ص70 :
أسهل مما ذكرت : لماذا لا يصفها اذا بغزل مكشوف ؟ ما دام على هذه الدرجة من السطوة والمكانة بحيث تجعلاه يفعل ما يشاء ؟ فاذا كان عبارة عن زاني ، و يدخل الى الحي جهرة ليزني بإمرأة متزوجة في وسط القبيلة و بدون اي خوف ، فلماذا لا يصف مغامراته الغرامية والجنسية ؟ ولماذا يكبت نفسه جنسيا بالشعر ولا يكبت نفسه جنسيا بالواقع ؟ مع ان الثانية اسهل من الاولى !!
كل مادي لا يستطيع ان يفسر شيئا تفسيرا حقيقيا و مقنعاً ، لان تفكيره يقتصر على المادة فقط ، وليست المادة كل شيء . ثم هل نسيت ان الشعراء يقولون ما لا يفعلون ؟ كل شاعر غزل يضطره الغزل احيانا لان يصف لقاءاته مع محبوبته و مغامراته وعدم خوفه من اهلها ، ليثبت شجاعته ، و ليس شرطا ان تكون هذه المغامرة حقيقية ، لان اغلب الشعراء لم يخوضوا هذه المغامرات الشعرية ، فضلا على ان يكونوا عشاقا اصلاً .
انت امام شعر عفيف . حاكم الشعر : لماذا هو عفيف مع ان الخيارات الاخرى متاحة ؟ هنا السؤال . ابو نواس له شعر ماجن ، ومع ذلك هو شاعر معدود و مشهور ، لماذا لم يكن جميل مثله طالما يمارس هذه الممارسات ؟
ص71 :
لماذا يحصل هذا التناقض بين ان يجدد نشوة عشقه و حماسه ، وان يقتصر على واحدة ، طالما انك صنفته دونجوانا و انتهى الامر ؟ ما الذي يجعل دونجوانا يقتصر على واحدة ؟ هذا شذوذ عن الدونجوانية ، و ليته شخص واحد من فعل هذا الشذوذ عنها ! بل زمرة من الشعراء العذريين ! هذا تناقض فاحش .
و هنا تناقض اخر : صنع العراقيل !! وهو اكثر بشاعة من الاول !! فشيء يحبه و يتحرق شوقا اليه ، بينما في الوقت نفسه يصنع العراقيل ليحول بينه و بينه !! يا ترى ماذا سيكون هذا الدافع طالما الشوق ملتهب الى هذه الحد ؟ يجب منطقيا ان يكون هذا الدافع اقوى من الشوق الذي ألهبه !!
و كيف يصبح دونجوانا وهو لم يحب الا واحدة ؟ هذا تشبيه ناقص و بعيد جداً . وما دامت هي المحبوبة الوحيدة ، فكيف عرف انه سيموت الحب رغم انه لم يمت لسنوات ؟ بل انه يتواصل معها ، فلمَ لمْ يمل منها كما يفكر الدونجوان ؟ على هذا الحال يستطيع ان يحب مجموعة و ليس واحدة ، فكلما التهب الشوق إلى واحدة يذهب إليها ريثما يزداد الشوق إلى الاخرى !!
وهل هذا التفسير منطقي ؟ انت كمن يقول : سوف اجوع نفسي حتى اشتهي الطعام ، و كلما ازداد التجويع زاد الولع للطعام واشتهاؤه حتى يصل غاية التلذذ ! ثم يموت في الصحراء مثلما مات مجنون ليلى في الصحراء من العشق !! هل نسيت ان الشوق مؤلم ؟ الم تشتق الى شيء و تنحرم منه ؟ هذا الشيء محرّق و مؤلم ، ولا يوجد شوق إلا على أمل الوصول ، وإلا لما كان شوقا يا استاذنا العزيز .
و أنت الآن تصف الوضع بأنه لا ينوي اصلا أن يصل اليها و يظل مشتاقا لها الى ان يموت دون ان يطفئ هذا الشوق ، كأنه محاولة انتحار بالحرمان ! هذا تخريج بعيد جدا وغير واقعي ولا منطقي وليس له مبرر يقبله العقل . و لماذا يفعل بنفسه كل هذه الافاعيل ؟ لماذا يحرق نفسه وهو حي ؟
احتراما للعقل : ما هو المبرر لكل هذا العذاب ؟ من يتعذب لا يتلذذ ، ألا يعلم هذا الاستاذ هذا الشيء ؟ و عذابه الذي تصف هو اشد من نعيمه فهو ينتهي به بالجنون والموت .
ص72 :
ما هو العشق ؟ العشق هو حب الطرف الآخر . وحب الشيء يقتضي الإرتباط به . هذا الاعتساف يثير الاشمئزاز . كل هذا حتى تقول انهم ماديين ، وتنفي وجود هذه الفضيلة . كل هذا المجهود الشاق والغير موفق كان هدفه مع الاسف نفي وجود فضيلة .
ثم هل يوجد البحث عن العراقيل والحواجز لاشياء نحبها خلاف موضوع العشق حتى نقيس عليها بما أنك استاذ فلسفة ؟ ام ان هذا امر خاص جدا و خاص بالذات بجميل والعذريين امثاله ؟ اذا هي ليست ظاهرة انسانية ، بل نحن امام تفكير غريب ومناقض للتفكير البشري . الا يعلم الاستاذ ألم فراق من نحب حتى نذهب نحن فنضع عراقيلا ؟
حسنا : انت تحب صديقك او قريبك ، فهل تصنع عراقيل حتى يزداد هذا الحب ؟ و فعلا اذا طالت المدة يزداد شوقك لصديقك ، فلماذا اذا لا تصنع العراقيل حتى لا تراه و لا يراك فتستمتع بلذة الصداقة ؟
ثم كيف تقول هذا الكلام على السنتهم و هم لم يقولوه ؟ ما الذي يمنعه من ان يقول انه هو نفسه من صنع العراقيل ليزداد الشوق ؟ انت تقوّلهم ما لم يقولوه . أنت تقول بأنهم يضعون العراقيل ، بينما اشعارهم تقول العكس ، أنهم يتمنون زوالها . وأنت تقول بأنهم يتمنون بقائها ! مقوّلهم ما لم يقولوه بل عكس ما قالوه ، هذا لاثبات التبرير الالحادي المادي الذي لا يعترف بالفضيلة بل بالمصلحة ، و خصوصا فضيلة العفاف العذرية .
لماذا لم تتصور أن هناك حبا للانسان بذاته وليس لجسده ؟ و الا لأحب غيرها فالأجساد كثيرة ؟! هذه محاولة تشويه لفضيلة عربية مشهورة تجاوزت حدود العالم العربي ، إلى درجة ان قيس وليلى وقصتهما يرددها المغنون في الهند وبنجلاديش ، وتوضع الافلام لتلك القصة التي تجمع ما بين الحب والعفاف كفضيلتين تباري احداهما الاخرى بالجمال ، ولو كان الدافع لها هو الشهوة الجنسية لما حضيت بهذا الاحترام الذي تجاوز حاجز اللغة .
الشعر العذري من مفاخر العرب والمسلمين ، ولا ننس انهم مسلمين ، فلماذا يراد لنا ان نحرم من هذا الفخر و يشوّه بهذا الشكل ؟
العربي لا يشوه مفاخر امته و يلطخها بالعار من خلال تبريرات لا تقنع احدا حتى من يعجبه هذا التلطيخ . اصحاب الهوى الجسدي والحب الجنسي موجودون و في التراث العربي نفسه ، و تقبل بوجودهم ، فلماذا لا تقبل بوجود عشاق عفيفين ؟ اما أن تريد ان تجمع الجميع في نطاق الشر فقط ، فلا ارى مصلحة لاحد في هذا .
كل امة تفخر بوجود فضيلة بين ابنائها ، لمصلحة من هذا التشويه الذي لا تسنده النصوص الشعرية الموجودة ؟ وكأنك تقول : كل عاشق هو عاشق للجنس ، وهو دونجوان في نظرك ! واذا لم يكونوا عشاقا عفيفين ، فمن هم العشاق العفيفين اذا ؟ اعطنا مثالا ؟ العرب يفخرون بقصص العذريين الحقيقية ، والانجليز يفخرون بقصة حب روميو وجولييت و هي ليست حقيقية ، فلاحظ الفرق ! و وقفتك مع امتك هي لازالة هذا التميز الحقيقي الذي يثبته التاريخ والادب ، هذا العمل ضد العروبة والاسلام . ولا يستفيد منه الا اعداء الامة .
ص73 :
انت تفترض أن الخيار والقرار بايديهما وليس لأحد أي دخل في حياتهما ! و كأنهما (بوي فريند وقيرل فريند) في اوروبا ! كان المفترض أن تدرِس طبيعة القبيلة و بنيتها ، قبل ان تدرس جميل وبثينة ، فما وقع به جميل وبثينة وقيس وليلى يحصل الآن في زمننا ، خصوصا في القرى والارياف والقبائل ، ويحصل نفس المنع ، وإكراه المعشوقة على الزواج ابعادا للشبهة والعار .
و شخصيا اعرف حالات حب وقعت و زوّجت البنت رغم انفها حتى لا يقول الناس انها تزوجت من شخص كانت على علاقة به ، فلماذا الذهاب بعيدا ؟ كان بإمكان الاستاذ ان يسأل ليجد امثلة مشابهة في الواقع . فالعرب هم العرب ، و عاداتهم مستمرة . وقضية العرض قضية هامة جدا في العقلية العربية حتى الآن .
لا زلت تنظر إلى المشكلة على أنها شخصية ! تخيـّل (ولكن بغير الخيال الغربي الذي يخطف معشوقته على جواد ابيض) ، تخيل لو ان جميل أو قيس خطف حبيبته ، اين سيذهب ؟ ما هو العار الذي يلحق أهلها ؟ كيف ستطمئن بالعيش وأهلها و أمها و أخواتها في ألم و حرج من الآخرين ؟ لا تنس ان العاشق هو انسان رقيق يحس بغيره و ليس انانيا . ليست الحكاية حكاية انانية .
و موضوع التشبيب الذي اعطي اكبر من حجمه في هذه الدراسة ، فيا أخي : العاشق يخرج زفراته إما على شكل كتابة او شعر أو رسم ، و يكون هذا بينه و بين اصدقاؤه ومن حوله ، فيأتي من ينشر هذا الكلام لأنه كلام مبدع ، وهناك اناس كثر يحبون الشائعات ، وما اسرع ان تنتشر الشائعات في مثل تلك البيئات التي ليس لديها وسيلة اعلام سوى الكلام . وبما أن أمره قد افتضح فلن يبالي في التشبيب بمحبوبته ، على الاقل للتنفيس عما يحسه ، كما يقول مجنون ليلى :
وما انظمُ الاشعار الا تعلـّة ً .. وما اشرف الايفاع إلا تداويا ..