الفلسفة تنظر للامور بمنظار الاضداد لذلك كانت على الدوام هناك وحدة الاضاد، فلكل شئ ضد متحد معه بدون انفصام ولايمكن له الوجود الا مع نظيره ولايمكن معرفته الا بمعرفة مضاده، مثل النور والظلام والفوضى والنظام. على هذه الخلفية نشأت الفلسفة الصينية التي تتكلم وحدة النظام والفوضى، والتتداخل بينهم وكيف ان احدهم ينبعث من الاخر بالضرورة، ولا وجود للاسود بدون الابيض.
عندما ظهر نيوتن بقوانينه حول الجاذبية ساد بين الاوساط العلمية مفهوم ان الكون هو ماكينة مترابطة تقوم على الفعل ورد الفعل بين اجزائه، وهو مفهوم رآه البعض انه يدل على وجود خالق لان لابد ان يكون هناك صانع للماكينة على نمط البعرة تدل على البعير.
هذا المفهوم تعرض الى ضربة قاسية مع اكتشاف عالم الكيمياء الروسي بوريس بافلوفيتش بيلووسوف لتفاعل كيميائي مُدهش من خلاله نرى كيف ان الفوضى ينتج عنها نظام ديناميكي مستقل وان الفوضى هي الوجه الاخر للنظام ولايمكن لاحدهم ان يكون بمعزل عن الاخر او يتواجد بدونه تماما على مبدأ طرح الفلسفة الصينية. هذا التفاعل اطلق عليه اسم BZ reaction. على اثر هذا الاكتشاف سقط الموديل الميكانيكي للكون، فماهو تفاعل بيلووسوف؟
تفاعل بيلووسوف
الكيميائي الروسي بوريس بيلوسووف اثناء عمله في مختبرات وزارة الصحة الروسية، في مجال ابحاث التسمم، كان يسعى الى فهم دورة التفاعل الحامضي لحل معضلة التفاعل الكيميائي المتأرجح. بعد ذلك ، وعلى مدى ستة اعوام، فشل مرتين بنشر نتائج ابحاثه لكون المجلة رفضت النتائج على إعتبارها " مستحيلة" وعلى اثرها تخلى بيلوسووف عن البحث العلمي.
غير ان البيوكيميائي S. E. Schnoll من معهد الفيزياء الكيميائي النظري سمع بأعمال بيلوسووف وطلب منه مسودات تجاربه وحصل منه على الاذن بالتأكد منها ونشرها بأسم مجهول. البروفيسور شخنول اعطى المسودات الى تلميذه Anatoly Markovich Zhabotinsky الذي تابع العمل عليها. في عام 1960 نشر مقالته عن اكتشاف دورة من التفاعلات المتأرجحة والتي تنتج اشكال منظمة من الفوضى وسمي التفاعل Belousov–Zhabotinsky reaction, (BZ reaction).
وفي الويكبيديا العربية نجد
النص التالي عن التجربة والافاق التي ترتبت عليها:
"قام ( جابوتينسكي) باعادة التفاعل مع تغيير حمض الستريك بحمض المالونيك بناء على نصيحة أستاذه. وبالاحتفاظ بنفس الظروف الأخرى، توصل جابوتينسكي لتحقيق تأرجح كيميائي زمني أفضل وأكثر وضوحا من سابقه. وخلال سكبه للمحلول على شكل غشاء رقيق لا يتعدى سمكه 1 ميليمتر لاحظ جابوتينسكي تكون تشكيلات معقدة في شكل أمواج مستديرة مشتركة المركز أو حلزونية ملتفة [5].
ظل تفاعل بيلؤوسوڤ-جابوتينسكي في تلك الفترة مجرد ظاهرة عجيبة ومثيرة للتساؤلات. وفي سنة 1972، توصل ثلاثة باحثين، من جامعة أوريغون، وهم فيلد R. J. Field ونوييس R. M. Noyes وكوروس E. Körös إلى تفسير آلية التفاعل بواسطة نموذج معقد مكون من 18 تفاعلا متسلسلا يتدخل فيها 21 نوعا كيميائيا مختلفا. إضافة إلى ذلك، إقترح ثلاثتهم شكلا نظريا مبسطا للتفاعل مكون من خمس مراحل سمي "الأوريغوناتور" Oregonator، على اسم الجامعة التي ينتمون إليها [6].
وكانت كتاب الأسس الكيميائية للتشكل الحيوي The chemical basis of morphogenesis الذي نشره الرياضي الشهير آلان تورنج سنة 1952، يتنبأ بإمكانية ظهور البنى المعقدة عند التشكل الجنيني بواسطة مواد كيميائية، سماها تورنج بالمشكلات Morphogens، تنتشر وتتفاعل لتغير خاصية الفضاء الأحيائي المحيط بها [7].
إسترعى نموذج تورنج الرياضي انتباه إيليا بريغوجين Ilya Prigogine وغريغوار نيكوليس Gregoire Nicolis، من جامعة بروكسل الحرة، اللذان قاما بتعديله ليظهر أن بعض التفاعلات الكيميائية البعيدة عن حالة التوازن في التحريك الحراري، مثل تفاعل بيلؤوسوڤ-جابوتينسكي، يمكن أن تنتج نظما فضائية معقدة ذاتية التعضية [8]. وسمي هذا النموذج بنفس الطريقة "البروكسيلاتور" Bruxellator.
واصل جابوتينسكي ومعاونوه في جامعة بوسطن، أبحاثهم حول التشكيلات الفضائية المعقدة التي يظهرها التفاعل، وتبين أنها موجات كيميائية Chemical waves تتصرف فيزيائيا مثل موجات الصوت أو الضوء من خلال الانعكاس والانكسار على وسط غروي [9].
بالاختصار تحطمت نظرية الكون الميكانيكي. ولكن اإذا كانت الاشكال الناشئة منتظمة الا يمكن ان تكون لها قانون يتوقعها ويستبق حدوثها؟
Edward Norton Lorenz الذي كان يؤمن بالعالم الميكانيكي كان يبحث عن قانون يسمح له بالتنبوء بالطقس، غير انه عوضا عن ذلك اكتشف نظرية الشواش (الفوضى) (Chaos Theory) . الاكثر شهرة هي مقولته " لو خفقت فراشة اجنحتها في البرازيل فيمكن ان تحدث عاصفة في تكساس" واساس نظريته ان تغيير في الارقام العشرية مهما كان ضئيل يتطور الى تغييرات عاصفة لاتخطر بالبال. وبالتالي فإن النموذج لايكون هو نفسه، على الرغم التشابه العام، لمجرد تغييرات غاية في البساطة. بذلك نجد ان الاحداث المعقدة تملك تشكيلة لانهائية من الاحتمالات جميعها تقوم بنيتها انطلاقا من نمط بسيط للغاية.
من تجربة بيلوسووف نرى كيف ان الدوائر في الاصل وعلى العموم متشابهة ولكنها ابدا ليست متطابقة. والغريب ان جميع مافي الطبيعة يقوم على المبدأ نفسه، وبالتالي فالطبيعة تملك ميكانيزم التعقيد الديناميكي من الفوضى نحو النظام في ذاتها.
Benoît B. Mandelbrot, عالم رياضيات فذ ومؤسس علم التناظر التفرعي. Fractal geometry. تقوم النظرية على شرح ظاهرة ان الاشكال في الطبيعة تتطور بطريقة تفرعية في ظاهرها فوضوية غير انها متناظرة. والتناظر الفركتالي عبارة عن سلسلة من الاشكال ذاتها من مختلف الاحجام تبدأ بالاكبر وتنتهي بالاصغر تماما مثل الشجرة في سلسلة مستمرة، لتبدأ بالابسط وتنتهي بالتعقيد، ولكنه تعقيد مركب من حلقة غاية في البساطة. هذا الامر جرى التعبير عنه بالمعادلة: C<=> C2 +z.
التشكيل اعلاه نراه ينعكس في مجاري الانهار وفي منحدرات الجبال بنتيجة الاسيول والحت وفي الاشجار وفي التجربة الكيميائية وفي الاوردة الدموية والممرات التنفسية للرئة والاعصاب كما نراها في عملية نشوء الكون وحتى حركة الاسماك والطيور. عندما تطير الطيور في مجموعات كبيرة وتغيير اتجاهها بحركات سريعة وحادة لااحد يستطيع توقع معرفة الخطوة التالية ولا حتى الطيور انفسهم، ومع ذلك لايتصادمون لان المعادلة قائمة ان الحلقة البسيطة تقوم بالاهتمام بنفسها وبالذات ان كل طير يهتم بملاحظة الطير الاقرب اليه والانسجام معه فقط لاغير.
بذلك نرى ان التركيبة تقوم على البساطة التي تخلق التعقيد والتنوع الى درجات لانهاية لها ولكنها كامنة ولاتحتاج الى منُنظم . ذلك يعني ان الفوضى والنظام ملتحمان لاانفكاك بينهم ولاوجود لاحدهم بدون الاخر، ولكن كلاهما موجودان بفضل وجود الاخر وليس بفضل قوة من خارجهم، بالذات لان التفسير في ذاتهم كافي لوجودهم ولايحتاجان الى تفسير من خارجهم.
يتبع..