مساء الفل
لي موضوع سابق عن الكتابة ، وحيث أن التّساؤل هذه المرة عن القراءة، أود المشاركة بهذه المداخلة.
القراءة هي فعل متمم لفعل الكتابة. وهي في جوهرها رغبة عميقة في الإتّصال الإنساني.
حيث يعمد القاريء إلى الإتصال بما يفتقده في حياته الشخصيّة ويأمل الحصول عليه من خلال القراءة ، التي تعبّر هنا عن الأمل في الوصول إلى ذلك الشيء المفقود.
وقد نظرت الأديان إلى فعل القراءة كوسيلة اتصال بين الإنسان وبين الحياة الأبديّة.
ففي القرآن يشتكي أحد الأنبياء أنّ قومه اتخذوا قرآنهم مهجورا. وهو بذلك لا يذم تركهم القراءة بالكليّة، وإنّما ينظر إلى انقطاعهم عن قراءة كتابهم المقدس على أنّه قطع للإتّصال بينهم وبين الحياة التي يفتقدونها في الدنيا وبالتّالي يفترض بهم أن يتوقوا إلى تحقيقها، ولو كان ذلك شعورهم الحقيقي لكانت القراءة حالهم، ولكن بما أنّ الشعور إلى افتقاد الحياة المثلى قد انتفى من داخلهم، انقطعت بالتّالي رغبتهم في الإتصال بتلك الحياة المنشودة، وانتفت القراءة من واقعهم كنتيجة طبيعيّة لفقدان تلك الرغبة في الإتصال.
وفي الكتاب المقدس يصف المزمور الأول من مزامير داود حال المؤمن الذي لا يفتأ يردد آيات النّاموس ليلاً ونهاراً بأنّه كالشجرة حال اتصالها بالنهر الجاري عن طريق جذورها المنغمسة في أرض الفكر التوراتي الديني. حيث تكون نتيجة هذا الإتصال في النهاية هي الإثمار، والإثمار هو الفهم والمعرفة الذين يصل إليهما الإنسان عن طريق اتصاله الوجداني والنفسي والفكري بكاتب النص محل القراءة.
وهذا الفهم يختلف باختلاف حالة القاريء المزاجيّة ومحصلة خبراته في الحياة وظروف المجتمع الذي نشأ فيه والمجتمع الذي يعيش فيه حالياً ومحصلة قراءاته السابقة والمرحلة العمريّة التي يمر بها، ومدى كونه صحيحاً أو مريضاً بدنيّا أو نفسيّا حال فعل القراءة.
والشخص الذي يعاني الإكتئاب قد يعمد إلى إحدى القصص المرحة إذا كانت رغبته هي الخروج من كآبته، وقد يفكّر على العكس..أن السبيل الوحيد للخروج من كآبته أن يشاركه أحد أحزانه ، وأنّه بدون هذه المشاركة لن يستطيع الخروج من هذه الأحزان، ويدفعه فقدان الاتصال بهذا الشريك المنشود إلى أن يلجأ إلى وسيلة من وسائل المعلومات، قد تكون سمعبصريّة مثلا كفيلم درامي، وقد تكون رواية حزينة يستطيع من خلالها القاريء أن يستمع إلى من يشاركه همومه من خلال قصته، فيخرج بذلك مرتاحا عندما يعلم أنّ هناك من يعاني في العالم كمعاناته وأنّه ليس وحيداً، ويتم إشباع هذه الرغبة عن طريق الاتصال القرائي.
ومن يعيش وحيداً في عزلة ولا يملك المال للتنقّل قد يلجأ إلى قراءة كتب الأسفار والرحلات لكي يحقق بالخيال ما لم يستطعه بالمادة.
وشهوة المعرفة هي رغبة القاريء في الإتصال الإنساني عن طريق القراءة لإشباع الحاجة إلى فهم العالم وإيجاد المعنى من وجوده.
وتتنوع أسباب القراءة بتنوع رغبات واحتياجات الإنسان نفسها. والقراءة من الدوافع الثانويّة للإنسان كالكتابة، غير أنّها قد تتحول إلى دافع أوليّ إذا كان لها دور مباشر في الحصول على أحد الحاجات الأوليّة للإنسان كالطعام والشراب وحفظ النفس من الموت. فهي من التعدد والتنوّع بمقدار تعدد وتنوع رغبات الإنسان وغرائزه.
ويختلف فهم النص الواحد من شخص لآخر ، وذلك ما يسمى " بالإمتداد القابل للنص" وهو مصطلح في علم المكتبات يعني أنّ النص ممتد من حيث تفسيره باختلاف خبرات وعمر وصحة من يقرؤه وباختلاف حالته المزاجيّة وغير ذلك من العوامل كما أوضحت سابقاً.
بل إنّ فهم النص الواحد قد يختلف في الإنسان نفسه باختلاف الوقت والمكان، ونستطيع أن نلحظ هذه التجربة في كتابات الأدباء والمفكرين، وعلى سبيل المثال، يروي توفيق الحكيم في روايته " الرباط المقدس" عن رجل كان يعاني مشكلةً لا يجد لها حلاً ، ولا يجد من يتصل به لكي يرشده إلى هذا الحل، فلجأ إلى الاتصال الإنساني عن طريق القراءة، وقد وجد ذلك الرجل الحل في كتاب قرأه منذ زمن طويل، إلاّ أن حالته المزاجيّة وعمره وخبرته في ذلك الماضي لم تكن مؤهّلة لتفسير النص على النحو الذي فهمه به الآن بعد تعرضه لهذه المشكلة.، فيقول الحكيم في روايته عن هذه التجربة :
" ... وضاق صدره من طول البحث عبثاً كل تلك الليالي، وخطر له أن يسترشد بما فعله " راهب تابيس" ، فمد يده إلى كتاب " أناتول فرانس" ...إنّه لم يفتحه منذ نحو عشرين سنة، ولقد نسي ما فيه، فغرق بين صفحاته ليلتين...عجباً!...لكأنّه يقرؤه للمرة الأولى...إنّه لم يفرغ منه بعد، لقد قرأ أكثر من نصفه، فاتضحت لعينه أشياء، فصاح لنفسه :
" ما أشقى الآدميين!...لقد كتب عليهم العمى، وهم يحسبون أنّ لهم عيوناً مبصرة، إنّا لا نبصر حقيقة الأشياء إلاّ بعيوننا الداخليّة، ولا ندرك حقيقة الأمور إلاّ باتصالها، واصطدامها بجوهر مشاعرنا... إنّي مهما بلغت من سمو العقل وذروة الفكر، ما كنت أنفذ إلى أعماق الراهب "بافنوس" إلاّ اليوم...نعم اليوم، لأنّي أشعر بما كان يشعر به، وأحس أنّ الظروف تضعني في الموقف الذي وضعته فيه..."
أراكم بعد حين