اقتباس: الختيار كتب/كتبت
سؤالي هو : ألا تتفق معي أن إزالة الميتافيزيقا أمر شبه مستحيل و الأفضل هو إزاحتها ؟؟؟؟
عزيزي الختيار،
الفيزياء هو العلم الذي يهتم بدراسة الطبيعة، و قد كان في الماضي يشمل الكثير من الامور مثل الكيمياء و غيرها، يعني الظواهر الطبيعية المادية بشكل عام. و لكن الان تفرعت منه الكثير من العلوم المتخصصة.
المهم في الموضوع أن أرسطو قسّم الفلسفة الى عدة أقسام، منها فلسفة الجمال و فلسفة الأخلاق. و قد رأى أرسطو أن الفيزياء هي أحد هذه الفروع (فروع الفلسفة).
بعد الجزء المهتم بالفيزياء، أضاف أرسطو جزءا اضافية اسمه "الميتافيزيقيا"، أي "ما بعد الفيزياء". After Physics
. الميتافيزيقيا هي الفلسفة المهتمة بدراسة معاني و أبعاد المعرفة الفيزيائية. على سبيل المثال، المعرفة الفيزيائية تفيد بأن الكون نتج عن حادثة الانفجار العظيم. هذه هي حدود المعرفة الفيزيائية. المعرفة المابعد-فيزيائية، أي الميتافيزيقية، هي المجال المهتم بتحليل معاني و متضمنات هذه المعرفة. مثلا هناك القول بأن هذا يعني أن هناك سببا بدائيا أدى الى وجود الكون. يعني الفيزياء تسعى الى تفسير الظاهرة، و المابعد-الفيزياء تسعى الى تفسير معنى هذه الظاهرة و دلالاتها.
الغريب في الأمر أن الميتافيزيقيا تتعرض لعملية انزياح و انزلاق و "دفش" منذ حوالي 400 او 500 عام. دعني أفسّر قصدي:
المعرفة الفيزيائية في الماضي كانت مقتصرة على أن الأمطار تتساقط من السماء. هذه كانت حدود معرفتنا. ماذا كانت الدلالات الميتافيزيقية من وراء هذا؟ تعددت الدلالات و تنوعت، و لكن أحدها كان أن السماء كان فيها ثقوب و الإله الجالس فوق قبة السماء كان يفتح هذه الثقوب اذا صلى له الناس، رحمة بهم يعني. و قد روى شهود عيان أن يسوع المسيح "صعد" إلى السماء و جلس عن يمين الآب. لاحظ كلمة "صعد" هذه.
بعد أن عرفنا كيفية تكوّن المطر و "صعد" روّاد الفضاء الى هذه السماء و لم يجدوا أثرا لملكوت اللـه، ماذا حصل للدلالات الميتافيزيقية تلك؟ أزيحت و انزلقت و "سحْلت" كما يقال بالعامية. فبات الإله الجالس فوق القبة جالسا فوق الكون بأسره! يعني باتت القصة كلعبة الاستغماية، يضعون اللـه في مكان، و كلما ذهبنا الى هذا المكان، "يزيحنه" الى مكان آخر. لو فرضنا ان العلماء و رواد الفضاء بعد مليون سنة وصلوا الى آخر الكون و ما بعده، و لم يجدوا شيئا بل وجدوا ان الكون موجود مثلا في مجال آكبر، فإن المؤمنين في تلك الفترة سيقولون أن اللـه موجود "ما بعد" هذا المجال و فوقه. و هكذا.
طيب ما هي الان دلالات "صعود" المسيح الى السماء و ارتفاعه أمام عيون الشهود؟ قال أحد الكوميديين الامريكيين معلقا على قصة "الصعود" هذه أنه "لو قلنا أن المسيح صعد الى السماء قبل ألفي عام، و افترضنا ان السماء المقصودة هي ما وراء الكون، و افترضنا ان المسيح يتحرك بسرعة الضوء، يكون المسيح حتى الان لم يقطع عُشر المسافة المطلوبة. أظن أنه الان ما يزال في احد المجرات المجاورة لنا يقطع المسافات الهائلة. نتمنى ألا يكون قد أصابه الملل!"
لو أتينا الى موضوع آخر، تكوّن الحياة. آمن الناس فيما مضى أن اللـه خلق الكائنات الحية جاهزين مجهزين كما هم الان قبل بضعة آلاف من السنين. فجاء العلم الحديث و اكتشفنا أن تطور الكائنات الحية استغرق ملايين السنين. فماذا حصل للتفسير الميتافيزيقي؟ اضطر أصحابه الى "ازاحته" الى الخلف. فالان بدل أن يقولوا ان اللـه خلق آدم و حواء، يجادلون بأن اللـه خلق الخلية الاولى.
طيب ماذا لو فسرنا تكوين الخلية الاولى بميكانيكيات طبيعية بحتة؟ حينها ستُزاح النظرية الميتافيزيقية بضعة أميال أخرى الى الخلف مرة أخرى، و سيقولون حينها أن اللـه وضع المسبِّبات الاولى لتكونها. و تستمر لعبة الحزّر فزّر و الاستغماية.
بعض فلاسفة و مفكري اوروبا و اميركا في القرن الثامن عشر فطنوا الى هذه المشكلة، مشكلة الإله المنزلق الذي لا ينفك ينزاح من زاوية الى زاوية، فقرروا أن يأخذوا الموضوع من ذنبه (يعني هات من الآخر يا حبيبي) و جاءوا بما يُعرف فلسفيا بفرضية الإله الغائب (Deism). هذه الفرضية (و التي كنتُ من أتباعها في الماضي) تقول بأن اللـه لم يتدخل في أي شيء على الاطلاق سوى أنه خلق العالم و انزوى بمفرده لا يتدخل في مجرياته بعد.
ما هو الفرق بين الدين و بين الديزم Deism؟ الفرق يا عزيزي هو أن اللـه في الدين هو ساحر، بينما اللـه في الديزم هو ميكانيكي.
الدين يقول أن هناك إله، بين الفينة و الاخرى يأتي و يقول "دابرا كادابرا" أو "كن فيكون"، فيلعن فلان و يرزق علنتان، أو يخلق الانسان الفلاني او يميت الانسان العلنتاني، يستمع الى الصلوات و يرسل لنا الرسائل عن طريق فاعلي الخير الانبياء عليهم السلام. هذا الإله لم يعد "يخش الدماغ" في عصر التنوير في اوروبا، لذلك استبدلوه بالإله الميكانيكي.
ما هو الإله الميكانيكي؟ هو الإله الذي صنع الكون و تركه يعمل لوحده، فهو مثل الذي يصنع الآلة و يتركها تعمل لوحدها بدون تدخل منه.
ما هي ميزة الإله الميكانيكي على الإله الساحر؟ الميزة هي أنه بات من الممكن للانسان العقلاني في العصر الحديث الايمان باللـه بدون التعرض للخجل و المساءلة كلما وجد العلم تفسيرا لأحد وظائف هذا الإله مزيلا إياها من قائمة العجائب المبهرة التي لا تفسير لها. لهذا السبب تجد بعض العلماء يعتنقون هذه الفكرة، لأنهم يستسيغونها أكثر من ناحية علمية.
لكن فرضية الإله الساحر و فرضية الإله الميكانيكي كلاهما يؤديان الى نقطة ضعف منطقية
قاتلة لا يفطن إليها الكثيرون.
الكون كما نعرفه فيه الكثير من السيئات التي لا تُعد و لا تحصى، و هذا أمر لا يتجادل فيه اثنان. اذن فهو ليس كونا كاملا. فهل نقول يا ترى أن الإله الميكانيكي عاجز عن خلق كون كامل؟ و اذا كان الإله الميكانيكي قد خلق كونا ناقصا، فلماذا لا يتدخل لإصلاحه؟ لو فرضنا يا ختيار أن شخصا ما يتعرض للأذى و كان بإمكانك مساعدته، و لكنك آثرت ألا تساعده، أفلا يجعلك هذا انسانا أنانيا و جبانا؟
و لو فرضنا أن الإله الحقيقي هو الإله الساحر (أي إله الاديان)، فلماذا يحتاج هذا الإله للتدخل في مجريات الكون؟ لماذا يصلي له الناس ليحثوه على إصلاح الاشياء. طيب إذا كان إلها، فهل عجز عن خلق كون لا يحتاج الى أي إصلاح؟ لو فرضنا أني اشتريت سيارة، و احتجت ان آخذها الى صانعها مرة كل اسبوع ليتدخل في مجرياتها و يصلح اجزاءا مختلفة فيها، أفلا يدل هذا على سيارة سيئة الصنع و لا إتقان فيها؟ و اذا كانت مشيئة اللـه أن يحدث كذا و كذا، فهل نصلي ليغير اللـه مشيئته؟
اذن مشكلة الإله الذي يتدخل في أمور الكون هي أن هذا الإله خلق كونا ناقصا بحاجة الى تدخله لأعمال الصيانة بين الفينة و الاخرى، و لم يقدر على خلق كون كامل لا يحتاج الى صيانة.
يستعمل الكثيرون عذرا هزيلا أقبح من ذنب، مفاده أن كل هذه السيئات ضرورية لحرية الانسان. و لعمري يا ختيار أن هذا عذر لا يستحق الاجابة و لا التعليق، فسأقضي عمري عمرين و لن أفطن الى فهم هذا الرأي القائل بأن سحق رؤوس الاطفال في زلالزل باكستان و ايران و تشريد الملايين في العواصف هي كلها أمور ضرورية لحرية الانسان. و بئس الإله الذي لا يقدر أن يحفظ للانسان حريته من دون أن يسحقه سحقا بالجملة و المفرق!
بعد كل هذا، أجيب على سؤالك بأن إزاحة الميتافيزيقيا هو أمر أفضل نسبيا من إزالتها، و لكن هل سيصمد هذا الاسلوب أمام المعطيات العلمية؟ إلى متى؟ سننتظر و نرى.