"أنطولوجيا" القسم الكاذب في باب الحارة
"أنطولوجيا" اليمين الكاذب و باب الحارة...
رحم الله نهاد قلعي الذي لم يمت قبل أن يرسم معالم شخصيات الحارة الدمشقية و يحدد مساراتها و سلوكياتها, ووضع كل ذلك في بضع مسلسلات مازالت تعرض حتى هذه اللحظة و تحظى بقبول يتوزع بين الحنين الى الماضي و بين إفتقار الحاضر الى فهم مغاير للأساس الذي أرساه نهاد قلعي,لم يستطع كتاب دراما الحارات الشعبية الدمشقية أن يتجاوزوا ما قدمه نهاد , و لم يستطيعوا أن يخرجوا عن مجموعة الكيانات الإنسانية التي رسمها و أعتبرها الملمح الأساس للحارة , القبضاي بوجيهية الإيجابي و السلبي ,رجالات الحاره كبار التجار و صغار الكسببة ,رجل الدين ,و كذلك معتوه الحاره, شاهدنا في باب الحارة "أبو عنتر , و غوار الطوشة,و حسني البورظان,و أبو رياح و فطوم, و حتى بدري ابو كلبشة رجل الشرطة الغبي و كذلك ياسين الأجدب.
أحتال كتاب نص باب الحارة على شخصيات نهاد قلعي, فمزقوا ابو عنتر بين "العقيد" أبو شهاب و "العقيد" ابو النار , و كثفوا شخصية غوار الطوشة بالإيدعشري بعد أن حملوها تبعات نفسية هائلة لا تلائم إنسان ذلك العصر , و أستعاروا من حسني البورظان الطيبة و الغيرية و التفاني في سبيل الآخر فوضوعوها في شخصية الزعيم,و حافظوا على معظم مافي بدري أبو كلبشه في شخصية رئيس المخفر , و أوجدوا مكانا فسيحا لياسينو الأجدب و هذا خطفوه كما قدمه نهاد قلعي دون أن يزيحوا عنه الغبار الذي علق به ,أما فطوم حيص بيص فيمكن أن نلحظ جانبا منها في كل إمرأة من نساء باب الحارة.لم يبق إلا الأحداث التي تحرك هذه الشخصيات , بعد أن تم "تحضير" الشخصيات و خلفيات المشهد التراثية , و كانت عملية "إبتكار" الحدث ,"كتدبيج" كلمات لتناسب لحنا سبق أن وضعه ملحنا ما.
الحدث المضطرب المخلل و المتشعب بدون هدف فني واضح, كان سائدا في كل حلقات باب الحارة الثلاثة و الثلاثين , أعتبارا من البداية "المثيرة" بالهروب الكبير الذي نفذه الإيدعشري بعد أن أرتكب جريمة سطو مسلح و المقارنة الفجة بين "مشاية" الإيدعشري و "حذاء" السندريلا, و كلاهما نسي حذائه في سياق هروبه الخائف,أدار النص ظهره لهذه التفصيلة المهمة بعد ثلاث حلقات و تبنى بدلا منها ضغوطات نفسية طبقها النص على الإيدعشري بعد أن أقسم يمينا كاذبا أمام وجهاء الحاره , تزايدت جرعات التعذيب النفسي و تحولت الى كوابيس مفزعة , ثم تطورت هذه الكوابيس لتصبح حقائق موجوده لمسها الإيدعشري , بدأت بمرض زوجته المريب و الذي يشبه السل , تمدد الأذى ليصيب وجود الإيدعشري فماتت زوجته و قتل ابنه البكر معروف بطريقة شنيعة بعد أن لدغة تعبان أنطلق من القبر الذي أختاره الإيدعشري مخبأ لجثة الحارس و للمال المسروق, و لم يكن خروج الموت من ذلك المكان مصادفة ,فهو مقصود ليربط و بشكل وثيق بين اليمين الكاذب الذي أقسمه القاتل و مكان جريمته التي خرج منها الأذى ,لم تتوقف تبعات اليمين الكاذب عند موت الزوجة و الأبن و خسارة جزء كبير من البيت لصالح البلدية , فقد جاء الدور على الإيدعشري نفسه , ليموت بعد أن فقد ذراعة التي أقسم بها كذبا , و هو يعترف بجريمته النكراء و دون أن يلمس المال المسروق الذي عاد بكامله الى صاحبة صاحب القلب الطيب.
هذه حكاية باب الحارة الرئيسية ,سار معها بشكل متواز و منفصل حكايات أخرى , صاحب القهوة أبو حاتم و الحاجه الى طفل ذكر, زواج عصام , و خصومة بوران و أم لطفيه,المجذوب الذي ظهر في الحارة بشكل مفاجىء و أقاصيص أخرى أقل أهمية تبدو محشورة في النص لترفع حمية المشاهد كحكايات "ثوار الغوطة" , بهذه التوليفة سوق باب الحارة نفسه , بعد أن توشح "بعبائة" الماضي,و "وشى" اقاصيصه بتمائم دينية شديدة السطيحة تناسب الصائم "بحكم العادة" , كان اليمين الكاذب و مكانة المصحف مادته الرئيسية , فشلت محاولات زعيم الحارة و أبو شهاب في الفحص و التقصي عن دلائل تدين الإيدعشري و كانت أوضح من الشمس, و فشلت محاولات رئيس المخفر العنيفة , في حمل الإيدعشري على الإعتراف, و حده اليمين على المصحف أفلح في إظهار الحق و إصدار الحكم و تنفيذه أيضا, مسلسل باب الحارة بهذا الطرح السطحي و بمجموعة أحداثة المفبركة المساعدة للحدث الرئيسي شكل طبقا رمضانيا رشيقا سهل التسلسل من البلعوم الى المعده بدون عوائق .
تبعات اليمين الكاذب حسب مسلسل باب الحارة , جزء من الواقع , فليس هناك حاجة الى شرطة و لا محاكم,و قد عرض علينا كتاب المسلسل و مخرجه , نموذجا , حيا,سرق و أقسم كذبا فخسر حياته و زوجته و أبنه و بيته و أخيرا خسر نفسه قطعة قطعة , قبل أن يموت كمدا و غما , و لم يبق من أفراد أسرته , إلا أبنته ثكلى, و ابنا ملتاث, و الناجي الوحيد من هذه المعمعة كان حمار العائلة فقط,كان النص في منتهى القسوة و البطش,فهو أوقع بنفسية الإيدعشري أفدح الآذى و أوقع بعائلته أقصى عقوبة ممكنة ,مما يجعلنا نتسائل عن عدالة هذا الحكم, فهل تستحق الدهبات الخمسين, حياة إمرأة طيبة و شاب يافع و عائلة بكاملها,و هل غاب عن النص مبدأ حقوقي هام قائم على نص "شرعي" صريح مصدره القرآن نفسه يقول "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
هذا العمل لم يساعد نفسه ليظهر بشكل فني أفضل, و أعتبارا من النص الذي كتبه كاتبان الأمر الذي يعني عناية مضاعفة ,لكن الأمر جاء بعكس ذلك , الحدث الضعيف المتمثل بجريمة عادية أريد لها أن تحتمل إظهار حقبة تاريخة غنية و تعمد النص أن يحشر كل "بهارات" ذلك العصر أعتبارا من ظاهرة القبضايات و الحارات الى قصص "النسوان" و مكائد الحريم مرورا بالنضال الوطني للتحرر من الإستعمار , عناوين طويلة و عريضة عالجها النص بلا اي عمق من خلال قصة "حرامي" سابق نسي "مشايته" و هي أول سقطة لنعرف أن الحرامي ليس محترفا كما أدعى النص,أوغل النص في إبراز "الوطنيات" و مكائد النساء , دون أن يضيع ملامح جريمة القسم الكاذب بعد أن كانت مجرد جريمة سرقة عادية , حولها النص من حدث "شرطي" الى قانون وجودي خطير,لم يوظف مسلسل باب الحارة تقاليد الحقبة الزمنية التي يمثلها لتخدم الحدث, و أظهرها بشكل فلكلوري فقط كعرض بهدف العرض و كأنه يقدم وصلة للدبكة الشعبية أو عرض أزياء تراثية , بينما تحركت الأحداث بشكل منفصل عن الزمان و المكان و لم تكن مربوطة دراميا مع بدايات القرن العشرين , فهذا الحدث الذي عرضة مسلسل باب الحارة يمكن أن نجعله يحدث الآن أو في المستقبل دون إخلال بالسرد الفني , و هذا يدعونا للتساؤل في جدوى "توريط" التراث في أعمال غير مرتبطة به , و كي لا أبدو متجنيا ساقارن بين الحدث الأساسي في مسلسل ايام شامية و الحدث المحوري في باب الحارة , أيامم شامية عمد الى مكانة "الشوارب" عند رجل بداية القرن العشرين و نسج حولها حكاية في منتهى الجمال و الإبداع و أخرجها بسام الملا نفسه , بينما نجد أن باب الحارة أعتمد على جريمة سرقة عادية , و لفق حولها كل هذه "الهوليلة" التي أستمرت طوال شهر رمضان.
لم يكن ثمة داع لأن يبذل الممثلون جهدا تمثيلا يذكر فمعظمهم, أدوا ذات الأدوار في مسلسلات مشابهة لنفس المخرج,فتموتت لديهم الرغبة في الإبداع و التجديد, لصالح توكيد نمطية الشخصية و ترسيخها, تمهيدا فيما يبدو لمسلسل مشابه العام القادم, لم يقدم بسام كوسا في دور الإيدعشري أي إضافة بل شاهدنا الإيدعشري نفسه تلبس بسام كوسا و سيره كما يريد في "صفنات" طويلة و تظرات شاردة نادمة بدون أن تعطي دلالات مهمه , فكان الورق المكتوب سيد الموقف و سيد المشهد , فلم يكن على بسام كوسا إلا أن يلبس معطفة المهترىء و يسلم نفسه لعامل المكياج يشوه له عينه اليمنى ثم يقف أمام الكاميرا مادا بصره الى آخر الأستوديو ,كما لم يعط بسام للإيدعشري شيئا كذلك لم يعط الإيدعشري شيئا لبسام, و أنا أنصحة نصيحة محب أن يبتعد عن مثل هذه الأدوار مادام حيا,عباس النوري بدور أبو عصام العطار, مازال يجرش تحت أسنانه ذكريات محمود الفوال في أيام شامية و كان هذا الدور دور حياته الذي لن يتكرر,وقف أمام الكاميرا و هو يعتقد أنه مازال المعلم عمر , و هو قادر أن يقوم بكل مهمات عمر بواسطة حقيبة "المطهر" التي يحملها , عباس النوري ممثل موحد الأداء يمثل بنفس الطريقة سواء كان المعلم عمر أو أبو عصام العطار,سامر المصري بالغ في دور "العقيد" و حمله الكثير في تطرف لهجته الشامية و حركات يده المتحدية , و كان مظهره كاف بكل الإيحاء المطلوب زاد سامر الجرعة قليلا علما بأنه أكثر الممثيلن تميزا في هذا المسلسل,عبد الرحمن آل رشي لم يكن زعيما و هذا خطأ فني رهيب فهو كان نصف قديس, ظهر جانبة الطيب البسيط و اللين أكثر من جانبه القاسي الذي أقتصر ظهوره على المراجل التي أظهرها أمام أم لطفية ,و فيما تعدى ذلك كان شخصا عاديا تبجيله الزائد غير مبرر و خاصة بعد أن تبين أنه "خروق" بإنهياره بعد سماع خبر وفاة أبنه ,تداع هذه الشخصية يتحمل مسؤليتها النص وحيدا فيما أنقذت نبره صوت أل رشي المميزه بعضا منها.بقية الشخصيات كانت تسند عمل هؤلاء و تساعدهم على أداء البطولة ,و إلقاء بعض النكات بين مشهد جاد و آخر.لن أتكلم عن الأدوار النسائية في باب الحارة لأنها كانت فضيحة مدوية , مع الإشادة بصباح جزائري لأدائها المتميز, و هنا أيضا كانت النساء ضحية الكاتب و قد جعل جميع نسوة المسلسل إمرأة واحدة لا غير بطبع واحد لا يتغير أن كانت طفلة أو مراهقة أو إمرأة كاملة .
لم يعكس باب الحارة خبرة المخرج بسام الملا في التمرس على أعمال من هذه النوعية ,و بدلا من ذلك يقدم سنويا أعمالا بخط بياني هابط لم يتوقف عن النزول منذ أن بدأ في مسلسلة المميز ايام شامية ,و أعتقفد أن التفكير بالتسويق كان الهم الأول للمخرج ,فلم يظهر الكرم الإنتاجي بوضوح على موجودات الأستوديو , كومة البطيخ في دكان الخضرجي كانت حاضرة طوال حلقات المسلسل و كأن الوقت صيف دائم , و نسيان أشياء دقيقة مهمة ضيعت بعض المشاهد المهمة , مثل مشاهد الحلاق الذي يحلق لزبائنه دون أن نرى شعره واحدة على الأرض أو على أكتاف الزبون,و في مشهدين متلاحقين تبين أن هناك ضعف إخراجي و مونتاجي معا , في المشهد الأول الإيدعشري بذقن طويلة مهملة و بيضاء مستدعى الى قسم الشرطة , و في المشهد الذي يليه مباشرة رئيس المخفر يحقق مع الإيدعشري بذقن حليقة ناعمة .تفصيلات كهذه تسلب من العمل الفني صدقيته لأنها تعكس عدم صرامة القائمين على الإنتاج فيستهين المشاهد بدورة و لا يأخذ المسلسل على محمل الجد .
باب الحارة مسلسل "ملفق" أعتمد على النجاح المضمون لمسلسل "يسخر" تراث الحارة الدمشقسة لصالحة , و أراد إستغلال نجاح المخرج في تمرير مسلسلات من ذات النمط في سنوات سابقة ,فخرجت هذه التوليفة المشكلة , و التي حرص فيها الكاتبان و المخرج و المنتجون , على وضع كل مكونات الخلطة "الهندية" , دراما , ميلودراما , كوميديا, مكائد حريم , و نهاية مفتوحة لأجزاء ثانية و ثالثة...و ربما رابعة و كله على سنة الله و رسوله.
|