يبدو أن مداخلتي السابقة لم تكن مغرية لأحد كي يتطرق إليها ، و هي ضمن هذا الرابط
المداخلة رقم 23 عن سلسلة السببية
أحب أن أؤكد أن ما يحاول أن يقوم به بعض الزملاء من جعل الصدفة هي المحرك لظهور الإنسان هو عبث شديد - في رأيي الخاص ، فأن تقول "لا أعلم" هو أفضل بكثير من أن تقول "أعلم" و أنت لا تعلم شيئاً .
سأعيد باختصار فكرتي في مسألة التطور .
قد يستغرب البعض حين أقول أنني أؤمن بإله سميته الإله الغائب منذ أكثر من سنتين و كتبت عنه في خواطري ، و إيماني بهذا الإله لا يدخلني جنة المسلمين و لا ملكوت المسيحيين لأسباب يمكن مناقشتها في غير هذا المحل .
و للإختصار ، أقول أن الوصول إلى بداية الوجود ، لا يكون بوضع حلول متكلفة للغاية كحلول الصدفة ، بل يكون بالعودة من الحاضر الآني الذي نمسكه إلى الخلف شيئا فشيئاً حتى نصل إلى أصل الوجود .
لو تصورنا ما هو موجود الآن في هذا الكون من أجسام ميتة و أجسام حية و إنسان و أفكار و معارف و كلام و رغبات و نفورات و غير ذلك من الموجودات (أشكال المادة و تفاعلاتها) ثم أعطيناه القيمة (ياء) عند هذه اللحظة من الوقت .
أقول أن كل هذه الموجودات ما كانت لتكون على هذا النحو (ياء) إلا كسبب لقيمة وجودية سابقة إسمها (واو) ، و تلك الواو لا يمكن أن تكون موجودة إلا نتيجة لقيمة وجودية سابقة إسمها (هاء) ، و قبلها (نون) و قبلها (ميم) و قبلها (لام) حتى نصل إلى (الألف) في البداية .
و هذه هي سنّة الوجود ، السببية causality
و حتى نصل إلى نقطة البداية ، نحتاج لتفسير جميع القيم الوجودية المتسلسلة ، و غياب أي حلقة من الحلقات لا يعني أن سحراً حدث أو معجزة حدثت لظهور شيء ما إلى الوجود ، بل يعني أننا لا نعرف تلك الحلقة ، لا يزال العلم يبحث عنها .
الإنسان كان يرى العصفور يطير في الفضاء ، ففكر بتقليده ، لكنه فشل كثيراً ، و لكن هذا العصفور ألهم الصينيين اختراع الطائرة الورقية قبل الميلاد بعدة قرون ، ثم محاولة اختراع الطائرة الشراعية التي تنزلق في الهواء قبل القرن الثامن عشر ، ثم اختراع المنطاد المحمول بغاز ساخن في القرن الثامن عشر ، ثم اختراع أول طائرة أثقل من الهواء يمكن توجيهها على يدي الأخوين رايت ، ثم الطائرات المروحية ذات الإقلاع العامودي ثم الطائرات النفاثة و الصواريخ و مكوك الفضاء .
فما نراه الآن هو نتيجة لعدد يكاد يكون لا نهائي لسلسلة من السببيات السابقة .
و بالنسبة للكائنات الحية ، فهناك الكثير من الأدلة العلمية على ظهور كائنات سلفية لكائنات لاحقة ، و منها سلسلة البشريات الطويلة التي يتخللها الأوسترالوبيثيكس و الهومو إيريكتس بأنواعها المختلفة وصولاً إلى الإنسان الحديث الذي ظهر قبل 30 ألف سنة حسب تقديرات علماء التطور .
ما يؤكده العلم الحديث بسجله الإحاثي هو أن الإنسان ليس كائناً أزلياً ، بل هو ضمن سلسلة من الكائنات التي تسير على قدمين غارقة في القِدم تصل إلى 7 ملايين عام حسب اكتشاف التوماي قبل سنتين saheloanthroposes chadenism (الإسم مكتوب من الذاكرة ربما يوجد أخطاء إملائية ، لكنني تكلمت عنه بالتفصيل في موضوع قصة تطور الإنسان ، تجدونه في هامش التوقيع ) .
لذلك فلماذا يرفض الدينيون أن تكون هذه سنة الله في هذا الكون ؟؟؟؟
لماذا يرفضون أن يكون هناك كتلة صغيرة خلقها الله و جعلها عالية الكثافة مما أدى إلى انفجارها مما أدى إلى ظهور الكواكب مما أدى إلى دورانها بتأثير جاذبية بعضها على بعض مما أدى إلى ظهور حياة على الأرض أدت إلى ظهور الإنسان الحالي ؟؟؟
ما الذي يمنع هذا الأمر ؟؟؟
هل لأنه يعارض قصة الخلق التوراتية التي تعتمد الجبلة الطينية التي جبلها الله بيديه فخلق تمثالاً نفخ فيه من روحه فأصبح إنساناً ؟؟؟
كل شيء في جسم الإنسان يسير حسب قانون السببية ، و كل ما نشعر به من جوع أو نعاس أو شبق جنسي أو تعب أو مرض أو حب أو حقد أو ألم أو غيره هو نتيجة لسلسلسة من التفاعلات هي أسباب لهذه النتائج .
لذلك لا شيء يمنع أن تتطور المادة ضمن قوانينها الخاصة فيها لتعطي كائنات حية .
القوانين الخاصة ليست عشوائية ، لأن الله وضعها في البذرة الأولى للكون ، و جعلها تولّد قوانين أخرى .
فالله حسب هذا التصور هو الضمانة لظهور هذه القوانين ، لكنه غائب عن مسرح الأحداث بالنسبة لنا ، فليس له علاقة بما نحب و ما نكره و ما نفعل و ما لا نفعل ، لأن كل شي بالنسبة له هو سيان يسير حسب قوانين المادة ، فلان يقترف خيراً نتيجة لسلسلة من الأسباب أدت به إلى أن يفعل هذا الخير و يكون خيّراً ، ربما نشأ في بيئة تمجّد هذا الفعل ، ربما تأثر بشخصية حثته على هذا الفعل ، ففعله كان نتيجة لهذه السلسلة السببية ، التي لن يستطيع الفكاك منها ، كذلك من قام بالشر قام به منسجماً مع سلسلة من الأسباب أدت به ليقوم بهذا الفعل ، ربما البيئة التي نشأ فيها أدت به إلى هذا الفعل ، ربما ردة فعل لشر خارجي ، ربما رغبة في الشر نتيجة لأسباب فكرية ، إلى آخره مما يمكن أن يدفعه لمثل هذا الفعل ، فهو أيضاً منسجم مع قانون السببية الذي وضعه الله في بذرة الكون ، فذاك الذي يفعل الخير و هذا الذي يفعل الشر كلاهما سيّان بالنسبة للخالق ، بل هو لا يهمه أن يفاضل بين أحدهما و الآخر .
لماذا أستبعد فكرة الخلق التي يقول بها الدينيون ، فذلك لسبب واحد ، و هو لماذ توقف إلههم عن عملية الخلق السحري هذه ؟؟؟؟
لماذا لا نرى أي مخلوقات أو أحداث ليس لها سبباً منطقياً ؟؟؟؟
لا يوجد مكان للسحر في هذا العالم أو الميتافيزيقا ، لذلك لا يوجد إنسان ظهر من العدم أو من الطين اسمه آدم ، و لا يوجد شجرة ظهرت من العدم إسمها أدمة ، لا يوجد حيوان ظهر من العدم اسمه أَدَمان ، و لا يوجد جبال ظهرت من العدم إسمها إدام ، و لا يوجد أنهار ظهرت من العدم إسمها آدام ، و لا بحار إسمها إدام ، إلى آخر سلسلة الآدمين التي يتخيلها أصحاب الخلق التوراتي ، بما فيهم المسيحية و المسلمة .
خلاصة : عدم معرفة العلم الحالي بحقيقة السلاسل القديمة ، و عدم وضوح الكثير منها ، لا يعني أنها غير موجودة و أن سحراً ما ، أو معجزة ما فعلها الله ليظهر الإنسان ، و يظهر النبات ، و يظهر الحيوان ، ثم قال في نفسه " خلاص لن أخلق شيئاً بعد الآن " ، و اكتفى إلى هذا الحد من خرق قانون السببية الذي وضعه في الطبيعة بخلق المخلوقات .
يحب الكثير من الدينيون خصوصاً المسلمين بالخوض في مسألة خلق الإنسان و نظرية التطور و ما فيها من عجز عن تفسير أشياء كثيرة ، لكن كيف يفسرون باقي الموجودات ؟؟؟
كيف ظهر النبات ؟
كيف ظهر الحيوان ؟
و لماذا هناك نبات انقرض و آخر ظهر في عصور لاحقة ؟
و لماذا هناك حيوانات انقرضت و أخرى ظهرت في عصور لاحقة ؟؟؟؟
هل سيقولون أن جميع المخلوقات خلقها الله من العدم خلال الستة أيام المعهودة ؟؟؟ هذا مخالف للتاريخ الطبيعي .
أم سيقولون أن الله كان يمارس صفة الخلق في العصور السحيقة فخلق و أعدم لكنه توقف عن ذلك بعد خلق الإنسان ، لماذا توقف عن هذا السحر و الخرق لقانون الطبيعة ؟؟؟ لا يوجد إجابة واضحة .
فكما تفعل حجارة الدومينو المتسلسلة من أحداث كثيرة تبدأ بتحريك أول قطعة حتى تنطلق في سلسلة من السببيات المتلاحقة تؤدي إلى طيران بالون و إشعال حريق صغير و إطفائه و غير ذلك مما نشاهده على التلفزيون ، فالخطوة الأولى بدأت و انطلقت ضمن القوانين التي وضعها صاحب الدومينو ، و لا يوجد في أي مرحلة شيء سحري ، و إن بدا كذلك كأن يطير يتدلى جسم و يقف في الهواء يكون مربوطاً بخيط شفاف لا نراه إلا إذا فارقنا موقعنا الحالي و استطعنا رصد الخيط فنرى الحلقة السببية عند هذه اللحظة ، كذلك قام الله بوضع قوانينه في بذرة الكون ، و تركه يسير عليها بشكل دائم ليؤدي إلى ظهور قيم وجودية داخل سلسلة من السببيات التي لا تُحصى .
أرجو أن أكون قد وضحت الفكرة .
و هذه الفكرة هي مجرد محاولة لفك طلاسم هذا الوجود ، و أرحب بأي نقد لها ، أو محاولة لإثرائها .
أعلم أن عدة مفكرين قد طرحوا في الماضي أفكار ربما كانت مشابهة ، فأرسطو قال بالمحرك الأول للكون ، و هذه الأفكار تتقاطع مع الفلسفة الدايزمية في كثير من النقاط ، لا أدري ، لكني توصلت إلى الكثير من تفصيلاتها من خلال التفكير الذاتي في المسألة ، و النقاشات في هذا المنتدى . بصراحة لا يهمني أن أكون صاحب هذه الأفكار أو س أو ص ، المهم أني استطيع أن أتكلم بهذه الأفكار ، أشرحها كما أفهمها ، و أناقش بها .
تحياتي للجميع