أخيرا" إنتهى الجدل حول جنيف2،و صار المؤتمر أمراً واقعاَ، حتى لو أعُلن فشله أو إنتهى بدون أي نتيجة ، وهذا المرجح حدوثه في كل لحظة.

أعتقد أن جنيف2 يشبه إتفاق دايتون ( ميلوسفيتش) كمحطة اجبارية على طريق النهاية ، فالأسد لن يوقع إتفاقاً لينكُس به كما فعل شبيهه، لكنه سيخط خارطة الطريق إلى حتفه.

وفد الأسد والذي ربما هو الأضعف في جلسات التفاوض عبر التاريخ، فهو حقيقة لا يملك أي تفويض ، ولا صلاحيات ، أصلاَ هو يحضر خارج سياق الدعوة ، وهي الالتزام ببنود جنيف 1 وبالتالي تسليم الصلاحيات الكاملة إلى هيئة حكم انتقالية ، أمر تعمد وليد المعلم تجاهله في كلمته والتي لم يلتزم خلالها باللباقة الدبلوماسية في مثل هذه المؤتمرات ، سواء من جهة الإلتزام بالوقت المحدد للكلمات ، أومهاجمة الدول الحاضرة بالمؤتمر وخصوصا" ممثل إحدى الدولتين الراعية للمؤتمر .. مما إستدعى توجيه بان كي مون ملاحظة رسمية لتأكيد المرجعية ، وهنا كان لافتا" تصريح المعلم بصعوبة الموقف الذي وجد نفسه خلاله وذلك أثناء كلمته التي إمتدت على مدى 30 دقيقة وردت خلالها كلمة الإرهاب 30 مرة ؟؟!!

لا يمل أعضاء وفد الأسد بمناسبة وبدونها من تكرار أن زعيمهم والنظام خطوط حمراء ، وأن أحداً لن يناقش تسليم السلطة ، ثم محاولة تسويق بضاعة كاسدة (حكومة موسعة بمشاركة معارضة داخلية مُفصلة على مقاسهم) ( الحرب على الإرهاب) و (حماية الأقليات) مع ابتزاز رخيص ومفضوح للمجتمع الدولي عبر جلب رجل دين مسيحي إلى المؤتمر .

أفعال وكلمات وتصريحات أعضاء الوفد ، ساهمت في تظهير صورة النظام الحقيقية ، شخص وعائلة متمسكة بالسلطة حتى آخر سوري ، وفد مفلس ، لا يملك في جعبته إلا التشبيح العلني في الهجوم على الدول والأشخاص، ومحاولة عبثية لتقزيم المعارضة التي بمجرد الجلوس معها يعني الإعتراف الضمني بها، وأن (زمن أول تحول).

فالفلسفة التي تتبناها الخارجية السورية منذ إستولى حافظ الأسد على الحكم، وإبتلع الدولة والمؤسسات ، تقوم على الباطنية السياسية، المستقاة من ثقافة باطنية يتحدّر منها الأسد وأعمدة حكمه، فكان من الطبيعي بل والمبهر لنظر السياسيين السوريين من أتباع الأسد ، نجاحه في المخادعة والمماطلة وعدم الوفاء بالعهود الدولية وكسب الوقت والتهرّب من الإلتزامات وإبتزاز دول الخليج العربي بذريعة كون سوريا دولة من دول المواجهة مع إسرائيل ، وكانت بضاعته التي يسوّقها ويتاجر بها تنقسم إلى قسمين سوريا وكيف يمكن استثمارها بالنسبة لأي محور أو دولة أو سلّة مصالح دولية ، هذا من جهة ومن جهة أخرى إستعداد ودور النظام في تنفيذ أي مشروع يطلب منه مهما كان إتجاهه ، في قاعدة ثابتة لم يتخلّ عنها يوما كانت ولم تزل الإستقرار من أجل الإستمرار.
فنشأت نسختان عن سوريا التي يعرفها العالم، نسخة في الإعلام والصحافة والمؤتمرات ، ونسخة في الواقع بعيدة كل البعد عن الأولى ، ولم تكن المؤتمرات والإتفاقيات والظهورات الإعلامية إلا غطاء أحيانا كان نظام الأسد يتخلى عنه فهو ليس ضروريا دائما" بالنسبة إليه.

واليوم يتحاور وفدا الائتلاف السوري الممثل للثورة السورية ، والنظام السوري الذي قتل الشعب السوري ، لتطبيق بيان جنيف 1، الذي ينص على تشكيل هيئة حكم إنتقالية تحل محل النظام القائم ، ويذهب الوفد المعارض مسلّحا" بالرأي العام العالمي الذي يدين الأسد ، ويلحّ على أنه لا مستقبل له في المنطقة ، بينما يأتي وفد الأسد إلى جنيف 2، بأسلحة أخرى ، تقوم على الفلسفة الدبلوماسية الباطنية التي إشتهر بها نظامه ، تجعل السياسي لا يهتم بأية قيمة أو سلسلة أخلاق أو شعارات يرفعها أو شعب يقتله أو مدن يقصفها أو أسلحة دمار شامل يستعملها ، ويسكت العالم له، ويسمح له بالاستمرار ، والسرّ في هذا أنهم يصدّقون أن العالم يبحث عن بديل عن الشيطان الذي يعرفه “نظام الأسد” والذي هو خيرٌ من الشيطان الذي لا يعرفه والذي يمكن أن يحلّ محلّه.

ولكن يبدو أن السوق السياسية لم تعد ترغب بتجارة الأسد ، بل يبدو أنها ضاقت ذرعاً به وبها ، وحين يصف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري (بشار بالمغناطيس الذي يجذب الإرهابيين في المنطقة)، ويضيف أن (لا سلام ولا استقرار ولا إنقاذ لسوريا من التقسيم ما دام في السلطة)، عندئذ يمكن تلمُس شكل الحل النهائي الذي ستغيب عنه صورة الأسد ، خاصة أن لغة التصعيد الأمريكية تزامنت مع ما نقله رئيس الإئتلاف أحمد الجربا عن لافروف حول عدم تمسك روسيا بالأسد ، وبكل الأحوال مضمون التصريح ليس جديداً لكن أهميته في توقيته ومكانه.

لقد جرد كيري وفد النظام من كل أوراقه دفعة واحدة، تعهد بحماية الأقليات بعد سقوط الأسد، وتحدث صراحة عن قوات حفظ سلام دولية وإستعداد دول كثيرة لإرسالها وهذه أمور تشير إلى قرارات ستصدر عن مجلس الأمن ، وبتوافق أمريكي روسي بدأ ينضج أو نضج ، لأن الإدارة الأمريكية طلبت فعلاً من الكونغرس رصد ميزانية لتلك القوات بحسب ما سربته صحيفة الحياة منذ أيام.

الأسد وحلفاؤه في ورطة، توقعوا أن تمتنع المعارضة عن الحضور، لتتحمل مسؤولية إفشال المؤتمر ، ما تمنوه لم يحدث ، على العكس إلتزم الإئتلاف بالدعوة ، ونزع عن الموقف الإيراني ورقة التوت ، الأمر الذي اضطرت طهران معه إلى رفض جنيف1 علنا ومسبقا" ، متجاهلة" عن غير قصد تقيتها السياسية لما تم الكشف من قبل بان كي مون عن تعهد وزير خارجيتها جواد ظريف شفهياً بفهم دولته لمتطلبات جنيف2، ومرجعية جنيف1 قبل أن يلحسها البيان الرسمي عن الحضور بدون شروط مسبقة ، والعودة إلى نغمة الإنتخابات، وحصر توقيت خروج الأسد من السلطة بيد الشعب السوري ودون تدخل خارجي وفقاً لتصرحات ظريف .

لن تستطيع إيران تقديم أكثر مما قدمته حتى الآن، بدأت تدرك خسارتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في الرمال السورية المتحركة، وإصرارها على بقاء الأسد، سيدفع به إلى المحكمة الجنائية الدولية، أقصى ما تستطيع فعله هو إطالة عمر الفوضى في سوريا تماماً كما تفعل في العراق منذ سنوات ، لكن لن يُسمح لها إقليمياً بالتمادي في لعبتها هذة المرة، ربما تفاجىء بالفوضى في عقر دارها.

أداء المعارضة في جنيف2 جيد، خطابها مضبوط، عليها تقديم مشروع وطني للمستقبل ، يقنع الداخل والخارج ، والأهم أن تبقى مصرة على ثوابت الثورة السورية ، والواضح انها تدرك اللعبة ، فإذا إنسحب وفد الأسد ، أفشل آخر فرص الحل السياسي ، وإنفتح الطريق لتحرير قصر المهاجرين بطرق آخرى لا أحد يتمناها ، جنيف هي بوابة العبور ، لا توجد أوهام بأن الرحلة قصيرة .. المهم أن تبدأ.