المقال الأخير الذي كتبه الراحل ممدوح عدوان في العدد الأخير من مجلة الدومري بتاريخ 28/7/2003
منع العدد من التوزيع، ومنعت "الدومري" من الصدور
كل عضـّة بغصـّة
اشتغلت في الصحافة السورية (جريدة الثورة تحديداً) منذ عام 1964. وفي عام 1997 لم يبق بي حيل على المناكفة فقدمت استقالتي (التي قبلت خلال دقيقة واحدة. بفضل محبة وزير الإعلام والمدير العام للجريدة).
وقد منّ الله عليّ (وخفف عني الأعباء) بقلة الانسجام بيني وبين رؤساء التحرير ووزراء الإعلام. فكانت هناك أوامر مكتوبة وأخرى غير مكتوبة بمنعي من الكتابة بين حين وآخر.
وكان المنع أمراً محتملاً، لأنه ما من أحد منا، كان يعول على سعة انتشار صحفنا ليحقق من ورائها مجداً.
ولكن المشكلة الحقيقية هي في السماح بالسفر. فمن المعروف أن الموظف عندنا، لكي يغادر القطر، يجب أن ينال موافقة وزيره. ولما كان وزيري لا يطيق كتابتي، فمن المتوقع ألا يوافق على سفري إلى الفعاليات التي كنت أدعى إليها (علماً أن المرضي عنه يسافر وبأخذ مهمة وإذن سفر).
وكلما مرت الأيام ازدادت معرفة الناس بي، وتقديرهم لي، خارج البلاد. فتزداد الدعوات. ويزداد المنع. ويزداد حسد بعض الزملاء.
ومع ذلك سافرت إلى عدد لا بأس به من النشاطات والمؤتمرات. ولكن، كما قلت في البداية، لم يبق لدي حيل. فقدمت استقالتي لأكتب على جواز سفري عبارة "متقاعد".
ولكنني أحتفظ في ذاكرتي ببعض القصص التي تصلح لتقديمها للقراء الأعزاء.
منها مثلاً، وأنا مبعد عن الجريدة، (ولكنني أتقاضى راتبي منها)، احتجت ذات يوم إلى بيان بالراتب لمعاملة ما. ورحب بي الزملاء القدامى، وعملوا المعاملة (وهل هناك ما هو أسهل من بيان بالراتب؟!) إلى أن وصل البيان إلى السيد المدير العام، فحلف بدينه وبراس سكينه أنه لن يوقع على هذا البيان. وأثار الأمر استغراب جريدتنا. وهو فعلاً يقبض راتبه من عندنا. ولكن المدير العام العميد رفض. وختم القول: ماني موقع له. وخله يبلط البحر!
ولما لم يكن هناك بحر في دمشق مزقت المعاملة وغضضت النظر عن الموضوع. ولا حاجة لأن أقول إن المعاملة كانت ذات أهمية بالنسبة لي.
ومن مآثر هذا المدير معي أنني في مؤتمر للصحافيين تورطت وتحدثت. وقلت ما ملخصه إن الموقف السياسي السوري موقف محترم. والقيادة السورية تحظى باحترام حقيقي. ولكن إعلامنا مقصر في تسويق هذا الموقف. لأنه إعلام لا يصل حتى إلى المواطن السوري، وبعد كلامي تتالى المتحدثون.
وحين جاء دور السيد المدير العام للكلام لم يجد ما يعلق عليه إلا كلامي. فكان أن فهمه على الشكل التالي: ممدوح عدوان حاقد على المسيرة وقائدها. ولكنه لا يجرؤ على قول ما يريد بشكل واضح. فيحول نقده اللئيم على الإعلام. وأنا أطالب بوضع حد له.
ولما كان المخبرون في مؤتمراتنا أكثر عدداً من المؤتمرين (وبينهم عدد لا بأس به من المؤتمرين أنفسهم) فقد انهالوا علي بالأسئلة: ماذا قلت؟ وماذا تقصد؟ ولماذا لم توضح كلامك؟
.. وانتهت على خير بعد أن أوشكت على .. !
وقبل هذا المدير كانت لي قصص أخرى مع مدراء سابقين. ومن بينهم مدير عام أمر بمنع نشر اسمي حتى في خبر داخل "جريدته" وأنا محرر فيها. (وحجته، بعد أن أزيح من منصبه، أنه فعل ذلك بناء على توجيهات الوزير).
وصادف أن أقيمت في دمشق أمسية شعرية استثنائية. إذ انتقى مسؤولو منظمة التحرير خمسة من الشعراء المشاركين في مهرجان "الشقيف" إقامة أمسية في دمشق (عام 1981).
وكانت أمسية رائعة. شارك فيها كل من محمود درويش أمل دنقل وسعدي يوسف وأحمد دحبور والعبد الفقير أنا، وكان الزحام في مسرح الحمراء أكبر من أن يوصف.
وانتهت الأمسية. وكان حضوري فيها لافتاً للنظر. وفي اليوم التالي نشرت صحفنا خبراً عن الأمسية على أنها ضمت أربعة شعراء، وحذف اسمي نهائياً من الخبر.
ولم أعلق على الموضوع إلا بالقول إن الجمهور الذي حضر الأمسية أكبر من جمهور هذه الصحف مجتمعة.
وسبق لي أن تعرضت أنا وبعض الزملاء في الجريدة لعقوبة، من المدير العام، رأينا أنها ظالمة. ولم يفدنا احتجاج ولا شكوى. فقررنا رفع شكوانا إلى نقابة الصحفيين. وإلا لم النقابة؟
وبشكل ما تجاهلنا حقيقة مضحكة مبكية، وهي أن المجلس التنفيذي للنقابة يضم رؤساء تحرير صحفنا برئاسة السيد الوزير.
وكانت نتيجة شكوانا أن اكتشف أعضاء المجلس أن هذا شغب. وأن المحرض على هذا الشغب هو ممدوح عدوان. فاتخذوا قراراً بمنعي من دخول جريدتي. ووضع السيد المدير العام شرطة عسكرية لتمنعني شخصياً من دخول الجريدة. وحين جئت، ولم يسمح لي بالدخول، طلبت الإذن بالدخول لأخذ أغراضي الشخصية فلم يوافقوا.
وخرج أحد الزملاء من الداخل ليقول لي: احتل فلان مكتبك. ماذا فعلت؟ قلت له: لم أفعل شيئاً إلا أنني صدقت أن لدينا نقابات يمكننا أن نتوجه إليها بالشكوى حين يصيبنا الظلم من رؤسائنا. لم أكن أعرف أن ربك هو حاكمك.