بقلم د.نصر حامد أبو زيد
لا يستطيع الإنسان أن يظل صامتاً إزاء خطاب الليبراليين «العقلاء» في تحليل ما يحدث مما تقوم به إسرائيل من تدمير وقتل وتخريب وهدم لمجتمع كامل اسمه «لبنان»، كان في وقت من الأوقات قبلة هؤلاء الليبراليين ومرتعاً لممارسة أهوائهم العقلية، حين كان لبنان بحق «هايد بارك العرب». هؤلاء العقلانيون لا يرون، أو بالأحري لا يريدون أن يروا، إلا «جريمة حزب الله» الذي مارس حقه الطبيعي باختطاف جنود إسرائيليين من أجل مبادلة الأسري اللبنانيين الذين طال مكوثهم في سجون إسرائيل، رغم انسحابها الإجباري من أرض لبنان عام ٢٠٠٠. وهؤلاء العقلانيون أنفسم أصابهم «هَوَس» جماعي حين قرر الإخوان المسلمون - في مصر والأردن وغيرهما من بلاد العرب - أن يتحولوا إلي حزب سياسي ويخوضوا لعبة «الديمقراطية» بحسب قواعدها المتاحة في ظل القوانين الاستثنائية وتقييد الحريات وحالة الطوارئ. تحول الهوس إلي «عصاب» بحصول الإخوان علي ٨٨ مقعداً في المجلس، رغم البلطجة والتزوير... إلخ.
في فلسطين المحتلة قررت «حماس» الانضمام إلي طابور «الديمقراطيين»، فحصدت أغلبية أصوات الفلسطينيين، ومرة أخري أصابت لعنة «الهوس العصابي» جموع الليبراليين العقلانيين، فما هكذا تكون الديمقراطية، وما هكذا يجب أن تكون. الليبراليون العقلانيون في بلادنا يريدون الديمقراطية «التفصيل»، أو بالأحري يريدون «ديمقراطية» تأتي بهم إلي السلطة دون أن يتجشموا عناء النزول إلي مستوي «العامة» أو «الرعاع» - أو بلغة أرقي «رجل الشارع» - والاختلاط بهم وتفهم أوضاعهم، والوصول إلي مكوناتهم الذهنية والثقافية والتعامل معها.
الليبرالي العقلاني العربي ابن البرجوازية التي تحتضر، أو التي ماتت، يحاول أن يتسلق سلم «العولمة» الاقتصادي والثقافي، فيتبرأ من تاريخه الحديث كله: حركة عُرابي كانت حركة شعبوية أدت إلي احتلال مصر، كانت الناصرية مغامرة أدت إلي الهزيمة، حزب الله يعيد حكم آيات الله ويخدم المصالح الإيرانية، ويورط لبنان في مستنقع الدمار، وحماس سببت الجوع والدمار للشعب الفلسطيني.
في هذا الخطاب العقلاني الليبرالي الذي يتبرأ من تاريخه ويغسل يديه من عار «المقاومة» - أي مقاومة - تتمتع أمريكا وإسرائيل بالبراءة الكاملة: من حقهما الدفاع عن مصالحهما وعن أمنهما، من حقهما محاربة الإرهاب الذي يهدد الحرث والنسل، ولا يؤدي إلا إلي الخراب.
ولأنني عقلاني ومن دُعاة العقلانية، ولأنني ليبرالي كذلك، أؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنني كذلك منذ نعومة أظفاري أجدني غير قادر علي الصمت إزاء هذا التزييف المتعمد لقيم العقلانية والليبرالية. إن أهم سمات المفكر العقلاني الليبرالي التمتع بحاسة نقدية مرهفة، تجعله قادراً علي نقد نفسه ومراجعة مقولاته. من هنا قد لا أعترض علي النقد الحقيقي لتاريخنا ولثقافتنا وأوضاعنا، بل إنني أجد هذا النقد ضرورياً وجوهرياً وحيوياً لتحقيق التقدم. لكن لا أستطيع أن أتقبل النقد «الأعور» الناظر بعين واحدة إلي الحقائق: الخطأ هنا دائماً والحق هناك دائماً. ليس هذا نقداً، بل هو التزييف، لأنه يتبني دون نقد أيديولوجية الآخر.
يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم. ليست المقاومة مغامرة، بل هي الخيار الوحيد المتاح الآن أمام شعوبنا بعد أن انكشف وجه الدولة العربية الحديثة عن «تبعية مطلقة» ضد مصالح الناس. لم يفجعني موقف الأنظمة العربية قاطبة - والنظام المصري خاصة - ولم يفجعني موقف الغرب كله وراء أمريكا - إمبراطورية العالم الحديث - ولا يزعجني الجدل الداخلي بين أبناء لبنان، الذي تكاتف كل مثقفيه وكل سياسييه ضد العدوان رغم خلافاتهم. لكن يزعجني هؤلاء السادرون في تحليلات تبريرية للدولة التابعة وللأنظمة العدوانية باسم العقلانية والليبرالية.
أنتم ضد «حماس» وضد «حزب الله» وضد «الإخوان المسلمين»، بسبب أيديولوجياتهم الدينية، وتخشون أن يؤدي نمو قوتهم إلي إنشاء دول دينية، لكنكم تتجاهلون الوجود الفعلي لدولة ليست دينية فقط بل عنصرية لأنها دولة لليهود «فقط». في هذا الخوف العصابي من الداخل الديني الإسلامي، والاطمئنان المذهل في نفس الوقت لوجود سياسي ديني اسمه «إسرائيل»، تكشفون أن ليبراليتكم وعقلانيتكم ليست زائفة فقط، بل هي عقلانية تخريبية. إنها العقلانية الأمريكية، حيث تكون الفكرة صحيحة بقدر ما هي نافعة. أيها السادة أنتم خائفون من «الإسلام» وليس من الإسلاموية السياسية. وأنتم غير قادرين علي إدراك أن الخيار الإسلاموي للشعوب هو خيار المضطر، لا خيار الأحرار. اختار الفلسطينيون «حماس» من موقف اليأس من «أوسلو» التي ماتت ولا يريد أحد أن يعلن موتها، ومحاولة للتصدي للفساد المذهل للسلطة الفلسطينية مالياً وإدارياً وسياسياً. هذا هو اختيار المضطر - حسب تحليل الأستاذ هيكل في حوار بقناة «الجزيرة» منذ عدة أسابيع.
في مصر كما في غيرها من بلاد العرب، هل كان اختيار مرشحي الإخوان إلا محاولة للخروج من فساد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ماذا تبقي للمصريين من خيار؟ هذا ما يجب أن نتفهمه بالتحليل دون أن نصاب بالذُعر والعصاب. الإخوان فصيل سياسي مصري يجب التحاور معه، ويجب مساعدة قياداته الفكرية - أعني الفكرية لا السياسية فقط - بالحوار البناء علي تطوير فكرهم. معني الإسلام ليس حكراً علي أحد، لكن الليبراليين العقلانيين سلموا ضمناً بأن معني الإسلام مِلْكٌ للإخوان وحدهم، وأنهم في سبيل محاربة هذا المعني يسعون للقضاء علي الإخوان وعلي الإسلام ذاته إن أمكن. مرة أخري هم أقل ذكاء من سدنتهم في البيت الأبيض، الذين يسعون لتأكيد أنهم ليسوا ضد الإسلام ذاته، بل هم ضد الإرهاب باسم الإسلام. صحيح أنهم يصنفون كل أشكال المقاومة داخل «الإرهاب»، لكنهم يسعون أيضاً لمناصرة المعني الديني الذي يتفق معهم.
ماذا عن «حزب الله»؟ هذا تنظيم نشأ في رحم المقاومة وتغذي بلبانها، ولم يصوب بندقيته أبداً ضد لبناني أو عربي، بل وتحاشي طوال تاريخه في المقاومة أن يمس المدنيين الإسرائيليين. الحرب الأخيرة دفعته دفعاً لتغيير هذا الموقف العقلاني/الأخلاقي، لأن إسرائيل لا تُحارب من أجل استعادة الأسري، بل تُدمر وطناً بأكمله، وطناً يمثل بتعدديته الطائفية المتعايشة نقيض الوجود الصهيوني. من هُنا محاولات إسرائيل المتعددة لتفكيك هذا الكيان في دويلات طائفية. يزعم الكاتب أنه متخصص في «تحليل الخطاب»، وخطاب حزب الله في إطار الحرب الدائرة ليس طائفياً ولا دينياً في جوهره، بل هو خطاب تحرري وطني، خطاب عقلاني اسمه «المقاومة».
عقلانية الخطاب أيها السادة لا تعني اجتثاثه من جذوره الوطنية، ولا تعني تنكره للقيم الإيجابية في تُراثه الثقافي، بل ولا تعني استبعاد «العواطف» من أفق العقلانية. عقلانيتكم وضعية تجريدية تتصور الحسابات العقلية حسابات رياضية. في هذه الحسابات الرياضية تصبح المصالح الضيقة - الشخصية - هي معيار صواب «الأفكار». إنكم خائفون من فقدان مواقع هشة، ومن فقدان مُتَعٍ شخصية، أما مستقبل الأوطان فلا معني له عندكم. ألا ساءت عقلانياتكم ،وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة.
http://www.almasry-alyoum.com/article.aspx...ArticleID=25304