6. لا يوجد لدي ما يكفي من الجرأة للانفصال ...(3/3)

فتحت جفني مفزوعاً، قلت لنفسي هل يمكن أن تكون هي؟ الوقت ما زال مبكراً وهي صارت تعلم أني لا أستيقظ مبكراً.
بدأت أصحو أكثر فأكثر مع تصاعد الطرقات على الباب، وأخذت الساعة من جانب السرير ونظرت إليها فاطمأنيت "لا بد أنه شخص آخر"، لا سيما أن الطرقات قوية توحي بأن من "يصرعني" بها رجلٌّ.
فتحت الباب وملامح النعاس بادية على وجهي وبالكاد أفقه ما يدور حولي، وإذ بي أرى صديقاً سورياً كنت قد حدثته سابقاً عن قصتي، لا بد أنه يمر ليسأل عني بعد أسبوع من غياب أخباري.
بدأنا نتحادث وأنا ما زلت دائخاً، وهو يمزح معي قائلاً "لك قوم بعدك نايم لهلق".
بدأت بإعداد القهوة، وأنا أدعو عليه بقلبي وعلى الساعة التي تعرفت بها عليه وعلى الذي عرفني عليه.:)
بعد تنشطي وبعد فنجان القهوة الثاني وخمسة سجاير من السم "الهاري"، حدثته عن ما جرى لي، وعن قصة جديدة مع فتاة أخرى. فنصحني بأن أكون صريحاً معها بدل محاولاتي لتفاديها والانفصال التلميحي.
قلت له أرجوك ابقَ معي لحين مجيئها وسأكونن لك من الشاكرين، قبل رجائي، ثم بينما نحن نتحدث جاءت صديقة ثم صديق ثم صديقة أخرى وصارت "جمعة"، وكنت أفعل ما بطاقتي لإبقائهم بغرفتي ريثما تأتي صاحبتي.
في حدود الساعة الحادية عشر وصلت هي فاستقبلتها هذه المرة ببعض الحرارة. قدمت لي الهدية وسلمت على بقية الجمع مستغربة تواجدهم لدي ولا سيما "فتاتين" واحدة منهن كانت تبدو مقربة مني. رأيت بنظراتها طوال القعدة بعض الجفاء والبرودة وحاجبين مقطبين. حاولت أن تأخذني على جنب في المطبخ ولكني كنت أصدها، بينما هي تلح علي لأخبرها بالذي يحدث لي في هذه الأيام ولماذا أبدو بعيداً عنها، جاوبتها بكل "جبن" : "لا مافي شي أبداً، ربما أني متعب".
ونحن في المطبخ سألت الصديقة الجديدة عني فقال لها صديقٌ بأنه مع "صاحبته" في المطبخ، فتفادى صديقي السوري الأمر قائلاً بأنها ليست صاحبته بل مجرد صديقة. لم أكن قد حدثت الصديقة الجديدة عن القديمة.
في المطبخ حاولت صاحبتي أن تحضنني فأدرت رأسي وتحججت بكل الحجج لكي لا نقبل بعضنا البعض ولكي لا أحضنها، عندها فهمت الأمر جيداً، وتركتني ودمعة تكاد تبدو بزاوية عينها. حاولت أن أقول لها شيئاً ولكني كنت مشلولاً. لم أملك الشجاعة الكافية لأصارحها بكل شيء.
عادت للغرفة أخذت أغراضها وذهبت دونما رجعة.
التقيت بها بعد سنة وكانت بزيارة لمرسيليا مع صديقها الجديد، وكنت مع صاحبتي، وعندما شاهدتني من بعيد تعمدت أن تحضن صديقها وتقبله بكل "دلع" وهي تنظر إلي مبتسمة وضاحكة، تعرفنا على بعض وتبادلنا جملتي مجاملة ومضينا. وقلت لنفسي ببعض الحزن:
"من المحزن فعلاً أنه لم يكن لدي ما يكفي من الشجاعة لأنفصل عنها .. بسلام".

ابن سوريا · 01-20-2006, 02:34 AM

7.لا يوجد متسع في الكون لأجمل حبٍّ في حياتي ...(1/4)

هنالك حبٌّ يختصر كلَّ حبٍّ سواه، يشعرك بأنك أصلاً لم تعش الحب من قبل، ولكن اللحظة الراهنة تمر بسرعة بحيث لا تعي ما تعيشه، هكذا كنت أفكر بعد أقل من ساعة من استقلالها للباص الذي سيحملها ربما للأبد بعيداً عني.
في تلك اللحظات بعثت لها رسالة أخيرة أخبرها بلغة إنكليزية ركيكة، بأنها أجمل حبٍّ في حياتي، وبأنها المرأة تلك المرأة التي لم أحب ولن أحب بالتأكيد مثلها يوماً. كانت رائحتها ما تزال تكتنف كياني كله، وبقيت أياماً أشتمها في جسدي، وكنت مذهولاً بإصرار هذه الرائحة على التواجد معي رغم أخذي لأكثر من "حمام". يبدو أنها كانت تقطن أنفي. فبمجرد أن أشتم شيئاً بجسدي كانت تفوح تلك الرائحة وتفوح من جديد.
غادر باصها المكان وأنا أنظر مستوحشاً، كنت أتألم، لم أكن بعد قد وعيت تماماً أنها تغادرني، أبعدت نظراتي وأرخيتها وهربت مهرولاً عن المكان. قالت لي فيما بعد بأنها كانت تبحث عني ولم تعد تجدني. ولست أدري فعلاً، لست أدري لماذا هربت، كنت أحس بانهيار، وراودتني للحظات رغبة الصعود معها بالباص، ألا أتركها للحظة أن أرافقها ... لكنَّ الحياة لا تنبني بالأحلام الطيبة.

في آخر يوم وقبل أن تغادر المدينة الصغيرة التي كنا نقضي بها عطلة صيفية سوياً فإنها أهدتني قميصاً لها بعد أن تعرقت كامل اليوم، وما زلت لليوم أحتفظ به كذكرى وأشتمه رغم تبخر الرائحة. ذلك أنه يذكرني بتلك اللحظات الدافئة والمجنونة التي عشناها.

كانت هي أول شيء غاية في الجمال بحياتي، لم أتوقف عن إخبارها بأنها أول مرة "كذا"، وأول مرة "كذاك". لم تكن أول امرأة بحياتي فلقد مر قبلها الكثيرات، ولكنها بالطبع كانت أول امرأة أعيش معها علاقة بهذه الكثافة وهذا العنف وهذا الحنان وهذه الرغبة المرعبة أحياناً. كانت علاقاتي السابقة كلها باهتة الشكل أو باهتة المضمون، هذه كانت أول علاقة زخمة من الناحيتين.
قبل أن أبدأ كتابة هذه المدونة حاولت أن أستجمع ذاكرتي جيداً لأروي عليكم علاقةً من نوعٍ آخر، ربما لم يعشها أيٌّ منكم، وربما لن يعيشها أحد منكم أيضاً، وربما صادف وكانت تعني لأحدكم هذه القصة شيئاً ما.
أردت حين أقص هذه القصة والتي ستكون خاتمة مدونتي هذه، أن أفيها حقها، لأكون وفياً لزخمها كما عشته، ولفتنتها كما فتنته.
لذا قررت أن أكتبها على غير عادة بقية القصص بمقدمة مطولة، ثم أدون ثلاث حلقات تعبر عن لقاءاتنا الثلاث التي التقيناها.

صديقتي تلك سافرت، ذهبت بعيداً، وكانت كالطيف الذي ملأ حياتي روعة بلحظات قصيرة، ربما أني لم أعرف كيف أفيها حقها فألتحم بها بما يكفي.
وربما أنها قصة يمكن أن تُعاد(أقول لذات نفسي يجب أن تُعاد)، فتشبع نهمنا وتروي شغفي وتنهي أسفي، عن بعض ما فيها.
هي غادرت ولكنها لم تغادر مخيلتي وذائقتي وكياني، إنها - هذا ما أدعيه - مشرشة في جسدي وفكري وصوتي ورائحة الأنواء ولون السماء، هي باقية فيَّ تغمرني جمالاً وفرحةً وغبطةً وسعادة.
يُقال أن المفكر الكبير "جان جاك روسو" والذي كان غاية في الحساسية، كان يستجر لحظات سعادته القصيرة التي عاشها مع صديقة حميمة لتبدو بكل كتاباته اللاحقة لها. فها أنا ذا أستجر إذاً:)

تلك إذاً وما سيأتي ستكون حكاية: أجمل حبٍّ ملأ حياتي ولفني بالحنان والروعة والمتعة. فهل يوجد في الأرض متسعٌ لها؟

ابن سوريا · 02-13-2006, 03:40 AM

أخبروني بأنه بإمكاني ألا أتابع المدونة بشكل تسلسلي لذلك سأتابع مع قصة أخرى، ريثما أستطيع أن أتابع القصة "الفريدة" أعلاه.

لا يوجد عنفٌ يُحتمل، هنالك حنان دوماً لدى امرأة

كنت بذلك الكشك لبيع السندويش في مرسيليا منذ شهرين تقريباً، وكانت هي وزوجها يعملون ويديرون فندقاً محاذياً لمكان عملي.
كانت تأتي تقريباً كل ليلة لتشتري مني البيرة، وأحياناً يمر هو أيضاً ومع أصحابه أحياناً. كنت أشعر بالانقباض من هذ االرجل المربع المسدس والذي تبدو عليه ملامح جلف رغم وسامة نسبية.
زوجته كانت لطيفة جداً، وأحياناً شرسة، أعتقد بأنها طريقتها للدفاع عن نفسها عن إنسانيتها.
كثيراً ما كنت أراها تركض في الطريق أمامي دامعة العينين بعد الساعة العاشرة ليلاً وزوجها يمر بعدها بلحظات وهو يصيح. لا بد أنه كان عنيفاً حين يسكر.
كانت حين تجيء ليلاً تلقي علي بالسلام فأبتسم لها كما دوماً، فلقد كانت تعجبني، تعجبني ابتسامتها، يعجبني رونقها وطيبتها الخالصة.
لم أعد أذكر اسمها، ربما أني لم أعرف اسمها يوماً، لم أعد أذكر.
في أحد الليالي جاءت إلي لتشتري البيرة، كانت في عينيها دموع، لا بد أن زوجها كان عنيفاً معها هذا المساء وربما ككل مساء، نظرت إلي بحزن وحنان، فقابلتها الابتسامة وحاولت تدفئة الجو بكلام طري وسؤالها عن حالها، جهزت علب البيرة ومددت يدي لها، أخذت العلب ثم أخذت يدي ووضعتها على وجنتها. كانت لحظات قليلة لكني أذكرها كما أنها اليوم بالذات، بقيت وجنتها مائلة نحو يدي للحظات ثانيتين لا أكثر، ولكنها تقول كل شيء، لقد ارتخت وتركت نفسها بهاتين الثانيتين على يدي لتحس بقليلٍ من الحنان، أغمضت عينيها، لا لشيء فقط لتتلقى ثانيتين من الحنان، وتركت ليدي العنان، لم أعبأ بشيء، لم أسحبها ولم أباشرها بأي شيء، تركتها لتنتبه بعد الثانيتين لجرأة الفعل، أخافت، أعتقد أنها خافت بل بدا عليها الهلع، ربما من زوجها، تركت يدي والتي كنت أشعر أنها استلقت عليها كقطٍ وحشي بآخر نهاره.
ارتعدت وانتفضت وحملت علب البيرة وركضت نحو الفندق.
كنت أراها في الأيام التالية كالعادة، وكأن شيئاً لم يكن.
لكنني لن أنسى يوماً تلك الصورة : صورة وجهها المستلقي على يدي ومائل عليها للبحث عن شيء من الحنان.

ابن سوريا · 04-02-2007, 11:23 PM

النهاية 1

كان يوماً من أيام الربيع اللطيفة، ممتزجاً برائحة الذكريات ورطوبة باريسَ/النهر، كان يومَ عشقٍ من نوع آخر ممتلئ بالدفء كعذوبة العشق في باريس. ألحت عليّ الذكريات، فتذكرت أن العشقَ لا يطرده إلا عشقٌ جديد، كنت أطارد الكلمات عن الحب والعشق والرغبة والشهوة فتعاندني الصور وتضمحل شيئاً فشيئاً في مخيلتي، "كم أحببت؟"، سُئلتُ؛ أجبت : صفراً، ومضيت ألاحق أشعة الشمس الرقيقة وهي ترسم على نهر "السين" أمامي آلافاً من الأنوار الحافلة بالربيع، ثم اختفيت مع الحشد المتزاحم في ممرات المترو في هذا اليوم الأخير ...

في شتاء عام 2005 كنت أحاول إعادة حساباتي، أن أودع آلامي وجروحي، كنت أحاول أن أعيش شيئاً آخر، كنت أفكر في معنى الحب وطقوسه وغرائزه وعقلنته، كنت في مرحلة أسميتها فيما بعد "هذيان الحب العاقل"، رغم مافي التعبير من تناقضات ظاهرة بين العقل والهذيان، فإن الحب ربما هو صلة الوصل بينهما، إذ كيف يمكنك أن تصل لشيء لا تعرفه حقاً إن لم يكن مصحوباً بالهذيان، بالخطأ بل بالخطيئة وبجرعات السم والبله والدوران في حلقات لا تعرف إلى أين ترديك في أية لحظة، لا يمكن لمن يؤمن بالحب ولا يعرفه مثلي إلا أن يتصاحب بحثه عن الحب بالجنون، آملاً أن يُبعث من جديد قيساً لليلى أو راهباً في معبد الفضيلة المرتبة. لم أكن أعرف ما الذي سيحدث ولم أكن أحسب له حسباناً ... أو ربما فعلت ؟!!

(حدث ذلك في شتاء تلك السنة، اتصال هاتفي بصديقة قديمة، كان صوتها صوت حب يرسخ عميق علاقة كانت للآن عقلية قائمة على احترام كبير وحب فكري عظيم، كنت أقدسها نوعاً ما، في ذلك اليوم الشتائي اشتعل شيء ما فيَّ لم أعهده من قبل في حطب الوعي الداخلي، مرت الأيام وبقيت تلك ذكرى جميلة لذيذة، مجرد ذكرى عن شيء حركني وهز أعماقي هزاً، دون أمل كبير، لم يكن لدي أي سبب جدي للاعتقاد بإمكانية "حب" معها.)

كنت متربعاً على سريري، أشحذ الذكريات وأجترها متلحفاً بكنزتي الشتوية وبحرارة شهواتي ورغباتي، بعثرت الصور والهدايا أمامي، وبعثرت منها الكثير في ذاكرتي، كنت جالساً وفجأة أصريت على تحمل القرار الذي كنت أؤجله منذ فترة؛ "علي أن أقوم بجريمتي ببراعة العاشق الفنان، دون الكثير من الدماء"، أو علي أن أطلق النار على "ذاكرة النسيان" كما وصفتها يوماً في شعر كتبته وعنونته "أنتِ أخيراً"، تلك التي لم تأتِ، وربما لن تأتي أبداً ولن أصبح يوماً كثوريٍّ عاشق يعبد محبوبته، لذا علي أن أحرق الذاكرة والذكريات وكل ما يحفز عقلي على المراوحة في روائح اللذة اللعينة للحزن والألم والشهوات المتواضعة، "آه لكم أكره النفوس الوضيعة، حيث لا طيبة ولا خبث"، هكذا رددت باحتراف التحريف اللفظي عن "نيتشة"، وعرفت أنني الآن في حالة لا أحسد عليها، لكنني أؤمن بصحة كل كلمة، لا أريد أن أقضي حياتي دون أن أعيش شيئاً كبيراً عظيماً، حيث هناك خبثٌ وحب وطيبة، تعاودني هذه الأفكار الثورية التي رضعتها والتي تعني لي أهم شيء في حياتي: الراديكالية، اللاشيء أو كل شيء، هذه الذكريات كانت عائقاً أمامي، أمام حبي أمام ارتفاعي وصعودي للأبدية والخلود، للصعود والصعود نحو جنون قيس ورفعة الحلاج ونبل نيتشة، لأن كل ما عرفته للآن كان "بين بين"، قدم في الجنة وأخرى في النار، ولا فتاة تختار صدري وحبري وكلماتي، لا موتَ شهي، ولا حبٍّ يطفح لهفةً ولوعةً وعناداً وامتلاكاً .. لا حبَّ إذاً.

لملمت الصور، الهدايا، قمصان الفتيات المتعرقة، كحل العيون، عطوراً لم أعد أذكر لمن هي، الملابس الداخلية، صورة مشتركة أمام بحيرة، ماكياج لا أفهم ماهو بالضبط، وأشياءهن كلها، ووضعتها في كيس كبير أمامي. عاودت الذكريات اقتحام مخيلتي وعقلي، الصور اللعينة تتردد، والصور أمامي بقيت شاهداً على حياة مضت، الصور الباقية هي جزء مني، صورة في جبل،في كنيسة، في مقهى، بجانب مطعم أو في حضن الطبيعة، كلها متلازمة مع فتاة ما في مكان ما، ولكنها لحسن الحظ ليست في الإطار.
كيف بإمكاني أن أرتب الصور والذكريات في مخيلتي وحيايتي لكي أبقى أنا، ويختفين هنّ، ترددتُ، نظرتُ للكيس المتكوم أمامي بكل هذا التاريخ الذي مضى، قررت للحظة حرق كل شيء، كما نصحتني صديقة. علي أن أنسى الآلام والحب والأحزان لأمضي لشيء آخر أبهى وأجمل، لم تطاوعني يداي، أنا الذي يحتفظ بأشياء لا أهمية لها تعود لأكثر من عشرة سنوات، هل بإمكاني حرق كل هذا؟.

أجلت القرار عدة أيام، كان علي أن أفعل شيئاً، ولكن بدا لي هذه المرة أن راديكالية الفعل قد تكون مؤذية جداً بشكل لا يوصف، وضعت اليوم كأساً أمامي، وتكومت في السرير، ارتمى رأسي بين يدي وأغلقت آذاني لكي لا أسمع شيئاً أريد أن أختلي لذاتي قليلاً.

عدت للكيس الممتلئ أمامي، فرغته من محتوياته و"فلشت الصور/الهدايا/الذكريات" و"انفلشت" معها الصور في مخيلتي، لاحظت فوراً أن الصور كلها صارت تقريباً من صنعي أنا، لم يعد هناك شيء كثير حافظ على رونق بدايته، في مخيلتي كذلك، يكتنف الصور الغموض، صارت شيئاً يخصني وحدي ولا يخص الأخريات، وربما لم يعدن هنّ فيها أصلاً، حتى وجوههن وأجسادهن اختلطت بصور وأجساد أخرى، ربما فعل النسيان والزمن فيها ما فعل، ومخيلتي التي لا يبدو أن لها حدود قامت بمكياج عام للذاكرة، لتصحح من هنا، وتجمل من هناك، وتنزع الألم من خاصرة الوعي.
ولكنني شرقي، عقلي قد يكون نيتشياً، أفسر وأحلل وأفهم وأتفهم، لكن قلبي غاية في الشرقية، ومبادئي عالية مرتفعة رفيعة بسلاطة لسانها وتحكمها الأسطوري فيّ، أغار كأمير عربي، وأفكر كفيلسوف غربي، وتتحكم بي امرأة لمجرد أن أحبها، أجمع في ذاتي كل التناقضات، ومغمس بالمثاليات حتى أخمص قدمي، لا أحترف شيئاً بقدر احترافي لمفاهيم الوفاء والانتماء الكامل للحبيب، تشربت ذلك منذ طفولتي، ومهما تعمدت بأي أفكار ليبرالية ومتحررة، فلا يمكنني أن أحيد قيد أنملة عن مبادئ العقل المقدس، أجمع بلحظة واحدة عميقة بين الانتماء الروحي العقلي الكامل للآخر، وانتهاكه وانتهاكي في سبيل الحب والرغبة والشهوة والامتزاج بكامل العرق والجسد والكيان والقلب.
في داخلي تطارد الذكريات بعضها البعض، تطرد بعضها البعض، تلاحقها، تطلق عليها النار وتقتل بعضها البعض أحياناً، في داخلي لا مكان إلا لواحدة وواحدة فقط، بكل الهواجس والعذوبة والشهوة والرغبة والعشق، وحين تتقاطع اثنتان في مرحلة فلا بد أن تخلص أحداهن على الأخرى في معركة تحركها أعماق أعماقي، فإما أن تصمد إحداهن فأخسر الأخرى، أو أخسر الاثنتين.
الحب ذاك المجهول لدي، أين أنت، وقعت متعباً ذاك اليوم، ولم أقرر شيئاً، ومر وقت مؤجل معطل فيه القرار، إلى حين الاكتشاف العظيم في ذلك الربيع، اكتشاف ما أنا قادرٌ عليه ببراعة، ذلك الشيء الذي يتجذر في عقل الإنسان وأقصد "التجريد".

كان الاكتشاف بعد سهرة ثلاثينية مملة، مع أصدقاء في الثلاثينيات، يكررون كلاماً يائساً متواضعاً عن الحب والحياة، نابع كما يقولون عن الخبرة، كنت أضحك بسخرية في داخلي مردداً "خبرة الفشل، ها!"، أحياناً أكتشف في داخلي إنسان شرير، كانت هذه الصور التي يضعونها في حفلتنا الراقصة الزاهية التي فيها كل شيء من الخمر للجمال للرقص، عدا شيء واحد : "العلو" هنا ملل فظيع، رتابة لعينة، يتحدثون عن العمل، السياسة، شعوب العالم الثالث كما في قهوة باهتة اللون يرتادها عجائز في السبعين لا شباباً في الثلاثين، أما في الحب فكان الحديث باهتاً خاضعاً للحياة كما هي، ليس فيه إيمان بالسحر والشعوذة والحقيقة التي أؤمن بها، أي الحب، ردني ذلك فوراً للرموز الدينية، والتي أعشقها فعلاً، كنت في استماعي لهم أفضل أن تُقرأ علي آية قرآنية، أو حضور قداس في كنيسة، الرموز هي أفضل ما خلقه الإنسان كما الفن لمحاربة بشاعة الواقع، وههنا كنت أحس بملل الواقع وبشاعته الخالية من الفن والتحليق والأحلام.
تركتهم ليلتها وعدت لمخدعي، وأنا أفكر بمفاهيم التجريد تلك، تلك التي تتواجد في الفن بشكل عام وبالدين أيضاً، ثم ومنها وجدت حلاً لصور الذكريات التي تتابع وتستجر في مخيلتي.

ربما يتبع؟

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني