما يحيط به من كون ،و ليس نتيجة القوانين الطبيعية ذاتها . يشمل ذلك أيضا عمر الكون ، فهناك أعمار عديدة للكون و لكن الزمن الحالي هو الحقبة الوحيدة الملائمة للحياة كما يلاحظ العلماء ذلك .
المبدأ الأنثروبي القوي .
هذا التصادف البيئي هو ما يطلق عليه المبدأ الأنثروبي الضعيف ، وهو سهل الفهم و لا خلاف عليه ، و لكن هناك نوع آخر من المبدأ الأنثروبي هو المبدأ القوي ،و كثير من العلماء ينظرون إليه بعدم قبول ، هذا المبدأ القوي يفترض أن وجودنا لا يحتم قيودآ فقط على البيئة بل أيضا على قوانين الطبيعة سواء من حيث الشكل أو المحتوى . هذا يعني أن خصائص نظامنا الشمسي ليست وحدها التي تدعم حياتنا على الأرض ، و لكنها أيضا خصائص الكون بأكمله . و كما هو واضح فإن شرح هذا المبدأ أكثر صعوبة بما لا يقارن من مبدأ الأنثروبي الضعيف السابق .
و لكن لماذا لا نحاول ؟.كي تظهر الحياة على الأرض كما نعرفها الآن هناك سيناريو متراكم يجب تحقيقه .
1. يجب أن تسمح قوى الطبيعة بتكوين النجوم و المجرات مع بداية الكون . وهذا حدث بالفعل نتيجة وجود فروقات دقيقة جدا في كثافة المادة في الكون مع التضخم الهائل الذي حدث في بداية الكون ، هذه الفروقات كانت في حدود 1 جزء في 100.000 . و لكن لو كان الكون متجانس تماما بدون أي تفاوت ما ظهرت المجرات و الكواكب .
2. يجب أن تسمح قوى الطبيعة "بطبخ " مادة الكربون داخل النجوم من المواد الأولية التي ظهرت مع مولد الكون ،و هي الهيدروجين و الهيليوم و الليثيوم .وهذا ما كان ليحدث لولا حدثين نادرين ، اولهما إنهيار تلك النجوم القديمة نتيجة نفاذ الهيدروجين ،و ثانيهما حالة " الرنين " كما سنرى لاحقآ .
3. هذا كله ليس كافيآ بل يجب أن تؤدي ديناميكا بعض النجوم إلى إنفجارها ،و أن يكون هذا الإنفجار بشكل دقيق يؤدي إلى بعثرة المادة الثقيلة في الكون .
4. يجب أن تؤدي قوانين الطبيعة إلى إعادة تكثيف هذه المواد المبعثرة في جيل جديد من المجرات والنجوم ، و أن تتشارك هذه النجوم و الكواكب التي تدور حولها في المواد الثقيلة ( خاصة الكربون ) التي أنتجت سابقآ في السوبرنوفا أو المجرات الأولية المنفجرة .
5. هذا السيناريو كله محكوم بتوازن دقيق في القوى الأساسية في الكون ،و يجب أن يكون بالشكل الذي يسمح بتطور الكون بهذا الشكل المحكم .
مولد الكربون .
كان العالم " فريد هويل Sir Fred Hoyle " في الخمسينات من القرن 20 يتحدث أن الهيدروجين هو العنصر الأساسي في الكون البدائي الأولي ، و منه صنعت كل العناصر الكيماوية . كما نعلم يتوفر للهيدروجين أبسط نواة ممكنة ، فهي مكونة فقط من بروتون واحد بالإضافة إلى 1 إلى 2 نيوترون في نظائر الهيدروجين . و يطلق تعبير النظائر isotopes على العناصر التي لها نفس عدد البروتونات في النواة مع إختلاف في عدد النيوترونات . نعرف الآن أنه خلال 200 ثانية الأولى من عمر الكون أدت الظروف إلى تكوين نسبة بسيطة من ذرات الهيليوم و الليثيوم .و لكن الحياة تستلزم تصنيع ذرات أخرى أهمها الكربون وهو العنصر الأساسي في كل المواد العضوية ، و ذلك بسبب قدرة ذرة الكربون على إيجاد روابط مع العديد من العناصر و تكوين سلسلة طويلة من الجزيئات الثقيلة .و لكن كيف يمكن صنع ذرة الكربون ذات النواة التي تحتوي على 6 بروتونات من العناصر البدائية الأولية .
1. البداية كانت في النجوم القديمة ، عندما بدأت في تكوين الهيليوم داخلها نتيجة إنصهار ذرتين من الهيدروجين و اندماجهما معآ ، فهذه هي الطريقة التي تولد بها النجوم الطاقة الضرورية للحياة .
2. تتحد ذرتان من الهيليوم مكونة عنصر البريليوم ذو نواة بها 4 بروتونات . و لكن نظير البريليوم المنتج يتصف بكونه سريع التحلل فبمجرد تكوينه يتحلل إلى الهيليوم مرة أخرى .
3. عندما ينفذ غاز الهيدروجين في النجم يفقد الطاقة و ينهار للداخل مولدآ حرارة بالغة تصل إلى 100 مليون درجة كالفن ، في هذه الحالة تكون الذرات شديدة التقارب ،و بمجرد تكوين نواة البريليوم تتحد مع نواة هيليوم أخرى قبل تحللها مكونة نواة الكربون ذات 6 بروتونات .
4. هذه العملية التي تتكون فيها ذرة الكربون باتحاد 3 ذرات هيليوم وفقا للأسلوب السابق يطلق عليها عملية ألفا الثلاثية Triple Alpha Process، لأن نواة الهيليوم يطلق عليها الجسيم ألفا .
5. هذه العملية ستؤدي كيميائيا إلى إنتاج كمية قليلة من الكربون ، و هذا ما دفع "فريد هويل" إلى فرضية جريئة للغاية أكدتها التجربة العملية بعد ذلك بسنوات عدة ، هذه الفرضية هي أن مجموع الطاقة النووية لنواة البريليوم و نواة الهيليوم تعادل تلك التي لنواة الكربون ، مما أدى إلى موقف يطلق عليه الرنين أو renocance ، وهو يؤدي إلى التسارع بالتفاعلات النووية و تكوين ذرة الكربون بمعدلات عالية جدآ .
6. في هذا الوقت لم يكن هناك شيئا معروفا مثل مستوى الطاقة للنواة ،و لكن هذا الإقتراح دفع عالمآ آخر في " كالتكس " هو " وليم فوللر " إلى التفكير و البحث عن تلك طاقة النواة و من ثم وجدها ، مقدمآ دعما كبيرآ لأفكار " فريد هويل " حول تعقيدات تكوين ذرة الكربون .