تابعنا الاعترافات التي ادلى بها السيد عبد الحليم خدام البارحة عبر قناة العربية، والخبر بحد ذاته لم يكن مفاجئا بالنظر الى الانباء التي تسربت عبر بعض وسائل الاعلام متحدثة عن توتر وجفاء في العلاقات بين خدام والنظام السوري، والتي بلغت ذروتها في اعقاب المؤتمر القطري العاشر، وما تلاه من تهميش واضح لدور عبد الحليم خدام أحد أهم رموز النظام السوري في عصر اسرة الاسد !!..
كل هذا لم يكن جديدا .. ولكن الجديد بحق هو التوقيت .. فبعد تراجع وقع تقرير ميلس الثاني، وتدخل جامعة الدول العربية في خطوة فُسرت على انها دعم للموقف السوري، و تصلب الجبهة الشيعية ( حزب الله وحركة أمل ) على مواقفها في مواجهة الحكومة اللبنانية .. جاءت اعرافات خدام لتعيد خلط الاوراق من جديد ..
ورغم التحفظ الدبلوماسي الذي مارسه خدام عند الحديث عن الجاني الحقيقي الذي يقف وراء اغتيال الحريري، ومن ثم التريث الى حين انتهاء أعمال التحقيق الدولي، الا ان تلميحات خدام المستمرة الى التهديدات شديدة اللهجة التي وجهت الى الحريري من اعلى هرم النظام السوري، و استحالة ان ينفذ الجهاز الأمني أي فعل دون علم الهرم الحاكم السوري، كانت واضحة .. وهذا ما يرشح خدام لأن يكون الشاهد الحاسم في قضية التحقيق الدولي ..
كل هذا لن يكون مهما بالنسبة لمواطن سوري متعب مثلي يشعر بأنه مغترب في وطنه !! .. فسواء بُرئت سورية ام أدينت فالنتيجة واحدة: الشعب هو من سيدفع الثمن في الحالتين، ثمن اخطاء نظامه، وثمن فساد نظامه !! ..
ما استوقفني حقا في كلامه هو اسلوب الوعظ الاخلاقي الذي مارسه خدام وهو يتحدث عن الفساد المستشري في المؤسسة الحاكمة السورية، وكيف أن رستم غزالي ( حرامي !! ) صنع امجاد في ضيعته ! وبعلم بشار نفسه الذي لم يحرك ساكنا بل رد الفساد بالمكافأة ! .. فخدام و لأول مرة في حياته يفتح ملف الفساد في سورية، ويدلل على ذلك بشخص مثل رستم غزالي الذي قبض 35 مليون دولار من بنك المدينة، أو ذاك الموظف الذي بلغت ثروته 4 مليار دولار، أو المحاسب في شركة للطيران الذي يملك ثروة لا تقل عن 8 مليار دولار في الوقت الذي يزداد فيه الفقر، وهذا الأمر ظاهرة ملفتة وغير مسبوقة في تاريخ سوريا". على حد تعبير خدام ..
ابتسمت بمرارة وأنا اتابع هذا المشهد السريالي لخدام وهو يتحدث عن معاناة المواطن السوري الذي يزداد فقرا، وقد اختار أن يرثي لحالي المواطن السوري من فرنسا، وتحديدا من قصره الاسطوري الفاره الذي وهبه له رفيق الحريري، وأمامه تمثال فضي يكفي ثمنه لأن يعيل اسرة سورية كاملة ! .. وتذكرت هنا مشهدا شبيها للزعيم الثوري المحبوب ! رفعت الاسد ، وهو يتحدث بألم عن حبه لشعبه السوري الحبيب ! ويعرب عن استعداده للتضحية بكل ما يملك فداء لعيون شعبه ! ..
من المفيد بالفعل أن يتحدث احد اركان النظام السوري عن الفساد الذي يعرفه كل مواطن سوري جيدا، ولكن كنا نتمنى من السيد عبد الحليم خدام أن يحدثنا – في غمرة صحوة الضمير تلك – عن ملف فساد عبد الحليم خدام نفسه : مطاعم لانوازيت، ووكالة شوكولا باتشي، ومصفاة بانياس، وملف النفايات النووية، ومعلبات عافية التي اضحت بقدرة قادر القوت اليومي للجندي السوري في ثكناته، .... الخ .
من المهم أن يقدم خدام شهادته عن فساد رستم غزالي في لبنان، ولكن كنا نتمى لو أنه مرّ على ذكر دور عبد الحليم خدام نفسه في ملف الفساد في لبنان بوصفه الحاكم بأمره في لبنان والقابض على ملف لبنان السياسي واللاعب الاساسي فيه، والمحرك للبلطجي السوري في لبنان : غازي كنعان، ورسم غزالي .
وطبعا لن يكتمل المشهد الا بجوقة المطبلين والمزمرين لنظام البعث المفدى، فهم سيردون الصاع صاعين وزيادة بفتح ملفات خدام المخفية، ويفضحون على الملأ فساده على مدى 40 سنة !! لنكتشف فجأة أن عبد الحليم خدام حرامي فاسد وعدو الشعب !! .. والسؤال الذي لا بد أن يسأله أي مواطن سوري متعب :
أين كان هؤلاء المطبلون المزمرون طوال 40 سنة ؟؟؟ ألم يكتشفوا فساد عبد الحليم خدام وسلسة سرقاته الا الان فقط !!!؟؟ ..
أين كانت ملفات عبد الحليم خدام عندما كان محافظا ووزيرا ورئيس وزراء ونائب الرئيس والحاكم بأمره في لبنان ؟ .. أم أن ملفات الفساد تظهر وتختفي حسب الحاجة وفي اطار تصفية الحسابات السياسية ؟ ( كحال النائب مأمون الحمصي الذي لم يكتشف القائمون على أمر البلاد والعباد أنه تاجر مخدرات ومبييض للعملة الا بعد أن قبع في السجن السياسي ! ) ..
كم كنت سأحترم عبد الحليم خدام لو أنه فضح ملف الفساد وهو على رأس عمله السياسي في سورية ، وليس من قصر الحريري في فرنسا، بعد أن خسر امتيازاته ومركزه ، واصبح مركونا على الرف ..
وكم كنت سأحترم هؤلاء الذي ينشرون الآن غسيل خدام الوسخ لو أنهم قاموا بعشر ذلك فقط اثناء توليه منصبه السياسي ..
وكم كنت ساشعر بالزهو لو اننا استطعنا أن ندين المسؤول السياسي الفاسد وهو على رأسه منصبه، لا بعد أن يذهب وراء الشمس ..
أما قبل ذلك كله .. فلا أملك سوى أن اقول لهؤلاء :
ما بالك تنظز القذى في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينك ؟ .. يا مرائي !! اخرج الخشبة من عينك أولا ..
مع التحية ..
شهاب الدمشقي.