نضال معلوف هو مؤسس ومدير تحرير "سيريانيوز" الصحيفة الإلكترونية الأكثر انتشاراً وقراءة في سوريا، والتي تصدر في الداخل السوري؛ ولقد التقيت به مرة بعيد عودتي من فرنسا لعمل معه لم يكتمل. وأحسست وقتها بذاك اللقاء بحسرة وحس سخرية من الوضع السوري الإعلامي.
نضال معلوف ينشر حالياً في صحيفته سلسلة مقالات تسرد علاقته بالنظام الأمني السوري ووصايته (أي الأخير) على الإعلام وطريقة تعامله مع الثورة السورية تحت عنوان (ثورتي على جمال الطويل).
سأنقلها ههنا تباعاً (حتى الآن نشر أربعة أجزاء).
الجدير بالذكر أن نضال معلوف غادر سوريا لأسباب سيذكرها لاحقاً في مقالاته.
ونبدأ بالجزء الأول:
ثورتي على جمال الطويل* ؟!...(الجزء الاول)...بقلم: نضال معلوف
غرفة صغيرة غير لائقة ، شخص عنجهي أمني ليس لديه اي دراية في اختصاصنا استطاع جمع أهم الشخصيات التي تعمل في الاعلام في نصف ساعة ، وبدأ الاجتماع ، في الحقيقة بدأت المحاضرة والقاء التوجيهات (ربما التهديدات) كيف نواجه "الثورة".
بعد اكثر من عام ونصف من بدء الاحداث في سوريا ، اصبح لدينا الكثير من التفاصيل ومتابعة التفاصيل عبر القنوات الفضائية ووسائل الاعلام ، ونتفاعل مع الكثير من الوقائع والتي غالباً يأخذ (التفاعل) شكلاً عاطفيا ينتج عنه ردات فعل تبدأ وتنتهي في حينه لتصبح حياتنا مثل موجة تائهة وسط بحر هائج تتلاعب فيها الرياح.
حتى لا نتوه وسط بحر التفاصيل هذه ، ونكون تارة مع الثورة وتارة ضد الثورة تارة نلوم الشبيحة وتارة نلوم الجيش الحر وأفعاله ونجد انفسنا محتارين تائهين لا نستطيع ان نحدد موقفاً ولا نعرف اين هو الصواب ونسير باتجاهه ، يجب علينا ان نتوقف قليلا ونفكر في المشهد الكلي .. في الرواية من أولها الى الفصل الذي نعيشه اليوم ولا زلنا لا نعرف ترتيبه في قصتنا والى اين سينتهي ..
وحتى لا يكون الكلام تنظيراً ، سأتكلم في هذا المقال من واقع تجربتي الشخصية كصحفي يعرفني جمهور من السوريين ورئيس تحرير لموقع من اول المواقع الاخبارية المحترفة التي أنشئت في سوريا.
مثلي مثل اي انسان في اي موقع ، تعاملت مع الخطوط الحمراء التي ولدنا في كنفها ونعرف ( جيلنا ) كيف نتجنب الوقوع في حبائلها التي تشبه الاخطبوط ، ولدنا وكبرنا وفهمنا وتعاملنا على اساس هذا الواقع.
وعندما يعمل الانسان في الصحافة في سوريا (ما قبل الثورة) ، يزداد اقتراب هذه الخطوط منه وتزداد تشابكاتها ويجب ان يكون حذراً في كل نفس يتخذه حتى لا يصيب أحدها ويقع بما لا يحمد عقباه.
بالنسبة للمواقع الالكترونية العاملة في سوريا ، جميع المواقع كانت تعمل بإشراف أمني مثلها مثل كل وسائل الاعلام.
عندما اسسست الموقع لم اكن اعلم ذلك ، وبقيت اعمل "حرا ً" بناءا على معرفتي بواقع الخطوط الحمراء الذاتي لمدة عام تقريبا قبل ان تبدأ التدخلات لاكتشف ان الامن في سوريا كان يسأل طوال تلك الفترة "هاد تبع مين" ؟!
لم يكن مألوفا ان يؤسس احد وسيلة اعلامية غير مرتبطة بتيار سياسي او حزب او جهة او دولة او فرع امن .. ولكني كنت كذلك .. غير مرتبط بأحد .
ولن اطيل في تفاصيل كيف تغيرت الامور ولكنها في النهاية وبعد قصص تصلح لكي تصبح مسلسلاً تلفزيونياً ، بات موقع سيريانيوز ينشر كما يريد ولكن توجد جهة وصائية عليه ( مثله مثل اي كيان مؤثر في سوريا لايمكن ان يكون حرا يعمل بمفرده ).
وانتهت الامور على ان تتدخل هذه الجهة في القضايا الكبرى فقط مع مراعاة الخطوط الحمراء المعروفة والتي تجذرت فينا ولم يكن لدينا القدرة على تجاوزها اساسا.
وللامانة سار العمل بشكل معقول ( نسبة للمفاهيم والبيئة التي عشناها اكثر من 40 عاما ) فالتدخلات في الموقع كانت قليلة ، ولا اعتقد بان هذا كان تفهماً أو منّة من الجهة الوصائية اكثر منه ضبطاً من ادارة التحرير ومعرفتها بما يجوز ولا يجوز.
وخلال هذه السنين كان كلما اقترب الموقع اكثر من الخطوط الحمراء ازدادت الضغوط وقل الاحترام ( على المستوى الشخصي ) وارتفعت نبرة اللهجة التي تكون في الاوضاع العادية معقولة ومحترمة .. ولكن ما ان يتم لمس ايا من الخطوط الحمراء المتشابكة واحيانا غير المرئية فان الموضوع يختلف كلياً.
اليوم بعد ان أمنت لنا التضحيات التي قدمها السوريون رؤية مختلفة لم نكن نعرفها وهامشاً اوسع لم نكن نتصور بان نمتلكه، يمكنني التأكيد بان الاحترام الذي كنت اعتقد باني احظى به والكرامة التي كنت احتفظ بها شبيهة الى حد كبير بما يمتلكه سجين (عاقل) يتقيد بالانظمة وقوانين السجن وبالتالي ينال احترام وتعاطف سجانيه.
لماذا اقول هذا الكلام ، لانه في اللحظة التي كنت اقترب فيها من الخطوط الحمراء إن كانت" التابوهيات" المعروفة ، او من مصالح بعض الشخصيات من ذوي الحصانة ، فان كل شيء كان يتغير.
والاصدقاء من كبار المسؤولين في كل المستويات الذين كانت العلاقة معهم ( علاقة لازمة بفعل الوصاية ) تبنى على الاحترام وحفظ الكرامة والصداقة احيانا ، ينقلبون وينزعون القناع الذي اعرفه ، لارى وجههم الحقيقي المخيف ، ببساطة لاخاف واعود الى بيت الطاعة.
شخصياً تعرضت لعدة مواقف ، كان واحدا منها خطر للغاية وربما لولا تدخل بعض العقلاء لكان أودى بي الى السجن لفترة غير معلومة والسبب اقترابنا من مصالح احدى الحيتان ( بشكل غير مباشر).
والحدثان الاخران هما احتجازي لفترتين في احدى الجهات الامنية لمدة تقارب الـ 20 يوما في كل فترة لاسباب اقل ما يقال فيها انها تافهة وغير مقبولة ، ويتحول من خلالها رئيس الجهة الذي كان يبدي لك الود والاحترام طوال الوقت، الى سجان بوجه قبيح ويشهر في وجهك عصا غليظة ليوجه لك رسالة انتبه .. غير مقبول .. وهي المرة الاخيرة قبل ان ننهيك؟
وتحت هاجس (النهاية) تعيش وتعيش معك كل الضغوط التي ترافق عملاً اعلامياً اشبه بالدخول الى عش الدبابير الكل يريد ان يلسعك ويسبب لك الاذى ليس لانك تسببت له بالسوء .. ولكن لانه ربما تتسبب له بهذا السوء.
تعايشنا مع هذا الواقع انا والكثير من الاعلاميين المحترفين الذين يعملون في مواقع مختلفة والذين كانوا يريدون الخير لبلدهم واهلهم ، ويتحملون ما اتحمله وربما اكثر.
كنا ننطلق من نظرية القبول بالواقع والدخول في دوائر صنع القرار ومحاولة الاصلاح من الداخل بغية اتخاذ خطوات الى الامام في كل المجالات بما فيها حرية التعبير والاعلام.
وبالفعل اصبحت كما غيري من الاعلاميين نقترب من دوائر القرار ونحاول التأثير فيها في مسارات ليس الوقت مناسبا اليوم لكشفها والتحدث في تفاصيلها ، على مبدأ الاصلاح من الداخل .. ولكن في كل مرة كنا نصاب بخيبة امل.
توصلت الى قناعة قبل بدء الثورة بوقت قليل بأننا في سوريا وان كانت القيادات تمتلك الارادة جدلا ، فانها لا تمتلك القدرة على التنفيذ ولا بأي نسبة يمكن ان يبني عليها الانسان الامل.
بدا لي الجهاز الذي يدير البلد هو عبارة عن جماعة من "المعاقين" او في احسن الاحوال مسلوبي الارادة والصلاحيات عديمي الكفاءة والامكانيات ( وهي القاعدة العامة مع وجود بعض الاستثناءات ) ..
في المحصلة تراجعت كل المؤشرات الاقتصادية السياسية ومؤشرات الحريات ، وما كنا نتكلم به في العام 2005 من حيث النتيجة اصبح من المحرمات في العام 2011.
حتى ان احد اسباب احتجازي في احدى المرات ( ومسؤولون كبار يشهدون على ذلك ) انه ورد في مقال كتبته ذكر للطريق الواصل الى القصر الجمهوري ( كطريق فيزيائي اعني الزفت ) ، فتم اعتبار هذا تطوالا على رئيس البلاد وحُجب الموقع وحجبت انا معه 20 يوما ، قد لا تعني الكثير ( خاصة بعد ما كل ما جرى ) ولكنها تعتبر مؤشراً هاماً على الذهنية التي وصلنا اليها في سوريا في ذاك الوقت ( 2008 ).
نقطة تحول
مع كل هذا كان مازال بامكاني تحمل كل ما يجري ، رغم اني فكرت اكثر من مرة بالهجرة خاصة في ايام الاحتجاز التي كانت حقيقة تشعرني بالاهانة والمرارة ليس لانه حدث يتعلق بي شخصياً ، ولكن لاني كنت اكتشف من واقع تجربة شخصية ليس فيها اي تنظير بأنه "لا أمل" في نظرية الاصلاح من الداخل التي كنا نعمل عليها طوال تلك السنين.
بدأت ثورة تونس ، ومن ثم مصر .. وكان بديهياً بالنسبة لي بان الثورة ستصل لا محالة الى سوريا ، بالنهاية هي ثورات للكرامة مهما قيل ومهما تم استخدام هذه الثورات ( وهذا طبيعي ) لتصفية الحسابات او لتحقيق مصالح خارجية .. هي في الاساس ثورات لاسترداد كرامة المواطن العربي المهانة ..
وعندما بدأت الثورة في ليبيا وبدأ القذافي بقتل المدنيين اسست اول صفحة على "الفيسبوك" بعنوان " لا لقتل المدنيين في ليبيا " ( لم اجرؤ ان اؤسس مثلها عندما انتقلت الاحداث الى سوريا مع الاسف ) ويعرفها الاف الاصدقاء ( موالون ومعارضون ) شاركوا فيها واستهجنوا القتل وأدانوه ولم يقبلوا بأي مبرر لاستمراره على يد نظام القذافي المجرم.
في تلك الفترة بدأت الحركة في دوائر القرار في سوريا ، ولكنها كانت حركة بطيئة ولا تتناسب مع خطورة الاحداث التي تتسارع في المنطقة .
كانت العقلية والرؤية في دوائر القرار العليا تشبه الى حد كبير الاحتياطات التي يمكن ان نتخذها في سوريا اذا سمعنا بتسونامي ضرب السواحل الغربية لليابان.
ايام اسابيع لم تتجاوز الشهر ، كان الحدث البارز ظهور صفحات الثورة السورية على الانترنت وبدء الدعوات لبدء التحرك من خلالها.
ازداد الاهتمام بما يجب فعله ولكن كل الجهود انصبت حينها على كيفية تعطيل الفعل وليس على تحقيق السبق ووضع الكارثة المتوقع حدوثها وراء ظهورنا ، لم يكن هناك اي اتجاه او عقل يفكر في ان نسبق الموجة وندعها ورائنا ، منذ البداية كانت الخطة مصارعة الامواج واستمرت كذلك.
وبدأت الاقتراحات والخطط .. كيف نمنع اندلاع الثورة في سوريا ؟
يتبع ..
* جمال الطويل : اسم مستعار لشخصية امنية كانت بالنسبة لي (القشة التي قصمت ظهر البعير ) والتي جعلتني اتخذ قراراً نهائياً في الهجرة خارج سوريا مع بدايات الثورة السورية ، سيتم توضيح دورها في الجزء القادم.
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=151991