د. محمد يحيى
تتزعم جهات مرتبطة بأوروبا وأمريكا حركة العلمانية والعلمنة في العالمين العربي والإسلامي. وتعمل هذه الجهات على نشر العلمانية والترويج لها بأساليب يكاد يعجز المتابع عن ملاحقتها مع تعددها وتشعبها.
فمراكز الأبحاث والدراسات تخرّج يوميًا الكثير من الأوراق والأبحاث تحبّذ العلمانية كبديل عن الإسلام, والتي تحبذ علمنة الإسلام بإفراغ محتواه الديني أو المقدس، كما يسمى، وتحويله إلى مجرد كم ثقافي وضعي هو بحاجة ماسة إلى نقل الفكر الليبرالي الغربي البراجماتي المسيطر في أشكاله الراهنة كي يستطيع مواكبة العصر ومجرد البقاء. وتضخ أموال ما يسمى بالمعونات والمساعدات الغربية لتشجيع أصوات ونخب محلية على الترويج للعلمانية، كما يستخدم النفوذ الغربي، وبالذات الأمريكي، لتشجيع أو إجبار الحكومات والأنظمة القائمة على إرساء العلمانية في كل نواحي الحياة في بلادهم والتحول إليها مع التغريب في المجالات القانونية والدستورية كمدخل إلى سائر النشاطات الحياتية والاجتماعية على مستوياتها المختلفة. وتكثر الكتابات والمواد الإعلامية الموجهة لدعم العلمانية وطرح الالتزام بها باعتبارها العلاج والحل السحري لشتى قضايا ومشكلات المجتمعات... إلخ.
ولكن في خضم هذا الطوفان القادم من الغرب - وعلى الأخص الأوروبي الذي يدعو إلى العلمانية - نجد مصاحباً له زخماً آخر لا يقل قوة يصب في اتجاه الطائفية, بمعنى تشجيع ودعم الهوية الدينية للأقليات غير المسلمة على امتداد العالم العربي والإسلامي, حيث أصبحت الجهات الغربية، وبالذات الأمريكية، تلح على قضية ما يسمى بالأقليات الدينية في العالم العربي تصر على طرح هذه القضية دينية الطابع والقائمة على توكيد الهوية والانتماء الديني على كل أجندات العمل في المنطقة, بل وفرضت هذه القضية على أجندات العمل الداخلية للأنظمة والنخب المؤثرة والثقافية في العالم العربي.
ولما كان طرح هذه القضية يقوم بشكل بحت على التأسيس الديني المحض للهوية ومفهوم الطائفة، فإننا نجد أنفسنا مواجَهين بتناقض جوهري لا يبدو أن الغرب أو أحدًا في المنطقة العربية الإسلامية يهتم بمناقشته, ناهيك عن أن ينتقده ويكشفه.
الرسالة الموجهة، من الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي إلى العالم الإسلامي الآن تقوم على أساس وجوهر هو تنحية الدين 'أي الإسلام' وإقصاؤه عن كافة نواحي الحياة تحت مسمى شامل هو العلمانية, ومن خلال عملية شاملة هي العلمنة بمراحلها ودرجاتها. ولكن في نفس الوقت يوجه رسالة أخرى إلى العالم الإسلامي, وعلى وجه الخصوص إلى الأقليات الدينية, بل وبعض المذاهب داخل الدين الإسلامي الواحد, مفادها توكيد الهوية الدينية وإبرازها وإعلاؤها واتخاذها عامل تأسيس للكيان الموحد وللقومية وللوجود المدني والاجتماعي والسياسي في مقابلة الكيانات الأخرى.
وفي الحالتين يتم تبرير الرسالة الموجهة على أساس أن الطريق المنصوص عليه فيها هو السبيل الأوحد والأنجح والأضمن لتحقيق قيم جوهرية مثل العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والاستنارة والعقلانية والتقدم والحداثة وما شابه. وهكذا فإن السبيل الأوحد للوصول إلى هذه الأهداف العليا وغيرها يمر في الواقع وحسب الرسالة أو الخطاب الغربي المزدوج عبر سبيلين في آن واحد؛ أولهما هو إقصاء الدين عند الأغلبية, والآخر هو إعلاء الدين عند الأقلية. فعند الأولين يطلب تأسيس الكيان على غير الدين إن لم يكن على ضده، وعند الآخرين يطلب تأسيس الكيان على الدين.
والمشكلة هي أن النخب الخارجية والمحلية التي تقوم الآن على الترويج لهذا الخطاب الغربي المزدوج لا تشعر بوجود أية مشكلة فيه, بل ولا تقبل أي صوت يرتفع لكي ينتقد هذا الخطاب أو الإشارة إلى ذلك التناقض. ولعل أفدح نموذج لهذا الوضع برمته هو ما يحدث الآن في مصر 'وليست العراق ببعيد, ولكن ربما يتسع المجال لها في وقت آخر', حيث نجد أن قطاعاً مؤثراً أو بالأصح ذا نفوذ نتيجة للالتصاق بالسلطة يبشر بعلمنة المجتمع وفرض العلمانية في كل شيء بينما يزيد على الجانب الآخر التعامل مع ما أصبح يسمى بالمشكلة القبطية المسيحية على أساس طائفي ديني بحت.
فمن ناحية تطلب هذه النخبة من المسلمين وهم غالبية المصريين أن يتخذوا العلمانية بمعنى إقصاء الدين عن الدولة وعن القانون وعن المجال العام الاجتماعي والثقافي والسياسي.. إلخ نبراساً لهم كهدف أسمى للإصلاح المزعوم. ومن الناحية الأخرى تتفاعل هذه النخبة مع الأقلية المسيحية في مصر على أنها كيان قوي منفصل أساس تكوينه هو العقيدة والدين, كما أن مفتاح التعامل معه يكون في الاعتراف بقيادة ممثّلة له ومجسّدة له ومعبرة عنه هي الكنيسة الأرثوذكسية القبطية, وإضافة إلى ذلك فإن النخبة ترى أن أساس تدشين ذلك الكيان ونهضته هو التمسك بكل أمور الدين وإحيائها وبناء ثقافته وهويته ومحددات نشاطه عليها. ولا يشعر أحد من هذه النخبة 'وهذا طبيعي، فهم ينقلون عن الغرب وهم يؤدون دوراً محدداً' بأي تناقض هنا.
والواقع أنه من وجهة نظر معينة فلا يوجد تناقض على الإطلاق, بل يوجد تناغم وانسجام. ووجهة النظر الوحيدة هذه هي المصلحة الغربية العليا التي تريد أن تقضي على الإسلام في بلاده وتتخذ من العلمانية الأداة الكبرى في سبيل تحقيق ذلك. ونفس وجهة النظر أو المصلحة القريبة 'وهي كذلك مصلحة وكلاء الغرب وعملائه' تقضي بأن يجري تحفيز ودفع قوى داخل البلاد الإسلامية تعمل كقوى مواجهة مع الهوية الإسلامية.
وقد وقع الاختيار في بعض البلاد الإسلامية على الأقليات غير الإسلامية لأسباب تتراوح من الحجم إلى التاريخ والإمكانية. ولكن لكي تقوم هذه الأقليات بدور المواجهة مع الوطن الإسلامي كان لابد من حدوث أمرين أساسيين؛ أولهما هو نزع هذه الأقليات من الاندماج والولاء الذي دخلت فيه في الوطن الإسلامي وتحويل هذا الولاء إلى الغرب, والأمر الثاني المتصل به هو تحديد هوية وكيان قوي لهذه الأقليات يمكن الإشارة إليه لرفض الوطن الإسلامي ومواجهة هويته, وكان الشيء الذي طرح نفسه بسهوله لهذا الكيان هو تحديد الهوية على أسس دينية لاستغلال وجود كيانات مؤسسية قائمة بالفعل مثل الكنائس وهيئاتها ومنظماتها. وفي هذه الحالة يستخدم الكيان القوي الجديد المؤسس على الهوية الدينية العقيدية كأداة مواجهة ضد الأغلبيات الإسلامية, حيث يشار إليه كحجة لعدم رفع أية أسس أو هويات أو مكونات إسلامية داخل الوطن ذي الغالبية الإسلامية؛ لأن ذلك من شأنه أن يثير الكيانات الأخرى الموجودة داخل ذلك الوطن, والتي لا تجعله بالفعل إسلاميًا. وفي هذه الحالة لا يتحدث أحد عن أن هذه إمكانيات خلقت خلقاً بمعنى إعلاء هويتها المدنية إلى مرتبة الهوية القومية واتخاذها العامل الوحيد لتمديد الكينونة والوجود.
بهذا وحده يمكن القول: إن الغرب والنخب العميلة له لا يميزون تناقضًا في خطاب العلمانية والطائفية المزدوج الموجه للعالم العربي. فالسبب في رفع التناقض عندهم هو مصلحة ضرب الإسلام المهيمنة على فكر صانع القرار.
http://www.islammemo.cc/Taqrer/one_news.asp?IDNews=920