ابن القيم الجوزية وغربلة الأحاديث
نقدم هنا فكرا يدخل في صميم فقه الحديث وهو فكر يصب في صميم مشروعنا لتصحيح موروثنا الإسلامي وعلى رأسه الحديث.
ويعتبر فكر هذا العالم مما يزخر به ثراثنا الإسلامي ومن الآراء التي يتجاهلها أتباع الفكر السلفي الذين لا يأخذون من أفكار السلف إلا ما يوافق آراءهم وانتماءاتهم وأهدافهم.
فمن المعلوم أنه لم يكتف العلماء والفقهاء بما نص عليه مصطلح الحديث فقام بعضهم في وضع معايير جديدة لتنقية الأحاديث ايمانا منهم بنقصان منهج "مصطلح الحديث" وخصوصا مسألة السند.
وهذا دليل على عدم اقتناعهم بطريقة غير مباشرة بفعالية الإسناد لمعرفة الصحيح من الضعيف.
وكان أولهم على ما اعتقد أبو حنيفة النعمان الذي لم يقبل بأغلب ما روي من أحاديث وذهب البعض إلى اتهامه بالزندقة والمروق عن الدين وما شابه ذلك.
وهنا لن نتكلم عن محنة أبي حنيفة ولكننا سنستعرض ما ذهب إليه احد العلماء البارزين والذين طبعوا اسمهم بمداد من ذهب.
وهو ابن القيم الجوزية الذي كان له رأي واجتهاد في قضية غربلة الحديث ووضع معايير عرفت بمرشح ابن القيم الجوزية
وقد أتينا بمثال لهذا العالم لكونه يعتبر من مراجع الفكر السلفي الذين يتشددون في مسألة الحديث وغيره ويعتبرون أن السلف الأوائل قد فهموا وانتهى الفهم عندهم ولا يجب بعدهم إلا السمع والطاعة.
الموضوع : هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط ، من غير أن ينظر في سنده ؟ …
هذا السؤال وُجِّه إلى الإمام ابن القيم الجوزية فأجاب إجابة وافية في كتابه القيم "المنار المنيف في الصحيح من الضعيف"
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله "فهذا سؤال عظيم القدر وإنما يَعْلَمُ من تضلع في معرفة السنن الصحيحة ، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلكَه ، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه ، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة كأنه مخالط للرسول كواحد من أصحابه.
ثم يضرب الإمام ابن القيم الأمثال. فيقول : فمن ذلك ما روى جعفر بن جسر عن أبيه عن ثابت عن أنس –يرفعه- "من قال سبحان الله وبحمده ، غرس الله له ألفَ ألفَ نخلة في الجنة أصلها من ذهب…"
ويستمر ابن القيم في سرد أحاديث شبيهة بهذا الحديث …أحاديث تكافئ الناس على جملة يقولوها أو على بضع ركعات نافلة، تكافئهم بغرائب المكافآت التي لا يعلمها إلا علام الغيوب. ثم يقول "وهذا باب واسع جداً.
وإنما ذكرنا منه جزءاً يسيراً لتعرف به أن هذه الأحاديث وأمثالها ، مما فيه هذه المجازفات القبيحة الباردة، كلها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اعتنى بها كثير من الجهال بالحديث من المنتسبين إلى الزهد والفقر، وكثير من المنتسبين إلى الفقه.
ويستطرد ابن القيم فيقول: والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة، ومجازفات باردة تنادى على وضعها واختلاقها مثل حديث : "من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطى ثواب سبعين نبياً"
أو مثل حديث "من اغتسل يوم الجمعة بنية وحسبة ، كتب الله له بكل شعرة نوراً يوم القيامة، ورفع له بكل قطرة درجة في الجنة من الدر والياقوت والزبرجد، بين كل درجتين مسيرة ألف عام …" وهذا من حديث طويل قبح الله واضعه.
ويستطرد ابن القيم فيقول : ونحن ننبه على أمور كلية ، يُعرَفُ بها كون الحديث موضوعاً.
فمنه اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي سبق الحديث عنها ومن أمثالها كذلك الحديث المكذوب "من قال لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له.
تكذيب الحس لها، كحديث "الباذنجان لما أكل له"، وكذلك حديث "إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقه" وهذا وإن صحح بعض الناس سنده، فالحس يشهد بوضعه.
ومنها سماجة الحديث، وكونه مما يسخر منه كحديث "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ، ما أكله جائع إلا أشبعه" فهذا من السمج البارد الذي يصان عنه كلام العقلاء فضلاً عن كلام سيد الأنبياء.
ومنها الأحاديث المناقضة لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينة.. مثل أحاديث من اسمه محمد أو أحمد ، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار.
ومنها أن يُدَّعى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم ، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه، كما تزعم بعض الطوائف، أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال "هذا وصيِّ وأخي، والخليفة من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا "، ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته فلعنة الله على الكاذبين.
ومنها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كحديث "المجرة التي في السماء من عَرق الأفعى التي تحت العرش" وحديث إذا غضب الله تعالى أنزل الوحي بالفارسية ، وإذا رضى أنزله بالعربية" وحديث "ياحميراء لا تغتسلي بالماء المشمس، فإنه يورث البرص"، وكل حديث فيه "ياحميراء" أو ذكر "الحميراء" فهذا كذب مختلق.
ومنها أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله. مثل حديث "ثلاثة تزيد في البصر : النظر إلى الخضرة، والماء، والوجه الحسن" ومثل حديث "إن الله طَهَّرَ قوما من الذنوب بالصلعة في رؤوسهم ، وإن علياً لأولهم"
ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله "إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت"
ومنها أن يكون الحديث يوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق، مثل حديث "الهريسة تشد الظهر" وكحديث "أكل السمك يوهن الجسد" وحديث "أتاني جبريل بهريسة من الجنة فأكلتها فأعطيت قوة أربعين رجلاً في الجماع"
ومنها أحاديث العقل ، كله كذب، كقوله :"لما خلق الله العقل قال له: أقْبِل فأقبل ، ثم قال له أَدْبِر فأدبر، فقال ما خلقت خلقاً أكرم علي منك ، بك آخذ وبك أعطي
ومنها الأحاديث التي يُذْكر فيها الخضر وحياته ، كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد.
ومنها أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه مثل "خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن" ومثل الحديث "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مُسَوِّد كتبه بهذه الهذيانات.
ومنها مخالفة الحديث صريح القرآن كحديث مقدار الدنيا "وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة" وهذا من أبين الكذب.
ومنها أحاديث صلوات الأيام والليالي كصلاة يوم الأحد وليلة الأحد ويوم الاثنين وليلة الاثنين، إلى آخر الأسبوع …كل أحاديثها كذب. وكذلك أحاديث صلاة الغائب ليلة أول جمعة في رجب .. كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها، بحيث يمجها السمع، ويدفعها الطبع، ويسمج لمعناها الفطن. كحديث: "أربع لا تشبع من أربع: أنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر، وأذن من خبر"
ومن ذلك حديث "من فارق الدنيا وهو سكران، دخل القبر سكران، وبعث من قبره وهو سكران، وأمر به إلى النار وهو سكران، إلى جبل يقال له السكران" وحديث "إن لله ملكاً من حجارة، يقال له عمارة ينزل على حمار من حجارة كل يوم، فَيُسَّعِرُ الأسعار ثم يعرج"
ومنها أحاديث ذَمِّ الحبشة و السودان،كلها كذب.
ومنها أحاديث ذَمِّ الترك ،وأحاديث ذَمِّ الخصيان، و أحاديث ذَمِّ المماليك..كلها كذب.
ومنها أحاديث المناقب للأشخاص أو البلدان وكلها كذب،مثل أحاديث المناقب لأبى بكر وعمر وعلى ولا يصح في هذا الأمر إلا ما صح في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش. كما لا يصح أيضاً كل ما ورد في ذم الصحابة رضوان الله عليهم.
و منها أحاديث ذم الصناعات المباحة مثل الحاكة والأساكفة والصواغين .. كل ما ورد فيها من أحاديث كذب.
ومنها ذكر فضائل السور وثواب من قرأ سورة كذا فله أجر كذا، من أول القرآن إلى آخره، كما ذكر ذلك الثعلبي والواحدي في أول كل سورة، والزمخشري في آخرها، قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعوها.
ويستطرد ابن القيم الجوزية في ذكر أحاديث عجيبة مثل "حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً للفقراء، ورقص حتى شق قميصه" ويقول : لعن الله واضعه ما أجرأه على الكذب السمج. ومثل حديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" ويقول وهو من وضع المشركين عباد الأوثان.
ثم يورد ابن القيم الجوزية جملة من الأحاديث تتعلق بالمهدي المنتظر، ولأن عشرات قد ظهروا من قبل وكلهم ادعى أنه المهدي المنتظر، وسبك له الكذابون أحاديث تؤيد زعمهم، كما أن هناك أحاديث تتعلق بأن المهدي المنتظر هو عيسى عليه السلام، كل ذلك وضعنا أمام كَمٍّ من الأحاديث ذكرها ابن القيم الجوزية وقال: هذه الأحاديث أربعة أقسام: صحاح ، وحسان، وغرائب، وموضوعة.
http://albab.maktoobblog.com/%D8%A7%D8%A...%8A%D8%AB/