من وحي رسالة الكترونية / المقال الرابع / معالجات غير سحرية للعنف الديني
السبت, 24 تشرين2/نوفمبر 2012 08:35 | | |
القس لوسيان جميل
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=61204:2012-11-24-14-35-14&catid=4:2009-05-11-20-54-04&Itemid=5
المقدمة :
قبل ان ابدأ بمعالجة موضوعنا، اود ان اتقدم لقرائي الأعزاء بملاحظة مهمة تقول: نظرا لاحتمال حصول التباس في بعض العبارات في هذا المقال، وفي غيره من المقالات المشابهة له، مثل عبارة عنف الأديان، او ما يماثلها من العبارات، ارجو من قرائي ان يستبدلوا ذهنيا " عبارة الأديان" بعبارة " اتباع الأديان "، او بغيرها من العبارات المشابهة لها، اينما اتت في جميع مقالاتي، لكي يأتي الكلام عن هذه الأمور دقيقا ومقبولا. اما سبب طلبي لهذا الاجراء الذهني فيأتي لكون الأديان، لا تحمل عنفا ولا يمكن اتهامها بذلك، وانما العنف يمكن ان يصدر من اتباع الأديان وليس من الأديان نفسها. اما اذا وجد تفاوت في الدعوة السلمية بين دين وآخر، فذاك ناتج عن ظروف التبشير نفسها، وعن مقتضيات تلك الظروف والتباساتها، وليس عن الدين ذاته.
وهكذا، وبعد هذا التنبيه البسيط، ارجو ان اوفق في القاء الضوء، في هذا المقال الرابع، على ماهية العنف والعنف الديني وعلى سبل معالجته، سواء كان هذا العنف عنفا دمويا او كان عنفا ناعما ودفينا يؤدي الى التمييز بين الناس اوالى كراهيتهم او الى احتقارهم من دون وجه حق، او ربما يؤدي الى ايجاد ذريعة لاستباحة الآخر المختلف واستلاب حقوقه او دفعه الى التنازل عن حقه للطبقات المستغِلة باسم تعليم ديني او باسم سلطة دينية غاشمة.
حقيقة العنف البشري وطبيعته:
قبل ان نتكلم عن ظاهرة العنف الديني والمذهبي، لابد ان نتكلم باختصار عن حقيقة وماهية عنف البشر، طالما نعرف ان اتباع الأديان ورجالها، بشر يحملون مزاج البشر ويتبعون القواعد الانسانية الأنثروبولوجية والحضارية والاجتماعية التي يتبعها البشر، حتى وان كانت لهم تربيتهم الدينية الخاصة بهم. وعليه نقول: بما ان العنف ظاهرة ملازمة لحياة الانسان، فان ذلك يعني ان العنف ظاهرة حياتية انسانية عامة، تخدم الانسان، كما يخدم العنف الحيوان، مع فارق وجود عقل منظم للعنف الانساني.
تاريخ العنف في الحياة:
بناء على تحليلنا ومشاهدتنا نرى ان العنف ابتدأ مع ابتداء الحياة الحيوانية، ثم اصطبغ بصبغة عقلانية، بعد ظهور الانسان على وجه الارض، في الفترة التي يسميها علماء الاجتماع بفترة القطف La cueillette او المشاع، حيث كان العنف يقتصر خاصة على الصراع من اجل الغذاء والجنس. غير ان العنف تحول بعد ذلك الى عنف طبقي بالدرجة الأولى، يدور بين العبيد والأحرار، ثم تحول الى عنف يدور بين الطبقة الاقطاعية وبين طبقة اليد العاملة الزراعية. وأخيرا تحول العنف الى عنف بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال، هذا اذا نظرنا الى المسألة نظرة شمولية سريعة. أما اليوم فان من يقود العنف في العالم هو الرأسمالية العالمية، وعلى رأسها الرأسمالية الأمريكية التي اصبحت المصدر الأساسي لكل حادث عنيف يقع في العالم. اما ظاهرة صراع الطبقات المنوه عنه اعلاه فقد اكتسبت، منذ التسعينيات من القرن الماضي، مع ظهور العولمة، صيغة جديدة، هي صيغة صراع الأمم، هذه الصيغة التي ابتدأت بعد الحرب العالمية الثانية، على شكل صراع بارد بين معسكرين هما: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي.
اسباب العنف عند الانسان:
ويقينا اننا هنا لن نتكلم عن الأسباب المباشرة للعنف، لأن الأسباب المباشرة للعنف البشري لا تعد ولا تحصى، كما أننا في هذه الفقرة لن نتكلم عن العنف السليم او المقبول، لأنه لا يدخل في موضوعنا هذا، لكننا سوف نتكلم عن العنف الرديء وغير المشروع الذي نشكو ويشكو العالم منه معنا، مع ان مصدره ومنبعه هو عين المصدر وعين المنبع الذي ينتج العنف الجيد والسليم، والذي هو غريزة التملك Appropriation المعروفة في علم الاجتماع، والتي يمكن ان نجد آثارها ايضا في البيولوجيا ( علم الحياة )، لأن الحياة عبارة عن علاقة تملك شمولية.
وبما اننا كنا بصدد العنف السيئ نقول انه عنف يمارسه انسان معين بغاية الاستحواذ على حاجات ليس من حقه ان يتملكها. اما اذا طلبنا المزيد من التوضيح فنقول بأن هذا العنف يرتدي صيغا عديدة، مثل صيغة الاغتصاب والغزو والاحتلال وصيغة السلب والسرقة والاستحواذ على ملكية الغير عن طريق العدوان، وغير ذلك من الصيغ. فالإنسان بطبعه أناني وطماع ويريد دائما المزيد من الحاجات، ولا يتورع منن استخدام القوة والعنف ضد كل من يحاول ان يحرمه من انانيته وطمعه ويضعه في حدود الحق والعدل. أما اسباب العنف الذي نراه في مجال السياسة وفي مجال العلاقات بين الدول، فهي عين الأسباب التي تسبب العنف العام، مع فارق في نوعية الهدف المستحوذ عليه عن طريق العنف.اما الأيديولوجيات الفلسفية والدينية العنيفة فتقع ضمن قانون الجدل هي الأخرى وضمن قانون غريزة التملك، ولا تكون سببا حقيقيا للعنف، بل سببا محرضا ومشجعا حسب.
حقيقة العنف الديني:
اذا اردنا ان نعرف العنف الديني فنعرفه بأنه فعل بشري ناتج عن قوى Facultés بشرية انثروبولوجية شبيهة بالقوى التي ينتج عنها اي عنف آخر، طالما قلنا ان العنف هو وظيفة تخدم حيـاة الانسان. ففي الحقيقة ان القوى التي تخدم حياة الانسان كثيرة ومتعددة ومختلفة، ليس من حيث جوهر وظيفتها الانسانية، ولكن فقط من حيث نوعية الخدمة او الوظيفة الخاصة التي تقدمها كل واحدة من هذه القوى للإنسان الفرد ام للمجتمع. اما الدين، او بالأحرى الايمان الديني، كخدمة وكوظيفة، فيقدم للإنسان القدرة على ان يفهم بأن مستقبله الموعود سيكون افضل من حاضره ومن ماضيه طبعا، الأمر الذي يشعر الانسان بنوع من الانعتاق من الحياة القديمة والولوج الى دائرة الخلاص وما يعطيه للإنسان من شعور بالانتماء الآمن الذي يسوده الحق والعدل والكرامة التي يتمناها اي انسان في الحياة، فضلا عن حاجات أخرى تفصيلية لا نخوض فيها الآن، لأنها حاجات تخص دينا معينا دون غيره.
الصفة الجدلية لحاجات الانسان الدينية:
هنا لا يسعنا سوى ان نؤكد على حقيقة الصفة الجدلية لحاجات الانسان، بشكل عام، ولحاجاته الدينية بشكل خاص. فقبل الانقلاب الجدلي كان الانسان يعيش على حاجات معينة، ولكنه ما ان يستقبل البشرى ويؤمن بها حتى يشعر شعورا عارما بأنه مدعو الى مزيد من الحاجات، كما ونوعا، ولاسيما الحاجات الانسانية والروحية التي يحيا بها الانسان ويسعد. وهكذا نفهم ان الايمان والبشائر التي يحملها ليس امرا مضافا الى حدث الانقلاب الحضاري، ولكنه يقع في صلب هذا الانقلاب، يحاذيه ويوازيه، هذا اذا كان لا يقوده قيادة كاملة، او بالتعاون الوثيق مع عوامل قيادة الثورة الحضارية الأخرى، حيث يموت القديم تدريجيا ويحيا الجديد مكانه، ولاسيما فيما يخص الحق والعدل، الأمر الذي لا يتحقق من دون مجهود حقيقي وعنف يصاحبه، اي ان الأمر لا يتحقق من دون مساهمة الانسان في خلاصه مساهمة جدية ومخلصة وسخية ايضا، ربما حتى الاستشهاد احيانا.
دور الدين في العملية الانقلابية:
وهنا علينا ان نلاحظ بأن عاملين مهمين يشتركان في احداث الانقلاب الحضاري: العامل الأول هو ما يصيب بنى المجتمع التحتية من خراب نتيجة شيخوخة المجتمع، ولاسيما على مستوى الاقتصاد والعدل بين الناس، اما العامل الثاني فيكمن في مساهمة الدين، كبنية عليا، في تعجيل التغيير والقضاء على الركائز الأيديولوجية للمجتمع القديم، وهو ما تقوم به الاتجاهات الدينية الجديدة، التي تشمل رجال الدين المجددين وبعض الفلاسفة والحكماء والأدباء والشعراء، الأمر الذي يؤدي الى الصدام الأول والكبير في المجتمع، بين المجددين وبين الرافضين للتجديد من اصحاب المصلحة في محاربة التغيير.علما بأن الصدام المذكور قد ينشأ بين دين ودين، او بين دين وعلمانية تتحول الى نوع من الدين ايضا، وبين دين ومذهب، وبين مذهب وآخر.
لماذا يحدث الصدام:
فما يحدث في الحقيقة، في قلب العملية الانقلابية، هو ان كل طرف من اطراف الصراع، يكون قد تمسك بقوة بحالته: بالحالة القديمة، بالنسبة للمقاومين للتغيير، وبالحالة الجديدة الراهنة او الموعودة بالنسبة للمجددين، من خلال عملية انثروبولوجية تسمى التوحد Identification هذه الكلمة التي تعني ان كل جماعة ترى " ذاتها " في الحالة التي ترتاح اليها، كما ترى في حرمانها من الحالة التي ترتاح اليها نوعا من الضياع او الاستلاب الذي لا يمكن قبوله. وهكذا، ونظرا لظاهرة التوحد هذه يبذل كل طرف ما بوسعه للانتصار في المعركة التي تدور بينهما بقيادة أيديولوجيتين: أيديولوجية المجددين وأيديولوجية المقاومين للتجديد. وهنا نفهم طبعا دور الدين وعنفه في هذه المعركة التي غالبا ما يتحمل فيها المجدد كل الوان العنف والاضطهاد من اجل ذاته التي يراها في المجتمع الجديد، دون ان ننكر وجود حالات يضطر المجددون فيها الى استعمال العنف مع خصومهم، من اجل السيطرة على مواقعهم التي يدافعون عنها غالبا بضراوة.
العنف الديني في زماننا:
بحسب تحليلنا نرى انه لا يختلف العنف الديني في زماننا، من حيث اسبابه العميقة والرئيسية، عنه في الأزمنة التي تكلمنا عنها في الفقرات السابقة. غير اننا عندما نتكلم عن العنف الديني في زماننا فإنما نقصد امورا كثيرة، لكننا الآن نقصد الزمان الذي انتهت فيه جميع الأمم الدينية ( الثيوقراطية ) في العالم وتحولت الى امم ديمقراطية لا تحكمها الشريعة الدينية ولا يهيمن عليها اللاهوت الخاص بكل دين. ففي زماننا، وعلى الرغم من انتهاء الدين كوظيفة لأمة، او حتى كوظيفة اجتماعية، نرى ونسمع بأحقاد دينية بين الشعوب وكراهية ومقاطعة وحذر بين المذاهب، هذا اذا لم يصل الأمر احيانا الى المناوشات الدموية الساخنة. وقد يكون واضحا لجميعنا ان السبب هنا لا يمكن ان يكون الجدل الذي يقسم الناس الى مجددين ومقاومين للتجديد، لأن العنف الجدلي له علامات أخرى ليست موجودة في ايامنا.
وبما ان الأمر هكذا، فاننا نعود مرة أخرى الى جذور اسباب العنف لنجد فيها السبب الحقيقي، هذه الجذور التي سميناها غريزة التملك، والتي منها تتفرع غرائز اخرى كثيرة غير سليمة، عندما يكون اي تملك تملكا غير مشروع، يقوم بتحريف الدين، او المذهب، عن خدمتهما الجدلية( الديالكتيكية ) الحقيقية ليوظف توظيفا تعسفيا لخدمة مصالح انانية قد يرافق السعي اليها كثير من رغبة ابعاد الآخر وممارسة التمييز عليه والحط من قدره وشيطنته وابتزازه وسلب ما يملك. اما ما يحدث في هذه الحالة فهو لجوء الجميع الى استمداد القوة من دينهم او من مذهبهم، من اجل التعامل مع خصمه. طبعا نحن لا ندهش اذا وصلت الحالة بالناس الى ان يطلبوا العون حتى من الشيطان، كما يقال من اجل الحصول على النصر.
اما ما يبقى من بعد زوال الأمة الدينية فيسمى في بعض الفلسفات بالرواسب، لكنه بالحقيقة ليس غير تخلف البنى العليا عن اللحاق بـالبنى التحتية بعد ان تتغير. ولذلك فان اية عودة الى الدين او الى المذهب، ولاسيما اذا كانت هذه العودة عودة الى القديم بحرفيته، تكون متناقضة مع رسالة الدين الأصيلة، وتكون مجرد توظيف للدين او للمذهب توظيفا اعتباطيا تعسفيا، مضادا لطبيعة الدين وغاياته الأساسية، مما يوصل العنف الى اوجه احيانا كثيرة، كما يحدث عندنا في العراق وفي كثير من الدول العربية، علما بان المؤسسات الدينية في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية لها عنفها الخاص بها، والذي هو اسوأ احيانا من العنف الدموي، لأن هذه المؤسسات تضع سلطتها الدينية ولاهوتها بفرعيه النظري والأدبي في خدمة استمرارية هيمنة اقوياء العالم على الطبقات الاجتماعية السياسية وعلى الدول الضعيفة. انها تمارس هنا ما سماه كارل ماركس بأفيون الشعوب، وهو نوع خبيث من العنف، حتى اذا لم يعد بإمكان المؤسسات الدينية ان تحرق وتعدم من يخالفها في رأيها اللاهوتي.
علاج العنف ممكن لكنه ليس سحريا:
مما تقدم نعرف اذن ان علاج العنف الديني والمذهبي الذي ابتلينا به في ايامنا هذه بشكل غير اعتيادي، علاج ممكن، لكنه ليس علاجا سحريا. اما هذا العلاج فيكمن في إصلاح البيئة الاجتماعية ـ السياسية المسؤولة عن العنف في العالم، بشكل رئيسي. ففي الحقيقة نحن نؤمن بأن العالم ( البيئة الاجتماعية )، له القدرة على اصلاح نفسه بنفسه، بناء على تركيبة الانسان الذاتية، وذلك اذا توفرت ثلاثة عوامل اساسية مهمة وهي 1 - عامل الجهاد والنضال الانساني بالطرق المناسبة للتحرر من استعباد اقوياء العالم، حتى ييأس اقوياء العالم من الاستمرار في قتل الناس وفي القاء الاضطراب والبلبلة في العالم. 2 – العامل الانثروبولوجي الذي يقول: ان الانسان، مهما كان شريرا لا يتحمل ضميره الا قدرا معينا من القتل والتدمير الذي يحصل على يده. 3 – اسهامات المفكرين ورجال دين صادقين مع ايمانهم ومع ربهم ومصلحين في فضح تعسف ولا انسانية الوضع الذي تسببه الوحشية الرأسمالية المدافعة عن وجودها وهيمنتها. وهنا نود ان نذكر كل المتألمين من وحشية الامبريالية بأن الوصول الى السلام الحقيقي الذي يخدم الحق والعدل لا يأتي من دون نضال ومن دون تضحيات كثيرة، وان نهج الاستسلام والركض وراء الحلول السريعة لا يشجع ابدا على الوصول الى السلام ونبذ العنف.
الديمقراطية الدولية:
ويقينا ان الوصول الى نوع متدرج من الديمقراطية الدولية ممكن، كما وصلت الشعوب من قبل الى الديمقراطية الوطنية. فإذا كانت الديمقراطية التي ابتدأت بالثورة الفرنسية قد خففت كثيرا من العنف بين الطبقات في الأوطان التي تربت على تلك الديمقراطية فان اضطرار اللجوء الدولي الى الديمقراطية من خلال دستور عالمي ديمقراطي سيؤدي هو الآخر الى تخفيف العنف في العالم السياسي الأممي ويقلل من ردود فعل الناس الذين يستخدمون دينهم كرافعة تساعدهم على فرض ما يريدون بالعنف على خصومهم، كما يتوهمون ذلك على الأقل.
القس لوسيان جميل
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
Fr_luciendjamil@yahoo.com