هذا النص هو ترجمتي للعربية (من الإنجليزية وليس من اللغة الأصلية - الفرنسية) لمقطع من كتاب المستعرب الفرنسي الماركسي ذي الأصل اليهودي مكسيم رودنسون، العرب. لن أنحو منحى أغلب العرب الذي يزكون هذا الشخص بسبب كتابه "إسرائيل دولة كولنيالية" الذي انتقد فيه ممارسات حكومات إسرائيل، وكأنه بذلك كفر عن "يهوديته" (هذا الإنسان كان ملحدا لكننا نرفض إلا أن نحكم على الإنسان بسبب أصوله) فحتى لو كانت آراؤه السياسية ليست "معنا" بل "مع عدونا" فذلك لا يقلل من أهميته الأكاديمية فهو باحث أكاديمي موسوعي في فترة قل فيها هذا النوع من الباحثين، درس العربية وأتقنها بشغف واهتم بالتاريخ العربي، كتب سيرة لمحمد (بعنوان محمد) كانت سيرة أكاديمية أنصفته دون أن تتزلف له... لقد كتب رودنسون في شتى المواضيع المتعلقة بالحضارة الإسلامية (كما أحب أن يدعوها) حتى أنه كتب في الطبيخ الإسلامي في العصور الوسطى (قد أترجم مقاطع من مقالاته تلك لاحقا). لن أزيد كلامي كثيرا ومن يريد أن يستزيد فليقرأ عنه في ويكيبيديا (
الإنجليزية عار على ويكيبيديا العربية التي لم تكتب عنه).
كتاب العرب، كتب للتعريف بالعرب للجمهور الغربي وهو لذلك قد يبدو لنا مبسطا، في المقطع التالي من الكتاب يتساءل رودنسون عن خير مصطلح لتسمية هذه الحضارة، عربية أم إسلامية. بعض الفقرات في البداية قد تبدو مملة بعض الشيء لكن تحلوا بالصبر الجميل ولن تندموا الفقرات في نهاية المقطع تستحق المجهود. لا أتفق مع كل ما ذكر في النص لكنني أتفق مع روحه العامة، وتذكروا أن الكاتب مرجعية هامة في تاريخ العرب ولا يمكن اتهامه بميول دينية/قومية أو الطمع بصدقة بترودولارية سببت انحيازا برأيه.
الكتاب الذي ترجمت عنه هو ترجمة Arthur Goldhammer من منشورات مطبعة جامعة شيكاغو عام 1981 (الكتاب الفرنسي نشر عام 1979) ص30-35. امتنعت عن تلوين النص وتشديده للمحافظة على وحدته. آمل أن يفتح النص نقاشا مثمرا موضوعيا حول هذا الموضوع الهام.
حضارة عربية أم حضارة إسلامية؟
مكسيم رودنسون
إن الحضارة اللامعة التي نمت في العصور الوسطى في البلدان التي فتحها العرب وتوقفوا عن حكمها يدعوها البعض الحضارة "العربية"، وآخرون الحضارة "المسلمة" (أو "الإسلامية")، وغيرهم الحضارة "العربية المسلمة". الالتزام الأيديولوجي تأييدا أو معارضة للقومية العربية الحديثة يتحمل مسؤولية جزئية على الأقل لمعركة التسميات هذه.
إن مصطلح "حضارة" مرادف مصطلح "ثقافة"، على كل ما الإبهام والتناقضات التي يحويها كلام العامة لدى الحديث عن مصطلحات مجردة. إن الشيوع المحدود الذي حصل للمعنى الأدق أنثروبولوجيا إلى حد ما المتعلق بالكلمة "ثقافة" كان كافيا لتشجيع الميل لتحديد استخدام كلمة "حضارة" من أجل نماذج النشاطات الفكرية والفنية الأعلى مرتبة. بالنسبة "للحضارة" التي نتكلم عنها، فإن تلك العناصر الفكرية والجمالية قد تركت اثرا عميقا على الحضارات المجاورة، الحضارة الغربية الأوروبية المسيحية بشكل خاص، خلال العصور الوسطى.
خلال تلك الفترة أبدى العالم الإسلامي العديد من السمات الثقافية المشتركة (في أوسع معنى ممكن للكلمة)، بضمنها وجدت عدة مُتضفاوِتات. دخول هذا العالم من الخارج يجعل المرء يشعر بأنه دخل عالما مختلفا عن عالمه، له شخصية محددة. وقد كانت أكثر هذه الخصائص الثقافية المميزة جلاءً في دنيا الفكر والجمال والأخلاق أي ما يسمى عادة "بالحضارة".
كان الدين أمرا مركزيا ومميزا في هذا العالم، على الأقل الدين ذو الهيمنة السياسية، عقيدة الدولة ألا وهي الإسلام. الدول المسلمة، رغم اختلافاتها الثقافية وعداواتها السياسية، وبغض النظر عن تحالف بعضها مع "الكفار" ضد دول مسلمة أخرى، كونت ما يمكننا اعتباره كتلة أيديولوجية-سياسية، دار الإسلام. يمكن مقارنة هذه الكتلة بشكل تقريبي مع كتل أيديولوجية-سياسية معاصرة تجمع داخلها (وإن بشكل فضفاض دولا تتبع الأيديولوجية الماركسية-الشيوعية من ناحية والأيديولوجية الرأسمالية اللبرالية من جهة أخرى).
وحدة الكتلة المسلمة لم تكن نتيجة وحدة لغوية أو عرقية، عوامل لم يكن لها أهمية في تلك الفترة. إن الإنجازات الفكرية والجمالية العظيمة لتلك الحضارة كانت أعمال بشر تكلموا العربية، التركية، الفارسية، الأمازيغية أو لغة أخرى في حياتهم اليومية. اعتبر البعض نفسه عربيا، تركيا، فارسيا، أمازيغيا، إلخ... لكن العديد منهم اعتبروا أنفسهم مجرد مسلمين من أصول مختلطة.
لذا يجدر تسمية الحضارة التي خلقوهاالحضارة الإسلامية (يجدر حفظ النعت مسلمة للسياق الديني فقط). ولكن فقد كانت لغة الثقافة التي أجادها جميع متعلمو تلك الحقبة واستخدموها عادة لتأليف أعمال ثقافية سامية - بعكس لغة الأم التي استخدمت بشكل عام داخل العائلة، في الشعر والرسائل - كانت اللغة العربية، لغة القرآن والفقه، ولغة التحليل السياسي والإنشاء الثقافي. لذا يدعي البعض بأنه علينا أن نطلق اسم عربية على هذه الحضارة نطلق اسم رومانية على حضارة شبيهة بتعدد العرقيات فيها، كانت اللغة المهيمنة فيها (بالإضافة إلى الإغريقية) هي اللغة اللاتينية، لغة روما.
هنالك إيجابيات وسلبيات لكلتا التسميات. من المستحيل اختزال كلم ما يحتويه تعريف معين في كلمة واحدة. إن مصطلح "الحضارة الإسلامية" أكثر موضوعية رغم فشله بتوضيح دور المسيحيون واليهود المهم في العديد من المؤلفات (ومعظم الجوانب الثقافية الأخرى) التي صدرت من المنطقة الثقافية التي هيمن عليها الإسلام. المصطلح عربية الذي يستهجنه الإيرانيون والأتراك وآخرون، يشدد على الأصل العرقي للأيديولوجية المسلمة وعلى اللغة التي كانت الوسيط المفضل لتلك الثقافة. إنه مصطلح يفضله العرب الذين يشكون بوجود نزعة معادية للعروبة واعية أو لاواعية لدى مستخدمي تسميات أخرى. لكنها تظلم عددا كبيرا من الناس لعبوا أدوارا مهمة في تشكيل هذه الثقافة وهذه الحضارة دون أن يعتبروا أنفسهم عربا أو من "أبناء العرب" - المتعرّبين. من مساوء المصطلح الهجين "عربية-مسلمة" أنه يوحي بوجود تماثل بين مركبيه. يمكن استخدامه بحق فقد لوصف مسلمين يدعون أن أصولهم عربية.
تتضح المساوئ حين يدرس المرء مشكلة جمود وانحطاط هذه الحضارة. يصف العرب "بالانحطاط" كافة الفترة التي انتقلت الهيمنة فيها في العالم الإسلامي إلى أيادي دول حكمها أتراك (أو دول وقعت تحت التأثير التركي) خصوصا الفترة التي سيطرت فيها هذه الدول على المناطق الناطقة بالعربية. لكن في القرنين السابع عشر والثامن عشر فترة انحطاط الرعايا العرب، كانت جزءا من عهد حقق فيه الإسلام بقيادة الأتراك العثمانيون انتصارات باهرة وخلاله وصلت الإمبراطوريات العثمانية، الإيرانية والمغولية مستوى ثقافي عال وأنعمت بأعمال فنية ومؤلفات ثقافية رائعة.
أحد أشكال الطرح المعادي للعرب، الذي يلعب على وتر عنصري، حاول استغلال الطابع متعدد العرقيات لتلك الحضارة في القرون الوسطى من أجل نفي امتلاك العرب لأي قدرة على الإبداع الثقافي أو الخصائص "الحضارية". إن مروجي هذا الرأي يقومون، دون علم منهم، بإعادة استخدام حجج حركة الشعوبية القروسطية. هذا النوع من الحجج يظهر بلبلة مفاهيمية مقززة وقدر غير قليل من سوء الظن المتعصب. كانت العقول المبدعة في هذه الحضارة إما عربا، متعربين أو مسلمين لا يمكن اعتبارهم عربا. لو كان عدد العرب الأصليين المتحدرين من قبائل جزيرة العرب المنتمين إلى هذه النخبة قليل نسبيا، فذلك يعود لكون عدد العرب الاصليين غير المتعربين قليلا بالنسبة لعدد المتعربين وبالضرورة بالنسبة لعدد المسلمين الكلي. لكن بين المبدعين كان هنالك عدد كبير من المتعربين. في أيامنا فإن هؤلاء العناصر المتعربة هم غالبية من يسمون أنفسهم عربا. لذلك فإن إنكار امتلاك عرب اليوم لخصائص حضارية بواسطة التشديد على قلة عدد عرب الجزيرة من بين الأفراد المبدعين في تلك الحقبة هو ادعاء متضارب وغير صادق. مثل تلك التهجمات قد تفسر سبب تعلق العرب بمصطلح "الحضارة العربية" لوضف الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، رغم أننا إذ نهدف للموضوعية، لا نتقبله إلا مع تحفظات.