الزميل المحترم / بهجت
يوجد نقطة جوهرية أختلف معك بها و أستأذنك أن أحاول توضيحها ألا وهي فرض سيادتكم:
إمكانية إعادة قراءة الدين (الإسلامي) قراءة ليبرالية.
و قد ترتب على هذا الفرض:
- فرض الفصل بين الشريعة و الفقه. و بالتالي إمكانية إستنباط (فقه / قوانين / تشريعات) جديدة تتناسب و المعطيات الحالية.
- الدفع بأسطورية الدولة الدينية الإسلامية.
طبيعة هذا الإختلاف هو إختلاف من وجهات نظر الراصد - و كمثال عليه أتخيل أننا على ذات الطريق المؤدي للحداثة و الليبرالية - لكن بينما أنا أسير على قدمي - تقوم سيادتكم بالرصد من طائرة.
بالرغم من وجودنا على نفس الطريق - سائرين في نفس الإتجاه و وجوهنا لواحة الحداثة - بل و نقع على نفس المسافة الأفقية من الهدف (أي أن مسقطنا الرأسي واحد - طائرة سيادتكم فوقي تماما) إلا أنني أرى أمامي جبلا أعلم أننا قد لا نستطيع تخطيه أبدا - في حين ترى سيادتكم الواحة مباشرة.
فرض إعادة قراءة الدين الإسلامي و بالرغم من وجاهته إلا أنه يستحيل على أرض الواقع عمليا.
المسلمات الأولى للمسلمين جميعا هي أن القرآن كلام من الله مباشرة. و أن محمد رسول من الله - و هو لا ينطق عن الهوى. و أن الإسلام دين الناس جميعا و لكل العصور و حتى قيام الساعة.
و إذا سلمنا بإلتباس بعض الخطاب الديني - فأغلبه واضح بلا لبس - خاصة فيما يخص التشريعات و الحدود.
و لا يوجد غير فرضين لا ثالث لهما:
1 - إما القبول بهذه المسلمات.
2 - أو رفض هذه المسلمات.
و إذا قبلنا المسلمات الأولى ثم أردنا إعادة القراءة - فلا يوجد غير ثلاث طرق رئيسية لإعادة القراءة:
- أولا القراءة الإنتقائية: و فيها يتم إختيار بعض النصوص التي قد تبدو متوافقة مع ما نريد و كبت أو كظم أو ما يسمى (المسكوت عليه).
- ثانيا القراءة التأويلية: و فيها يتم تأويل النصوص بلي أعناقها لتدل على ما نريده منها و ليس على منطوقها.
- القراءة التاريخية: و فيها يتم تفسير النص بالرجوع للموقف المصاحب لصدور النص.
و قد عاصرنا جميعا بداية القراءة الإنتقائية في بدايات محاولات التحديث - كون المحدثون الجدد أرادوا تحاشي الصدام مع الدين - كما عاصرنا أيضا فشل هذه المحاولات التام - و الردة الأصولية و بخاصة بعد النكسات السياسية و الإقتصادية.
أما القراءة التأويلية فهي في أغلبها كوميدية يكفي لقتلها أن يسأل أحدهم نفسه "لماذا إذا لم يقل الله ما يريد مباشرة؟؟ و لماذا نقبل بهذا التأويل ولا نقبل بأصل النص؟؟"
أما القراءة التاريخية و التي نشطت مؤخرا و يعتبر نصر حامد أبو زيد من أكبر الأمثلة عليها فالغرض الأخير منها (شاء صاحبها أم لم يشأ) هو تفكيك سرمدية النص و إسقاط القداسة الأبدية للأحكام.
و بالرغم من أن القراءة التاريخية للنصوص الدينية هي مدخل علمي مائة بالمائة إلا أن وضع هذا المنهج جنبا لجنب مع التسليم بمسلمات المسلمين هو موقف متناقض عقليا و لا يمكن أن يستقيم.
فبالرغم من أن غرض الباحث (الظاهر على الأقل) هو إسقاط الحدود القديمة و إستنباط أخرى تتوافق و العصر - إلا أن الآداة المستخدمة تأبى إلا أن تهدم البناء كله بهدم قدسية النص و حصره في فترة شديدة التردي لمجتمع شديد التخلف. كما أن إظهار الإله كمن يتفاعل مع المواقف الوقتية عاجزا عن التشريع لغيره يمس بالضرورة فكرة الله بالكامل.
الحقيقة التي لا يجب أن تغيب عنا و نحن بهذا الصدد هي أن العقول الإنسانية لا تحتمل التناقض العقلي و المنطقي - و إن كان فلفترات شديدة القصر - لأن هذا التناقض هو وضع غير مستقر محتم له الإنقلاب.
و لا يمكن للعقل الإنساني (الفردي و الجمعي) أن يقبل بالشئ و نقيضه طويلا - فهو منقلب حتما لأحد الأطراف (الأقوى منطقيا).
و أنت بداية من موافقتك على مسلمات الإسلام - لا يمكن لك الوصول لنتائج معاكسة لها إلا بأخطاء منهجية - أن أنه و ببساطة - سوف يصبح المنطق الأصولي - و لا عجب - أشد منطقية و عقلانية آلاف المرات من منطق المجددين.
و لهذا - وهذا فقط - سقطت محاولات التحديث.
و لعلي هنا أتفق على أن موقف الإسلاميين أكثر وضوحا (و ضربت المثل بسيد قطب) من موقف الليبراليين الأكثر غموضا و تناقضا و الوضوح و الغموض هنا مساوية لمدى العقلانية و المنطقية النسبي للموقف.
لقد وضع المحدثون الأوائل أنفسهم بموقف غامض و حرج - حال تبنيهم مسلمات ثم الوصول لنتائج تخالفها - واضعين أنفسهم بمرتبة أقل منطقية من غرمائهم عكس ما كانوا يقصدون.
اقتباس: بهجت كتب/كتبت
هناك غموض متعمد في الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية ، فالمنادون بتطبيق الشريعة يعلقونه بشروط هي عين ..
أعتقد أن هذا الموقف هو موقف الليبراليين كوسيلة جديدة لتبرير التهرب من الشريعة و ليس الإسلاميين الذين يرمون للتطبيق المباشر و الفوري للشريعة.
اقتباس:يخلط دعاة التطبيق بين الفقه وهو المنتج البشري بلا مراء و الشريعة التي هي ما شرعه الله عن طريق الوحي و المفترض أن تكون مفصحة عن إرادة الله و مراده من عباده ، وهذا فارق نوعي حاسم تقلب دعاوى التطبيق رأسا على عقب ، فبينما يعتقد المبرمجون أصوليا أن هناك قوانين إلهية معدة لا ينقصهم سوى تطبيقها كي يكتسبوا سعادة الدنيا و الآخرة ، تبدوا الحقيقة مغايرة تماما فكل ما لدينا فوضى تشريعية من الأحكام الفقهية المتناقضة .
الفقه يقف بالكامل على الشريعة - إما مباشرة بنصوص محكمة - أو بالقياس أو غيره - و هو في أغلبه الأعم ذو منهج سليم و لا يمكن نقضه إلا بنقض الشريعة نفسها. و لا يمكن الإعتماد هنا على بعض التناقضات ببعض الأحكام المبهمة و التي إستدعت الإجتهاد - و هذا لقلتها من جهة (نسبيا) و لحاجة الناقد حينئذ أن يقف على أرض أكثر صلابة من المنقود و إستنادا على نفس الأدوات (النصوص و القياس).
اقتباس:أريد أن أفرق بين قراءة منفتحة نسبيا للإسلام الأصولي و ضمن إطاره السفلي النصي ، هذه القراءة يمكن أن يقرأها فقهاء متأقلمون يعيشون في رغد أمثال يوسف القرضاوي و محمد الغزالي ،و بين النموذج الليبرالي من الإسلام الذي لا يمكن تأسيسه سوى في مناخ علماني و كجزء من إطار معرفي حداثي عقلاني ، لا أتوقع أن يخلص ذلك الإسلام لمبادئ الليبرالية ،و لكنه سيقبل بمرجعيتها كما فعلت الكاثوليكية الأوروبية ، هذا النموذج لا يشبه في شيء جذوره التاريخية ،و لكنه يشبه في الكثير المسيحية الديمقراطية في الغرب و حزب الرفاه في تركيا .
أتفق مع سيادتكم هنا علىأن ما يسمى بالنموذج الليبرالي من الإسلام لا يشبه في شيء جذوره التاريخية - لكن كيف الوصول لهذا النموذج؟
لن يتم هذا بإعادة قراءة موجه (أي مشروع إعادة قراءة مما سبق وصفه) بل بإستخدام الأدوات المنهجية السابق ذكرها (مثل القراءة التاريخية) إستخدامها الصحيح أي النقد المباشر.
حينئذ قد يتولد هجين من الدين (لا يمت إلا بصلات قليلة جدا للإسلام الحالي) و هذا بغض النظر عن إستمرار إستخدام نفس المسمى.
اقتباس: إن التطور الحقيقي الذي حدث في المسيحية هو إضعاف التأثير العام للدين و حصره في نسقه الوظيفي ،و تلك قضية ثقافية و ليست دينية . هذا يعود بنا مرة أخرى إلى ضرورة التفرقة بين الدور الوظيفي للدين في نسقه المجتمعي الفرعي و بين تأثيره العام ،و تشير الوظيفة إلى التواصل الديني المقدس البحت الذي تدعيه المؤسسات الدينية لنفسها و يسمو على الوجود المادي ، و يتمثل في العبادة أو شفاء الأرواح أو البحث عن التنوير و الخلاص أو التعويض الأخروي عن بؤس دنيوي ... الخ ، إن اتجاه الجهود الرئيسية يجب أن تكون في حصر الدور العام للدين و تقييده و ليس إصلاح الدين ، ببساطة إصلاح العقول التي تقرأ النص و ليس النص .إنني بالقطع لا أعارض محاولات الإصلاح الديني و لكني لا أراها مؤثرة كثيرا في الخروج من زقاق التاريخ .
التطور الذي حدث بالدين المسيحي بدأ بنقد هادم و بعدها لا يمكن التكهن بما يمكن أن يستقر عليه وضع الدين.
أي أن وضع الدين و الدور الذي يقوم به هو نتيجة خالصة للموقف العقلاني من الدين بالمجتمع - و ليس إجراء يمكن القيام به.
و أتفق مع سيادتكم تماما في عدم تأثير محاولات الإصلاح الديني و هذا لإعتقادي أيضا بأن هذه المحاولات تأتي نتيجة لتغير الموقف العقلي للمجتمع من الدين - و هذا كمحاولات للبقاء.
تحياتي و إحترامي ,,