أوهام طائفية سورية
بواسطة
admin2
– 2011/05/08نشر فى: مقالات وتحليلات
د.حبيب زعرور : كلنا شركاء
مقولات ثلاث، لا تتعدى كونها أوهاماً متوارثة، تكاد تتحول الى قناعات وواقع يعيشه المجتمع السوري ويتأقلم معه على أنه حقيقة ثابتة يفترض القبول بها والتعايش معها. المقولات مشتركة بالطابع الطائفي لها، واذا عرفنا أن الطائفية هي الداء الأكثر فتكاً في أي من المجتمعات البشرية، لا سيما في عالمنا المعاصر، أدركنا مدى خطورة المقولات الوهمية التالية على المجتمع السوري، خاصة وسورية تعيش حالياً أزمة تكاد تتخذ أشكالاً وألواناً طائفية للأسف الشديد، خدمة لأغراض وأهداف هي أبعد ما تكون عن مصالح الإنسان السوري وعن تكامل بنيته الاجتماعية وتلاحمها.
أولى هذه المقولات أن النظام السوري الحالي والقائم منذ نصف قرن يكفل حماية المسيحيين السوريين، وأن زوال هذا النظام سيضع المسيحيين في سورية تحت رحمة الإسلام الأصولي المتطرف الذي سيفضي بهم الى ما آلت اليه المسيحية في العراق.
هذه المقولة خاطئة من أساسها وهي ضرب من الوهم الخادع، ذلك أن المسيحيين السوريين قلة قليلة لا تشارك عادة بالحياة السياسية العامة، لا بل تفضل الابتعاد عنها وعن التعاطي بالسياسة بكل أشكالها، باستثناء بعض التجار الذين ربطوا مصالحهم التجارية بالطبقة الحاكمة. وبالتالي فالمسيحيون في سورية لا يشكلون أي خطر على أي نظام كان. وهم لم يتعرضوا في أي مرحلة من مراحل التاريخ السوري لأي اضطهاد أو سوء معاملة على الطريقة العراقية أو اللبنانية أو المصرية (طبعاً باستثناء أحداث محدودة جداً لا ترقى لمستوى الحدث المؤثر، مع استثناء التصرفات العثمانية في القرنين الماضيين). المسيحيون لم يكونوا يوماً بحماية النظام الحالي، فقد اعتقل من اعتقل منهم ولم تشفع له مسيحيته، والأمثلة كثيرة. المسيحيون لا يحتاجون الى حماية أكثر من حماية جيران لهم من المسلمين الذين لم يقصروا يوماً في توفير تلك الحماية عندما يتطلب الأمر. وللذكرى فالمسلمون يذكرون تماماً أنهم، في فترات متباينة من الاضطهاد وجدوا أنفسهم في حماية جيران لهم ينتمون الى الطوائف المسيحية.
فلنتخلص من ذاك الادعاء القائل أن المسيحيين سيكونون في خطر إن تغير نظام الحكم في سورية. إن أي نظام سياسي يسعى قبل كل شيء الى حماية نفسه ورجاله، وهو يحمي من يؤيده دون تمييز، فمصلحة النظام تعلو ولا يعلى عليها، لذلك فالتفاؤل بهذا النظام أو ذاك غير منطقي، ولو حصل وارتكب مسيحي سوري معصية بحق النظام فسيلقى بالتأكيد مصير المندسين الإرهابيين، ولن تشفع له مسيحيته. ثم أن التحتيم بوصول المتطرفين الأصوليين الإسلاميين الى الحكم أمر يستحق إعادة تقييم بسبب خطأه وعدم دقته. وإذا ما بالغنا بالتشاؤم ورضينا بمقولة أن الإسلام الأصولي أو السلفي أو الجهادي أو الإرهابي، هو من سيتسلم الحكم حتماً بعد تغيير النظام الحالي، فان خطره سيطال المسلم المؤمن الحقيقي، المعتدل والصادق قبل المسيحي. لذا فمقولة الحماية خاطئة، تماماً كحتمية تسلم جماعات أصولية للحكم، تلك النظرية الافتراضية التي تنقضها معطيات على أرض الواقع محلية، إقليمية وعالمية.
لقد استخدم الإسلام، وللأسف الشديد من قبل الغرب لتفرقة العرب والمسلمين، وها هو اليوم يستخدم من قبل أعداء سورية، وما أكثرهم، للتفريق بين أبناء الوطن الواحد، وعلينا أن نحذر بشدة من تلك المؤامرة.
وعلينا أن نتذكر أن الأصولية والإرهاب لا يترعرعان إلا في بيئة استبدادية تخلو من الحرية، وعلاجها الواقي هو التقارب بين أبناء الشعب أنفسهم وبين الشعب والحاكم، وإذا ما تم ذلك حقيقة، فان خطر الأصولية في سورية لا مبرر له، أما إذا استمر التباعد بين الشعب والسلطة على حاله، فسورية هي حتماً الأرض الخصبة لترعرع السلفية والأصولية، تماماً كما ترعرع الفساد ونما في كافة أركان الدولة منذ نصف قرن بسبب غياب الحرية وانتشار المحسوبية وابتعاد السلطة عن الشعب، مصدرها الرئيسي. إن القضاء على أي أمل لنمو الأصولية في سورية هو في القضاء على الفساد وفي تطبيق نظريات الشفافية والاعتراف بالغير وتفهم الآخر على أرض الواقع لا في التصريحات والبيانات وحسب.
المقولة الثانية تدعي أن تنظيم الإخوان المسلمين، تنظيم غاشم يجب استئصاله من المجتمع، وان له مطامع في استلام الحكم، الأمر الذي سيؤدي في حال حصوله الى القضاء على الأقليات الدينية غير المسلمة السنية وغير المسلمة عامة في سورية، الى درجة استدعت نصاً دستورياً بهذا المعنى منذ نصف قرن. وهذه أيضاً مقولة خاطئة ومضللة اليوم، بحق فئة من الشعب السوري اختارت منهجاً عاماً ارتضت به وسارت عليه، شأنها في ذلك شأن فئات عديدة أخرى ارتضت مبادئ وأهدافاً والتزمت بها ودافعت عنها. عندما تأسس التنظيم، في ظل الاستعمار الغربي والاستبداد الأممي بحق الشعوب العربية، لم يكن في عالمنا العربي ما يسمى اليوم الأصولية أو السلفية أو الجهادية. كلها بدع جاءت بها الولايات المتحدة والغرب، بتمويل بترولي سعودي وعربي، لتفرقة العرب والقضاء على ما تبقى من قيمهم وأخلاقهم. الأصولية السلفية لا وجود لها في سورية، وإن وجدت فأتباعها فئة قليلة العدد منبوذة بمعظم أفرادها لسلوكياتهم الشاذة والمرفوضة. لذا فمن واجب المجتمع والدولة في سورية استيعاب أفراد التنظيم على أنهم سوريون، وإتاحة المجال لهم للتعبير عن وجهة نظرهم ضمن أطر من حماية حقوق الجميع في وطن تحترم فيه السلطة تلك الحقوق. لذا فالقول أن الخطر يكمن في تنظيم الأخوان المسلمين خطأ شائع والحقيقة هي أن الخطر هو في غياب أي قانون دستوري يرعى التنظيم السليم للتجمعات والأحزاب والجمعيات، كما يرعى وينظم حق التعبير والإعلام، وهذا هو خطأ السلطة لا خطأ الأفراد ومسؤولية السلطة التي لا يمكن أن يتحمل تبعاتها المواطن العادي وحده.
إن نظرية المؤامرة ضد النظام من قبل قوى خارجية تمثلها جماعات وأفراد مثل الحريري وخدام وبعض أفراد العائلة المالكة السعودية، نظرية لا يمكن التشكيك بها، فالأطراف المذكورة، ومعها بعض الرعاع في الولايات المتحدة الأمريكية، تكن الكراهية للنظام القائم في دمشق وإن يكن لكل منها أهدافها المختلفة بين راغب بمجرد الانتقام أو طامع بالسلطة لرد الاعتبار.
إلا أن تلك النظرية لا يمكن لها أن تبرر الادعاء القائل بأن القلاقل التي تشهدها سورية هي محاولات لزعزعة الاستقرار من قبل جماعات دينية طائفية متطرفة. وكنتيجة حتمية لهذا الادعاء، الذي يهدف فقط الى خلق أجواء من القلق وعدم الاستقرار في أوساط الناس العاديين، سيقدم النظام نفسه، فور إخماده تلك القلاقل، على أنه المنقذ للوطن والمكرس لاستقراره وأمنه والحريص كل الحرص على راحة مواطنيه ورخائهم، بالرغم من عدد القتلى وأنهر الدماء التي سالت على أيدي حماة النظام، المفترض بهم أن يكونوا حماة الوطن والمواطن أو ربما على أيدي القناصة والمندسين والشبيحة والبلطجية (وكلها عبارات جديدة في القاموس السياسي السوري). وكنتيجة لذلك تكون المطالب المحقة للشعب بالحرية والديمقراطية والقضاء على الفساد قد أجلت الى أجل غير مسمى. تلك مجتمعة مقولات خاطئة ليس من السهل إقناع الناس بها أو ترويعهم من عواقبها.
والحقيقة تكمن في أن السلطة في سورية تأخرت كثيراً في إعطاء الإنسان السوري حقه كمواطن شريف كريم في وطنه، مما أوصل البلاد الى ما نحن عليه اليوم، بسبب تراكم الأخطاء والاستئثار بالسلطة وتفشي الفساد، لتجد تلك الفئات الخارجية المضللة هدفها المنشود في شعب قتله الفقر ويكاد يقضي عليه الجوع ومجتمع نخر جسده الفساد والرشوة والابتزاز الذي لم تعهده سورية بتاريخها أبداً.

المؤامرة الخارجية لا تواجه بالاقتتال الداخلي بل بالانفتاح على الشعب وإدراك حقيقة مطالبه المحقة.
من المقولات الخاطئة أيضا القول أن نظام الحكم في سورية نظام طائفي علوي. فالنظام حالياً هو عقد شراكة تجارية بحتة بين مجموعة من رجال الأعمال وعائلة حاكمة ومحيطها القريب، تتقاسم بموجبه الجهات المتشاركة المغانم والمكاسب التي تحصل عليها مستفيدة من تشريعات وأنظمة ومواقف ناتجة عن استخدام السلطة التي لا تخلو من استخدام العنف والترهيب. انه عقد شراكة يستمد قوته من السلطة ويتخذ من أموال الشعب وقوته مصدراً رئيساً لتمويل عملياته، عقد مبرم بين علويين وسنيين ومسيحيين وربما أكراد وأرمن وشركس ودروز وغيرهم حتى من الملحدين والكفار. من هنا فالقول أن نظام الحكم علوي خطأ قد يهدف الى إبعاد الشبهة عن الوجه الحقيقي للحكم.
من يعرف جيداً تاريخ سورية يدرك أن العلويين استدرجوا الى ميدان العمل العام منذ قرن تقريباً عندما عمل الاحتلال الفرنسي على تقسيم سورية الى خمس دويلات منها دولة العلويين. كما أن أعداداً كبيرة منهم وجدت في صفوف مؤسسة الجيش، بسبب العوز وسوء الأحوال المعيشية، ملاذاً لأولادها يتلقون فيها التعليم الجيد وينالون لقمة العيش الكريمة، بينما كانت طوائف أخرى تنأى عن الانخراط بالجيش لاعتبارات عائلية وطبقية بحتة. لذا فانضواء العلويين تحت جناح الجيش كمؤسسة وطنية لا يمكن أن يشكل ملامة أو خطأ. وأذكر هنا أن الخطوة الأولى باتجاه استلام الحكم في سورية لم تكن مبادرة علوية بحتة، فمنذ تشكلت اللجنة العسكرية في مصر أيام الوحدة لم تكن العلوية نواتها أو هويتها، بل كانت لجنة قوامها ضباط من مختلف الأطياف السياسية والعرقية والدينية، سرعان ما تحولت عام 1970 الى قوة ينتمي أفرادها للطائفة العلوية. نذكر أيضاً أن علويين كثر قد اعتقلوا وماتوا في غياهب السجون دون أن تشفع لهم علويتهم برادع أو حام. علويون شاركوا في تأسيس البعث ثم ابتعدوا أو أبعدوا. علويون كثر منتشرون اليوم في أرض الوطن وفي الشتات الاغترابي لا يرون في نظام الحكم القائم أي ميزة لهم أو حام لحقوقهم، وإلا لما تركوا البلد وتشردوا في أرجاء الأرض.
إن الحديث عن الطائفية أو عن صراع طائفي في سورية مجرد خدعة لا يمكن لها أن تدوم طويلاً، كائناً من كان مستخدمها أو المستفيد منها. الأمل كبير في أن يخفف النظام من خطته القائمة على التخويف والتهويل من خطر انتشار الطائفية بفعل اعتداء طائفة على أخرى أو توصل إحدى القوى المتطرفة لتسلم الحكم مما سيتيح لها إبادة طائفة أخرى معادية. إن هذا المنطق يعود لأجيال من القرون الماضية عفا عليها الزمان، ولم يعد مقبولا اليوم إلا من هواة ترويج الشائعات وبث روح الخوف والترويع. إن الأوضاع العالمية اليوم لم تعد تسمح لتلك الوسائل بالانتشار، والحل الأمثل اليوم قبل الغد للخروج من هذا المأزق، إعطاء المواطن السوري حقوقه الشرعية وتخليص البلد من براثن الفساد. الأمر لن ينقضي بالتصريحات أو القرارات المكتوبة أو الشفهية، بل بأفعال يمكن ترجمتها على أرض الواقع (وهذا حديث طال التندر به من قبل كثيرين، دون جدوى).
خلاصة القول: السوريون، من أي طائفة أو مذهب كانوا، يحمون أنفسهم ويحمون وطنهم من أي عدوان أو تآمر خارجي بالتعاضد والتكاتف فيما بينهم،
وإن السلاح والعنف لن يقضي على الشر والجريمة بل سيزيد من نار الفتنة والتفرقة. الأمل والرجاء أن يتغلب العقل وتتغلب الحكمة على كل المواقف، ليخرج الشعب السوري منتصراً في نهاية المطاف ولتزيل السلطة عنها صورة الوحشية البشعة التي واكبتها طيلة الأيام الماضية، فتتفرغ لما وعدت به من إصلاحات إن هي كانت صادقة فيما تقول. ولتكن الخطوة الأولى باتجاه الإصلاح، ما استمر الرئيس الأسد نفسه يعد به منذ عشر سنوات، أي الانفتاح على الغير وتفهم الآخر.
فلتكن الخطوة الأولى في مبادرة السلطة بمد يد المصالحة القوية لمصافحة الغير والاعتراف به كشريك في بناء الوطن ومسيرة الإصلاح، لأن القول بالإصلاح كمبادرة من الحكم القائم أو أعوانه ومحيطه الذي عفا عنه الزمان أو الحزب القائد المهترء والرث، ضرب من الخيال والمواربة، اللهم إلا إذا كان المطلوب أن يطول الحديث لتكون الكلمة الأخيرة للقوة على حساب دم الشعب البريء.